صحيفة المثقف

التاريخ المتحول والتاريخ المتراكم في العراق الحديث (1) / علي السعدي

بل ان التاريخ ذاته ابتدأ من العراق حيث يقسم الوجود البشري الى ماقبل التاريخ ومابعده، حيث أعتبر ان التاريخ يبدأ من مرحلة ظهور الكتابة وتدوين الأحداث والوقائع، وهي مرحلة سبقت ميلاد المسيح بأكثر من أربعة الاف سنة حين ظهرالتدوين الأول في بلاد مابين النهرين .

لذا يبدو القول بفارق منهجي بين الماضي والتاريخ، يحمل التباساً لابد من جهد بحثي لتبيانه وإسناده (راجع : جذور الوحدة والإنقسام في العراق – جدلية الماضي والتاريخ - ص164-170)

لكن هذا المدخل يتجنب الخوض في المفهوم الوارد ذكره، لنعتمد على ماهو سائد من مفهوم التاريخ – على إلتباسه – لنركز من ثم على تاريخ العراق الحديث منذ بواكير القرن العشرين حتى بواكير القرن الواحد والعشرين، وذلك في أهم مفاصله وتحولاته لنستخلص بالنتيجة ملامح المرحلة الجديدة التي ابتدأت في التاسع من نيسان 2003، حيث حدث تغيير جذري في الواقع السياسي العراقي على مستوى نظام الحكم، إذ دخل العراق لأول مرة عبر تاريخه الحديث المنبثق منذ 1921وتأسيس الدولة العراقية، الى مرحلة جديدة حيث السلطة تستمد شرعيتها من الاقتراع المباشر لمجلس نواب منتخب يمنح ثقته لحكومة تمارس صلاحيتها وفقاً لدستور تم التصويت عليه من قبل الناخبين العراقيين .

لكن مالجديد في ذلك؟ وهل من فارق جوهري بين المراحل السابقة بتحولاتها المختلفة وبين ماحصل بعد 2003؟

طيلة المراحل السابقة منذ التأسيس، كان تاريخ العراق الحديث في وضع يمكن ان يطلق عليه (التاريخ المتحول)، اذ حدثت فيه مجموعة من الانعطافات الكبرى كانت نتائجها انها حولتّ مساراته العامة وأدخلت العراق في مآزق تاريخية تركت بصماتها الواضحه على جسده أرضاً وانساناً .

حدث التحول الأكبر بعد عام 1918، تاريخ الدخول البريطاني الى بغداد ووضع العراق تحت الوصاية البريطانية (2) ومن ثم انتقاله من الاحتلال العثماني ونظام الولايات الثلاث، الى الاستعمار المباشر برعاية مندوب بريطاني سمي بالمندوب السامي الذي عين لإدارة شؤون أرض وشعب من دون كيان سياسي محدد .

التحول الثاني كان بعد اندلاع الثورة العراقية الكبرى عام 1920 التي عجّلت بالدفع نحو إقامة كيانية عراقية خاصة وبالتالي ملامح دولة ناجزة انتدبت ملكاً وتشكلت حكومة مؤقتة مهدت في مرحلة انتقالية الى انشاء أو استكمال بقية مقومات الدولة من جيش ومجلس للنواب صوت على دستور دائم بعد ذلك بأربع سنوات (القانون الأساسي لعام 1925) الذي وضع صلاحيات الملك وواجبات الحكومة وطبيعة الحكم وحقوق الشعب – الخ .

استمر التاريخ يتخذ مساراً ثابتاً نسبياً رغم ما تخلله من احداث لم تشكل تحولات كبرى، كان من اهمهما : انقلاب بكر صدقي – ثورة رشيد عالي الكيلاني – حركة العقداء الأربعة – الإنتفاضات الفلاحية - حرب فسلطين -، ثم جاء التغيير العاصف فجر الرابع من تموز 1958الذي قام به مجموعة من ضباط الجيش أدى الى تحول العراق من النظام المالكي الى النظام الجمهوري، ومن الحكم المدني الى الحكم العسكري،وقد شارك في التحول المذكور تياران رئيسان : اليساريون والقوميون العرب وقد شهدت تلك الفترة اضطرابات شديدة انتهت بتحول آخر عاصف بدوره تمثل في انقلاب شباط 1963 حيث حسم فيه الصارع لصالح جناحي التيار القومي العربي (البعث – حركة القوميين العرب) .

ثم جاء التحول الآخر حين تغلب القوميون العرب بتشجيع من جمال عبد الناصر، على حزب البعث طوال حكم العارفين الذي تقاسماه على مرحلتين : عبد السلام عارف 1963- 1965 ثم عبد الرحمن عارف – 1965 – 1968.

في 17 تموز 1968، حدث تحول آخر كبير انبثق على إثرها نظام الحزب الواحد الذي استمر حتى عام 1979، ليشهد التاريخ العراقي تحولاً آخر انتقل الحكم فيها الى قائد اوحد، وقد استمر هذا التحول في العمل حتى 9نيسان 2003.

هنا ظهرت امكانية رسم مسارات أخرى للتاريخ العراقي تختلف عما سبقها جذريا يمكن من خلالها اطلاق صفة جديدة على تاريخ جديد : التاريخ المتراكم، وهي المرة الأولى التي يمكن ان يغير التاريخ ليس مساره نحو التحول وحسب، بل ان يقطع مما سبقه ليشكل تاريخا جديداً لاعلاقة مباشرة له بالتحولات السابقة التي شهدها العراق .

لكن كيف يمكن اعطاء مصداق منهجي لتوصيف كهذا؟ وماهي المرتكزات الموضوعية التي ينبغي تقديمها على هذا الصعيد؟

سمات مشتركة جمعت بين التحولات السابقة والمسار العام للتاريخ العراقي الحديث، فالاحتلال البريطاني الغى نظام الولايات وجعل من العراق مملكة موحدة بحدود سياسية معترف بها، كذلك أنشأ جيشاً وضعت له مهمة الدفاع عن الأرض العراقية حسب الجغرافيا السياسية الجديدة ونظام الحكم القائم، كذلك أدخل نوعاً من المشاركة الشعبية - وان محدودة الدور والتأثير- عن طريق شخصيات وطنية انيط بها المشاركة في إبداء الرأي حول شكل الحكم الذي يرتضونه، لكن الشعب في كلّ ذلك بقي مغيباً ولم ينتدب من ينوب عنه في تقرير مصيره .

مشاركة الشعب ليست قضية شكلية في بناء الدول، فهي تؤسس ثقافة وتنتج فكراً سياسياً يكون له دور محوري في تراكم حضاري نوعي يساهم في ارتقاء الكثير من القيم وأنماط الحياة، إذ يقيم علاقة تبادلية بين دولة مُنظمِة ومجمتع حيوي يضع الأساسات لتطور شامل على كافة الصعد (راجع : حزام النار – الفصل الثاني : مفهوم الدولة في الفكر السياسي العراقي –ص73– للمؤلف) .

لسنا في المجال البحث عن الأسباب والحيثيات التاريخية التي أدت الى إبعاد الشعب العراقي عن المشاركة المباشرة في صنع واقعه، لكن الخلاصة ان مصائر عامة الناس كانت تقرر بعيداً عنهم، وكانت من نتائج ذلك ان الفواصل بين السلطة والمجتمع كانت تزداد اتساعاً ما جعل التاريخ العراقي يسلك طريقا بيانيا متعرجاً يسحق في تعرجاته امكانيات التطور، إضافة الى فقدان الأمن والإستقرار المجتمعي الذي كانت حركة التحولات صعوداً وهبوطاً تنعكس عليه بشكل مباشر جاعلة إياه يدور في دوامة تلك التحولات المتسارعة التي لايستطيع المجتمع التدخل لضبط ايقاعاتها .

البيان الآخر كان طبيعة الطبقة السياسية، إذ كانت بمعظمها تنتمي الى ضباط سابقين في الجيش العثماني تربوا على نمطين من الممارسة : تلقي الأوامرالمباشرة أو إصدارها، وهي تراتبية منسقة على وتيرة لاتسمح بإجتهادات وابداعات يتطلبها العمل في بناء دولة ناشئة لشعب مركب، ورغم ان اولئك الضباط شاركوا في قيام احزاب سياسية، الا ان تلك الاحزاب كانت امتداداً أو نسخة عن أحزاب أخرى قائمة في بلدان المنطقة، ما أدى بنتيجته الى ان محاولات بلورة فكر سياسي عراقي، لم يكتب لها النجاح فبقيت السياسية هلامية تعتمد على فكر هلامي ضبابي لم يجد فارقاً بين مفهوم وطني لأمة تتشكل، وبين أمة تفككت لتنشأ على انقاضها أمم أخرى تحمل كلّ منها مواصفات خاصة، وهكذا ألقت الأفكار والممارسات القديمة بظلالها على اوضاع يفترض انها من نوع جديد .

في ذلك العهد الذي استمر مايقرب من أربعة عقود،تواصل فيه البناء فوقياً من دون قاعدة يستند عليها في ضمان استمراره وتطوره، بل كان ذلك البناء متذبذباً بدوره وليس تراكمياً، ما سهل استئصاله بالكامل والانتقال من ثم الى بناءات جديدة حاولت ان تجد لها قاعدة شعبية، الا انها نقلت المجتمع الى نوع آخر من الصراع ليس بين أركان السلطة وحسب، بل الى الشارع حيث تطاحنت قواعد الأحزاب السياسية فيما بينها الأمر الذي أوجد مناخات ملائمة لزج عامة الناس في صراعات على السلطة لاعلاقة لهم بها ولم يشاركوا في منحها مشروعية الحكم الذي استند الى القوة العسكرية وحدها، وهكذا تحولت العلاقة بين السلطة وعامة الناس، من عشائرية آمرة في العهد الملكي، الى استخدامية جائرة في العهد الجمهوري، ثم الى تسلطية مطلقة في عهد البعث وصدام حسين .

لقد حملت كل مرحلة في تلك التحولات، مفردات المرحلة التي سبقت في جانبها الإجهاضي السلبي، لكنها ألغت منجزاتها الإيجابية، فقد ألغى العهد الجمهوري مواد الدستور الدائم واكتفي بدساتير مؤقتة، وألغى مجلس النواب ليستعيض عنه بمجلس قيادة الثورة، كذلك ألغى مبدأ التداول السلمي للسطة التنفيذية، ليدخل بديلها مبدأ الاستيلاء على السلطة بالقوة، وألغى تعدد الأحزاب ليصل الى مرحلة الحزب الواحد، وهكذا كانت التحولات انتكاسية لا تطويرية انتجت تراكماً عكسياً، فقد تراكم القمع ليصبح قاعدة، وتراكم التآمر ليصبح سلوكية سائدة، وتراكم الإلغاء ليصبح ثقافة، لكن في كلّ ذلك بقيت السمة الغالبة التي طبعت التاريخ العراقي الحديث تسير وفق معادلة : سلطة متملكة – مجتمع مملوك.

لقد كان الملك يتمتع بسلطات مطلقة لاتضعه امام المساءلة من أيما مؤسسة في الدولة،وقد إنتقلت هذه السمة للحاكم في العهد الجمهوري وبشكل اكثر تركيزا ً، وهكذا حافظت التحولات على شكليتها العامة ولم تحدث تغيرات جوهرية لا على مستوى المؤسسة الحاكمة، ولا في طبيعة علاقتها بالشعب .

يتبع ------

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1481 الاحد 08/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم