صحيفة المثقف

المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. عبد الرضا علي (2)

س16- وفاء عبد الرزاق: تقول إن نص محمد عفيفي مطر نص لا يعطيك نفسه بسهولة وعلى القارئ أن يبدأ مع  النص من الداخل قبل أن يلتفت إلى خارجه. كيف؟

ج16-  يكتنف نصوص محمّد عفيفي مطر الغموض المقصود فلسفيّاً، فهي لا تعطي نفسها للقارئ مباشرةً، لكونها ليست سهلةً على القارىء العادي الذي يفهم نصوص نزار قبّاني وأحمد مطر وسعاد الصباح وغيرهم من أصحاب النصوص الواضحة التي ينطبق عليها إلى حدٍّ ما قولة (السهل الممتنع) وإنّما هي من التي تحتاج إلى سبر غور أعماقها، للوقوف على ما أرادت الذات الشاعرة تحقيقه في وعيها، ولا وعيها النفسي، فالشكل الخارجي الذي يركّز على النسيج اللغوي المتكوّن من المفردة والفقرة والجملة، وصلتها بغيرها لتكوين البناء العام لا يفيد القارئ الجاد لكشف خفايا النص، ومعرفة دلالاته، لهذا فدراسة الشكل دراسة خارجيّة وإن أضيفَ إليها الإيقاع، لا تحقّق للمتلقي هدفه المنشود في الوقوف على أسراره السحيقة.ولا غروَ إذا ما قلنا إنّ نصوص عفيفي تترك لقارئها الذكي الجاد الذي يكدّ الذهن تنظيمها بوصفها ليست ابنة نموذج أبٍ محدّد،  فهي عصيّة بامتياز.

س17– وفاء عبد الرزاق: ماذا تقول عن النصوص المغرقة في محليتها غير المحملة بهم إنساني كوني،  أو إعطاء المحلي الخاص شمولية مُطلقة؟

ج17- المحلّي الغارق في محلّيتهِ هو كالذاتي الغارق في ذاتيته،  لا يحقق تلاقحاً مع الآخر، أمّا إذا كان المحلّي أو الذاتي فيه شيء يُعبرُ عن العام فانه يحقق خصوصية متميزة، ويرتقي بالأدب إلى مستوى إنساني جمعي منشود،  محاولة لجعل ما هو محلي عالميا ً.

س18- وفاء عبد الرزاق: قرأت كثيرا من نقودك وأجد أغلبها يصب في موسيقى الشعر وإيقاعه،  لكني أحب أن أعرف قراءاتك الجمالية للنص،  خارطته الإبداعية وليست التشريحية،،   أين ومتى حدث هذا،   ومع أي نص؟

ج18- إذا لم تكن قراءاتي النقديّة للنصوص المفردة المنشورة على المواقع الإلكترونيّة قد وقفت على خارطتها الإبداعيّة الجماليّة على النحو الذي تقتنعين بها، فيمكن أن تقفي عليها في كتابي(الأسطورة في شعر السيّاب)ط1،   1978م، وط2،  1984م،  وبعض مقالات كتابي (أوراق في تلقّي النص  الإبداعي ونقده) المطبوع في سنة 2006م، أمّا قولك من أنك وجدتِ أغلبها يصبّ في موسيقى الشعر فهذا غير صحيح، فدراستي لإيقاع النصوص تجيء مكمّلة لقراءتي النقديّة لفلسفة النصوص، وتقنياتها الفنيّة، تحقيقاً للمنطلق النظري القائل: إنَّ الشكل والمضمون وجهان لعملة واحدة.

س19 – وفاء عبد الرزاق: قصيدة النثر... أين أنت منها؟ نقدا ؟

ج19- قصيدة النثر قصيدة منفلتة من عقال التقنين، لهذا كتبها المجيدون المتمكّنون القابضون على جمرتِها، وكلّ من هبّ ودب من الطارئين عليها من الذين لا يمتلكون أيّة معرفة بقوانين الإيقاع وتطوّره مرحليّاً، لكنّهم والحقُّ يُقال يجيدون رصف الجمل، وإيراد الصور المتناقضة، وإطالة الحشو، والإطناب الممل في حشد الرموز، والمصطلحات، والإصرار على كره كلّ ما يمتَ ُ إلى عمود المرزوقي بحجّة التطوّر والتجديد ورفض العقم القديم، فاختلطَ الحابل بالنابل، وأصبح من يعيب على بعض استخدامات الطارئين الفجّة المترهلة متّهماً بالتخلّف، والرجعيّة، ونصرة القديم المحنّط.

وفي معظم قراءاتي النقديّة ميّزتُ بين القابضين على جمرتها والطارئين عليها، وكنتُ أميلُ إلى تسميتها بـ(النص المفتوح)،  ولعلّ ما ذكرته عنها في دراستي الموسومة بـ " مخالفة السائد في شعر جواد الحطّاب " حريّ بالإعادة، فقد قلتُ : " فهذا المصطلح مازال قلقاً في دائرة النقد الأكاديمي، وإنْ سلّمَ به المؤمنون بحتميّة التطوّرالشكلي للأساليب الإبداعيّة على استحياء مردّه أنَّ الكثير مما سمي بقصائد النثر قد أزرت بالدعوة، وقادتها إلى النكوص لا إلى التطوّر مرحليّاً، وكانت وبالاً على روادها

المجيدين،  فقد أقدم كلّ من هبّ ودبّ من غير الموهوبين،  أو الملهمين على كتابتِها ظنّاً منهم أنّها مجرّد نثر مرصوف ليس غيرا،   ناهيك عن أنَّ بعضهم خلوٌ من أيّ اكتسابٍ معرفيّ يحصّنُ الاستعداد، ويكمّل الفطرة، فضلاً عن جهلهم بموسيقى الشعر، وأوزانه، وإيقاعاته الداخليّة.

وإذا كان حسين مردان (1927- 1972م) أسبق شعراء العراق ارتهاناً بهذا الأسلوب، والدعوة إليه ضمنيّاً، فإنّه لم يجرؤْ على تسمية ما كان ينشره بـ"قصائد نثر " إنّما أسماها بـ" من النثر المركّز"،  وقد ابتدأ كتابة نثره المركّز منذ بداية الخمسينيّات، وحتى وفاته في أكتوبر سنة 1972م، ونشر نثره المركّز ذاك في خمسة كتب تسلسلها كالآتي :1- صور مرعبة (1951)،  2- عزيزتي فلانة(1952) 3- الربيع والجوع(1953)،  4- نشيد الإنشاد(1955)،  5- هلاهل نحو الشمس  (1959)،  فضلاً عن غيرها ممّا نشره في ألف باء،  ولمّا يجمعها كتاب، بداءةً بـ (العودة إلى هي)،  وانتهاءً بـ(بين الصمت والصوت)،  ولم يعدّه شعراً على الرغم مما فيه من عناصر الشعر، وذكر أنَّ " السبب الحقيقي  الذي دفعني إلى كتابة هذا النوع من النثر...اكتشافي أنَّ الوزن يحدّ ُمن إظهار الحيويّة النفسيّة،  ونقل العالم الباطني بصورة دقيقة ".

إذاً.فحسين مردان صاحب القصائد العموديّة الطوال:(اللحن الأسود1950) و(رجل الضباب1950)، والمجاميع الشعريّة التي هزّت الوسط  الثقافي:(قصائدعارية1949)،   و(الأرجوحة هادئة الحبال 1958) و(أغصان الحديد1961)، و(طرازخاص1967)، وساقته إلى المحاكم لجرأته في بعضها،  لم يكن جاهلاً بموسيقى الشعروأوزانه،  إنّما وجدها تقيّده في بعض ما يريد من تعبيرٍ وبوح، فالتجأ إلى بوتقة النثرالمركّز تخلّصاً من تلك القيود، وهذه إشارة وخز مقصودة توجّه إلى أؤلئك الجهلاء بالإيقاع العربي الذين استغفلوا أنصاف المثقفين من المشرفين على بعض الصفحات الثقافيّة، ومرّروا عليهم نصوصهم الفجّة.

وإذا كان بعض الشعراء الشباب قد أشاعوا  قصيدة النثر في العراق في منتصف ثمانينيّات القرن الماضي، فإنّ شيوعها لم يأتِ على نحوٍ مفاجئ، إنّما كان بتأثير مجلّة"شعر" البيروتيّة والقائمين عليها مدّةً ليست بالقصيرة، وكان أدونيس على رأس مطلقي مصطلحها، والداعين إلى تبنّيها، فضلاً عن إسهامات محمّد الماغوط(1934- 2006)، وأنسي الحاج، لاسيّما في مجموعتيه : (لن1934)، و(الرسولة بشعرها الطويل 1975).

لكنّ النقلة الكبرى قد تمّتْ فعليّاً حين تمَّ نشر كتاب سوزان بيرنار"قصيدة النثر من بودلير إلى أيّامنا" فقد أضحى مرجعهم الذي منه يستقون، وبه يستشهدون ".

س20 – وفاء عبد الرزاق: قدمت دراسة  رائعة في  موسيقى الشعر الشعبي  في  موقع مركز النور. وطلبت منك أنا شخصيا أن تستمر لأن الشعر الشعبي العراقي بحاجة إلى أمثالك بعد أن تجاهله كثيرون  ولم يأخذ حقه في الدراسة أسوة بغيره من الإبداع.. لماذا هذا الفتور أو عدم الرغبة في الاستمرار؟

ج20- سأحاول أن أطردَ هذا الفتور، وأستجيب لطلبكِ الرصين  في دراسة بعض القصائد الشعبيّة التي هزّتني ولم يلتفت إليها أحد، وكما نقول لأحبابنا بالعاميّة البغداديّة (تأمرين أمر.)

س21- وفاء عبد الرزاق: سؤال غريب بعض الشيء، مَن يشبهك،  أو أنت تشبه مَن؟

ج21-  لا أشبه أحداً، لكنّني بعض غرس أستاذي العلّامة الدكتور عليّ جواد الطاهر شيخ النقّاد العراقيين ومعلّمهم، فقد علّمني منهج البحث الأدبي، وشروط الباحث الجيّد في التقيّد بالموضوعيّة والحيدة والأمانة العلميّة، ونظافة الأنامل والقلم والقلب، وظلّ يتابعني ويحثّني على مواصلة الجدّة والجودة في الكتابة والبحث وصولاً إلى الحقيقة وإذاعتها بين الناس، فرحم الله شيخي الطاهر، وجعل مثواه الجنّة، وأثابه عنّي أفضل الثواب.

س22 – وفاء عبد الرزاق: السفر مع الإبداع والمبدعين متعب جدا،،   أقربهم إليك جرأة وإنسانية ومغامرة في البحث عن المستعصي؟

ج22- ما زلتُ بانتظار من يصطحبني للبحث عن المستعصي، فقد خضتُ السباحة وحدي، وأسريتُ عبر الليل رغبةً في الحصولِ على حريّة القول والفكر والتعبير، لكنّني لم أحقّق رضا داخلي الحالم، ولعلّ قول البريكان  قد ترجم حيرتي مثلما ترجم حيرته:

لم أدرِ ماذا كان...لكنّني

وجدتُني أطوي طريقَ الوجودْ

في وحدةٍ يعصفُ إعصارُها

بروحيَ النازِفِ  تحتَ القيود ْ

س23- وفاء عبد الرزاق: أين المرأة الناقدة ؟ عددهن قليل في عالمنا العربي والعراقي خاصة،   ما السبب ؟

ج23- فارسات النقد كما تفضّلت قليلات، لكنّ دورهنّ في هذا المضمار قمينٌ بالإشادة، والتكريم، لاسيّما نازك الملائكة، وسلمى الخضراء الجيّوسي،   ويمنى العيد وغيرهنَّ.

وثمة مقومات لابد من توافر واحد منها في الأقل فيمن تصح تسميتها بالناقدة كما نظن،  ومنها:

أ‌-    أن تكون إسهاماتها في هذا الحقل على درجة من الابتكار بحيث تكشف موقفا جديداً، أو تؤصل انجازاً يستفيد منه المبدعون بعد حين.

ب‌-  أْن تمتلك مؤهلات مميزة من استعداد فطري،  واكتساب ثقافي غني،  ووعي نقدي،  ومعيار منهجي في التقويم.

ت‌-  أن تتمتع بالموضوعيّة،  والأمانة،  والحيدة العلمية،  ويكون هدفها الوصول إلى الحقيقة وإذاعتها بين الناس .وقد أشرتُ إلى تلك المقوّمات في كتابي (نازك الملائكة الناقدة)  ص9 – 10.

وقد قرأتُ مقالاتٍ نقديّةً حصيفةً لواعدات في هذا الحقل في بعض المواقع الإلكترونية دلت على قدرات في التفسير والتحليل والتقويم، ممّا يبشر بخير قادم.

س24- وفاء عبد الرزاق: سؤال شخصي جدا.. دور المرأة في حياتك؟ أية امرأة ما زال د عبد الرضا يحلم أن ينال رضاها؟

ج24- التي تتحمّلني.

س25- وفاء عبد الرزاق: شكري لحضرتك  لا يقدر بثمن كونك تحملت أسئلتي،  لكن بقي  سؤال يدور في ذهني منذ أن عرفتك أول مرة في لندن وتركته إلى ألأخير. أراك صارما  ووديعاً.. صارم في إدارتك الأمسيات الثقافية،   ووديع في التعامل مع الجميع..هاتان الصفتان هما حقيقيتان،   أيهما لا  تفتعلها؟

ج25- قد يكون لانخفاض السكّري المفاجئ أحياناً دورٌ في انفعالي السريع،  لكنّني لا أفتعلُ الصرامة أو الوداعة في تعاملي الإنساني،  ولعلّ مَن زاملني في العمل، وتشرّفتُ بصحبته صديقاً،  أقدرُ على توصيفي.

لكِ منّي فائق الاحترام والمحبّة على هذا الحوار يا وفاء الإبداع،  فقد كنتِ محاورة ذكيّة،  وشجاعة،  وصريحة.

...............................

ملاحظة: يمكنكم توجيه الاسئلة للمحاور عن طريق اميل المثقف

[email protected]

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم ا. د. عبد الرضا علي من: 17 / 8 / 2010)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم