صحيفة المثقف

المثقف في حوار مفتوح مع ا. د. عبد الرضا علي (5)

 

يحيى السماوي: شاعر وكاتب / استراليا: كثيرا ً ما وقفتُ موقف المتشكك من حكاية الرجل الطائيّ مع النعمان بن المنذر ... كنت أحسبها ضربا من ضروب المبالغة المفرطة (ومن طبيعتي أنني أنبذ المبالغة المفرطة وأعتبرها ثرثرة فارغة تصدر عن ثرثارين ليس إلآ ـ وبسبب طبيعتي هذه قلت يوما لطلابي في درس الأدب، إن بيتي عمرو بن كلثوم التغلبي:

 

ملأنا البرّ حتى ضاق عنا

وماء البحر نملؤه سفينا

 

إذا بلغ الفطام لنا صبي

تخرّ له الجبابر خاشعينا

 

هما أسخف بيتين قالهما صاحب المعلقة هذه ـ فكل عشيرته ومعها ماتملك من إبل وخراف وحمير وبغال وخيول وماعز وروث وبعر لاتكفي لملء مفازة من مفازات صحراء نجد ... وأما سفن عشيرته فأشكّ في أن تملك عشيرته ولو ستة زوارق صغيرة من زوارق صيد سمك الزوري فكيف بالسفن التي ملأت البحر؟ وأما عن أطفال عشيرته الذين قال عنهم إن الجبابرة يخشعون لهم لمجرد بلوغهم الفطام فمحض هذيان وهراء وكذب مفضوح بدليل أن عمرو بن كلثوم ذاته ـ وهو شيخ مشايخ بني تغلب ـ كان ثمة شيوخ عشائر قد تطاولوا عليه رغم شيبه وكبر سنه ووقاره فكيف إذن يخرّ الجبابرة خشوعا لأي طفل من عشيرته إذا بلغ الفطام ؟ هذان البيتان سخيفان لأنهما يناقضان الحقيقة الفنية والحقيقة التاريخية معا ـ بل ويناقضان المنطق والمعقول ـ والذي يناقض كل هذا هو معتوه أو أحمق) ...

لعل بعض الأحبة القراء سيسأل مع نفسه: ما هي تفاصيل حكاية الطائي مع الملك النعمان والتي أوردها يحيى السماوي في مداخلته هذه ؟

سأقصّها بإيجاز: ؟

النعمان كان قد جعل له يومين، يوم بؤس، من صادفه فيه قتله وأرداه.. ويوم نعيم من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه .. وكان رجل يدعى الطائي قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره، فأخرجته الفاقة من محل استقراره ليرتاد شيئاً لصبيته وصغاره، فبينما هو كذلك إذ صادفه النعمان في يوم بؤسه، فلما رآه الطائي علم أنه مقتول، وأن دمه مطلوب، فقال حيّا الله الملك إن لي صبية صغاراً، وأهلاً جياعاً، وقد أرقتُ ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم، وقد أقدمني سوء الحظ على الملك في هذا اليوم العبوس، وقد قربت من مقر الصبية والأهل وهم على شفا تلفٍ من الطوى ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أول النهار وآخره، فإن رأي الملك أن يأذن لي في أن أوصل إليهم هذا القوت، وأوصي بهم أهل المروءة من الحي، لئلا يهلكوا ضياعاً، ثم أعود إلى الملك وأسلم نفسي لنفاذ أمره .

فلما سمع النعمان صورة مقاله، وفهم حقيقة حاله، ورأى تلهفه على ضياع أطفاله،

رقّ له ورثي لحاله، غير أنه قال له: لا آذن لك حتى يضمنك رجل معنا، فإن لم ترجع قتلناه ... وكان شريك بن عدي ابن شرحبيل نديم النعمان معه، فالتفت الطائي إلى شريك وقال له:

 

يا شريك بن عدي ٍ ما من الموت انهزامْ

مَنْ لأطفال ٍ ضعاف ٍ عدموا طعم الطعامْ

بين جوع ٍ وانتظار ٍ وافتقار ٍ وسقامْ

يا أخا كل كريم ٍ أنت من قوم ٍ كرامْ

يا أخا النعمان جد لي بضمان ٍ والتزامْ

ولك الله بأني راجعٌ قبل الظلامْ

 

فقال شريك بن عدي لما سمع قول الطائي: أصلح الله الملك، عليّ ضمانه .. فأطلق النعمان سراح الطائي بعد أن كفله شريك ..

هبّ الطائي مسرعاً نحو بيته .. وصار النعمان يقول لشريك: إنَّ صدر النهار قد ولى، ولم يرجع فاعلم أنني سأقتلك بدلا منه إنْ لم يعد آخر اليوم .. وشريك يقول للملك: ليس للملك عليّ سبيل حتى يأتي المساء .. فلما قرب المساء قال النعمان لشريك: قد جاء وقتك، قم فتأهب للقتل بدلا من مكفولك .. فقال شريك ـ وكان قد تهيّأ للموت قتلا بدل الطائي: هذا شخص قد لاح مقبلاً، وأرجو أن يكون الطائي، فإن لم يكن أنفِذ بي وعدك بقتلي ... إمتثل النعمان وأجّل إنفاذ القتل ريثما يتبيّن الرجل القادم من بعيد ..

قال فبينما هم كذلك، وإذا بالطائي قد اشتد عدوه في سيره مسرعاً حتى وصل هو يقول: خشيت أن ينقضي النهار قبل وصولي فأسرعت بركضي ... ثم وقف قائماً وقال أيها الملك مر بأمرك في قتلي .. . فأطرق النعمان، ثم رفع رأسه وقال: والله ما رأيت أعجب منكما .. أما أنت يا طائي فما تركت لأحد في الوفاء مقاماً يقول فيه، ولا ذكراً يفتخر به .. وأما أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء، فلا أكون الأمَ الثلاثة، ألا وإني قد رفعت يوم بؤسي عن الناس، ونقضت عادتي كرامة ً لوفاء الطائي، وكرم شريك، فقال الطائي:

 

ولقد دعتني للخلاف عشيرتي

فعددت قولهمو من الأضلال ِ

 

إني امرؤ مني الوفاء سجية ٌ

وفعال كل مهذب مفضال ِ

 

فقال له النعمان: ما حملك على الوفاء، وفيه إتلاف نفسك ؟ فقال الطائي: لقد حملني ديني .. فمن لا وفاء فيه لا دين له.

**

 

لكن المفارقة أنني صدّقت حكاية الطائي على رغم كراهتي للمبالغة المفرطة ... وأما سبب تصديقي لها فهو موقف لك من مواقف وفائك، عرفته من أصدقاء ثقاة وتناقله أكثر من شاهد صدق .. هذا الموقف كان يمكن أن يقودك نحو أقرب مشنقة يا شيخي وأخي وصديقي الحميم فاسمح لي أن أوجزه للأحبة القراء قبل أن أسألك بعض الأسئلة:

 

عام 1982 اختطف بضعة من جلّادي أمن نظام صدام حسين زميلك وصديقك الدكتور " مزاحم أحمد البلداوي " من قاعة الدرس ... وبقي مجهول المصير نحو أربع سنوات لتفاجأ أسرته بعد ذلك أنه حيّ يرزق لكنه مطمور في معتقل من معتقلاته، ونجحت زوجه في مقابلته .. وبسبب ماعاناه من تعذيب فقد تعرّض إلى مشكلة صحية في القلب أوجب على إدارة المعتقل نقله إلى مستشفىً خاص بأمراض القلب ـ لعله كان مشفى ابن النفيس كما ذكر ذلك الشهود ومنهم الدكتور سعيد الزبيدي ـ ... فكان أن قمت أنت بمغامرة خرافية يمكن أن تقودك إلى حبل مشنقة حين تظاهرت بكونك طبيب اختصاص بأمراض القلب فدخلت عليه المشفى وهو بحراسة رجل أمن ... فحصته وتظاهرت بقراءة ملفه الطبي (الأمر حتى الان ـ رغم خطورته عليك ـ يمكن تصديقه لإمكانية حدوثه) لكن ما يصعب تصديقه هو أن تنجح بعد أيام في نقله إلى بيته ولأكثر من مرّة، فتخرج به ليلا ـ بعدما نجحتما في كسب ثقة شرطي الأمن الذي يذهب ليسكر بعد تركه برفقة الطبيب المختص بأمراض القلب ـ الذي هو أنت ـ فتخرج به إلى بيته ليرى أطفاله وزوجه ومن ثم يعود إلى المشفى فجرا ..

أسئلتي هي:

س52: يحيى السماوي: عرفتك في الجامعة رقيقا حدّ الدهشة يمكن أن تستمطر دمعك رؤية طفل حافي القدمين ... فكيف امتلكت هذا القلب الجسور فتدخل مذئبة النظام متسلحا بمنديل الصداقة وأنت تعلم أن اكتشاف أمرك يمكن أن يقودك إلى التهلكة ؟

 

س53: يحيى السماوي: هل حدث لك أن التقيت ابن الدكتور مزاحم البلداوي والذي كان الحصاد المبارك لغراس الفضيلة الذي ماكان سيتمّ لولا زيارة الدكتور الفاضل إلى بيته في غفلة من الحارس ؟

س54: يحيى السماوي: هل أمليتَ ـ وقتذاك ـ وصيّتك الأخيرة على سيدتي الأخت الجليلة " أم رافد " حين عزمت على تعريض نفسك للتهلكة ؟

 

س55: يحيى السماوي: هل مازلت محتقظا بحقيبة " السمسونايت " التي كنت تدخل بها المشفى لمعالجة مريضك ؟

 

ثمة سؤال أوجهه لنفسي: لماذ يخلو زمننا هذا من أمثال ذلك الرجل الطائي وشًريك وأمثال صديقي وأخي وشيخي أ . د . عبد الرضا علي ـ إلآ ما ندر ـ مع أن في عصرنا هذا أكثر من " الملك النعمان " ؟

 

ليتك تقص لمحبيك الحكاية كاملة ليعرف الأحبة القراء أن ثمة حقائق لها شكل الأساطير .

 

شكرا لك ليس لأنك صديقي وأخي وشيخي وليس لأنك جعلتني أصدق حكاية الرجل الطائي مع النعمان فحسب، إنما: ولأنك عبد الرضا علي وكفى

أخوك: يحيى السماوي

 

ج: د. عبد الرضا علي: شاعري وصديقي العزيز وسيّدي يحيى السماوي، سأختصرُ القصّة قدر الإمكان كي لا أثقل عليكَ وعلى القرّاء الكرام، فهي تصلح لأن تكون رواية مثيرة كما أخبرتني تلميذتي الروائيّة إيمان محمّد، وتعهّدت بكتابتها بعد أن يمنّ اللهُ عليها بالشفاء وتستعيد قوّتها بعد العمليّة الجراحيّة التي أجرتها.

لقد أشرتُ في إحدى الحلقات التي وسمتُها بـ (صور من ذاكرة الخوف) إلى قصّة خطف جهاز المخابرات لصديقي وزميلي مزاحم أحمد البلداوي من قاعة الدرس في جامعة الموصل، لكنّني لم أشر فيها إلى ما تسألُ عنه يا أبا الشيماء، لذلك سأستعين ببعض ما ورد في تلك الحلقة لجعل السرد واضحاً لا لبس فيه، من غير إيجازٍ قد يؤدّي إلى لبس في السياق فقد قلت: " في خضم أجواء التشكيك بالناس، وأثناء امتحانات نصف السنة للعام الجامعي 1982م، في جامعة الموصل اختفى الأستاذ مُزاحم أحمد عبد البلداوي من قاعته الإمتحانيّة التي كان فيها، واختفت سيّارته من رحبة السيّارات على نحو ٍ مفاجئ .

ولمّا كنّا (البلداوي، وسعيد الزبيدي، وكاتب هذه الصور) مدعوّين عند رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور محمّد مجيد السعيد في مساء اليوم نفسه، فقد بادرتُ بعرض أمر اختفاء زميلنا عليه، وأشهدُ أنّ الرجل لبثَ قلقاً لدقائق، ثمّ بادر بالاتصال بمدير أمن نينوى سائلاً إن كان للأمن شأنٌ بالأمر، فسأله المدير عمن نقل إليه الخبر، فردّ رئيس الجامعة عليه ذاكراً اسمينا ( أنا والزبيدي) فأنكر المدير صلة جهازه الأمني بذلك .

ولعلّ من الإنصاف أن أذكر هنا أنّ الدكتور محمّد مجيد السعيد كان أفضل رئيس عرفته جامعة الموصل في حياتها العلميّة، فقد أحبّ الثقافة، والمثقفين، وقربهم منه، وأخذ بالكثير من اقتراحاتهم، لكنّ المنظمة الحزبيّة كانت لا ترغب بأمثاله، ولعلّ موقفه الجريء في رفض معاقبة بعض طلبة جامعة صدام للعلوم الإسلامية (يوم كان رئيساً لها) من الذين اتهمهم عدي صدام حسين بالتطرّف الدينيّ خير دليل على نزاهته. فقد كانت العقوبة تتضمن جلد الطلاب علناً، فرأى فيها إهانةً للجامعة، والعلم، وحقوق الإنسان، فتحمّل ما تحمّل من إهانات (لأستاذ) عديّ.

وحال خروجنا من بيت رئيس الجامعة تذكّرنا أنّ زميلنا البلداوي كان قد أخبرنا أنّ ابن عمته، أو ابن خالته محمّد صادق يعمل مساعداً لمدير أمن نينوى، فقرّرنا زيارته في الليلة ذاتها، فطرقنا بابه، وحين خرج لمعرفة من نكون، أخبرناه بالأمر، فارتبكَ الرجل، وكان يحملُ منشفة في يده، فوضعها على كتفه قائلاً: " حسناً..اذهبا، وسأتحقّقُ من الأمر غداً، وسأتصلُ بأهله " لكنه لم يتحقق من الأمر، ولم يتصل بأهل مزاحم قريبه، فانظر ما فعله نظام الطاغية في الناس من خوفٍ ورعب.

استطاع الدكتور طارق الجنابي رئيس قسم اللغة العربيّة (الوفي الذي كان يحمينا دائماً من مخاطرهم) أن يتوصل إلى معرفة حقيقة الاختفاء التي تلخصت في أنّ رجالاً من الأمن اصطحبوا معهم كنانة (؟)معاون العميد، وطلبوا منه إخراج الأستاذ مزاحم من القاعة الامتحانيّة التي كان يراقبُ فيها باختلاق أيّ عذر ٍإداريّ.

وحين تمّ لهم ذلك اقتادوه معهم بعد أن أخذوا منه حقيبته الخاصّة (السمسونايت) التي وضع فيها إجابات طلبة المرحلة الثانية من قسم اللغة الانجليزيّة، كما اخذوا منه مفاتيح سيارته، وأركبوه إحدى سيّاراتهم المظلّلة السريعة، وانطلقوا به .

إذا ً هو مختطف !، والخاطفون رجال الأمن، فلماذا يُنكرون؟!، ثمّ لماذا أخذوا سيارته، وأخفوها هي الأخرى؟ ! ..إنّ مثل هذا الأمر لم يحدث حتى في حكم أعتى المستبدين النازيين أو الاستالينيين !، لكنه يحدث في حكم المنظمة السريّة التي يحلم أزلام النظام السابق هذه الأيام أن يعيدوه، ولكن هيهات.

ومرّت الأيام ثقالاً، والأشهر عصيبة ً، و السنوات الأربع عجافا ًدون أي خبر عنه، وظنّ الجميع أنّه انتهى في أقبية الأمن حين رأينا سيّارة موظف يعمل في تربية نينوى تحملُ رقم سيّارته المختطفة .

وبعد مضيّ أربع سنوات على الاختطاف اتصل العاملون بالجهاز الأمني بزوجته، وأخبروها بإمكانية زيارة زوجها في سجن أبي غريب في موعد حدّدوه لها، وحين زارته في السجن وجدته مصاباً بذبحة صدريّة أدخلوه بسببها إلى إحدى المشافي، كما وجدته مصاباً بالأكزمة في أكثر، من موضع في جسمه، أما لماذا اختطفوه كلّ هذه المدّة، وأذاقوه كلّ ذلك العذاب الجسدي، والنفسي، وحكموا عليه بالسجن لسبع سنوات، ومصادرة أمواله المنقولة، وغير المنقولة، فإنّ تفاهة التهمة التي وُجّهت له تجعلنا غير راغبين بذكرها احتراماً لوقت القارئ الكريم." وحين تدهورت صحّته أمر طبيب السجن بنقله إلى مشفى متخصّص في أمراض القلب على وجه السرعة، فتمّ نقله إلى مستشفى على مقربةٍ من إتحاد الأدباء والكتاب في العراق، لعلّ اسمها (إبن النفيس) وبعد أن استعاد بعضاً من صحته اتّصل بزوجته أم أحمد، وحين زارته وجدت حارساً يرافقه، وسلسلةً حديديّة قد تمّ ربطها به وبالسرير الذي كان ينام عليه، لكنّ أبا أحمد بكرمه المعروف استطاع أن يروّض الحارس الذي كان مدمناً على شرب الخمر، بإغداق المكافآت اليوميّة السخيّة عليه، ممّا جعل الحارس يحرّره من سلسلة الحديد، ويتركها تحتَ سريره، ويذهب لاحتساء (القزلقرط، أو الزقنبوت) على حد مصطلحك كلّما قبض المكافأة، وحين اطمأنّ الحارسُ إلى أنّ الضحيّة أستاذ جامعيّ مريض لا يقوى على الهرب، بدأ يغادر المشفى مساء، ويعودُ إليه صباحاً بعد أن يكون بحاجة إلى (كسر اخماريّة) وفقاً لمصطلحات المدمنين.

وفي أعصر أحد الأيام هاتفتني السيدة أم أحمد، وروت لي ما كنتُ بحاجةٍ إلى سماعه، فاتفقتُ معها على أن تذهب إلى المشفى صباح اليوم التالي، وتنتظرني في مدخله، وحين تراني عليها ألا تحدثني، إنّما تسير أمامي وتقف في باب الردهة التي يرقد فيها كي لا أخطىء الطريق، على أن تعلمه مبكراً أنّني سأنتحلُ صفة طبيب خاص جاء لعيادته، وأنّه لم يكن يعرفني سابقاً. وعند ظهيرة اليوم التالي أوقفتُ سيّارتي قرب باب المستشفى، وحملتُ حقيبتي (السمسونايت) وأسرعتُ بالدخول، فمشت أم أحمد أمامي إلى حيث المصعد، ودخلناه سويّة مع الداخلين، وحين نزلت أم أحمد كنتُ خلفها، فوقفتْ عند باب إحدى الردهات ولم تدخلها، بينما دلفتُ أنا إلى داخلها بكلّ رباطة جأش، وبعد أن ألقيتُ التحيّة على المرضى، وكانوا بين 7 إلى 9 أشخاص قلتُ مبتسماً: منو مزاحم أحمد البلداوي؟

فأجابني: نعم دكتور!

عندها بدأتُ فصول السيناريو الذي أعددته مع أم أحمد على الهاتف، فكلمته سائلاً عن تاريخ المرض، ثمّ قمتُ بقراءة (طبلة) المريض المعلّقة على سريره، وتفحّصت أدويته الموضوعة على الخزانة الحديديّة قرب رأسه، وفتحتُ حقيبة السمسونايت وأخرجتُ منه سماعة الفحص، لكنّني ارتبكتُ عند وضعها في رقبتي فبادرني بسرعةٍ قائلاً: دكتور أكو حبوب كالولي أخليها تحت الساني كلما أحس صدري يتعب، لكن ما جابولي منها إلّا القليل، واخاف تخلص؟ فقلتُ له: ستزودك المستشفى بها، ولكن لا تستخدمها إلّا عند الضرورة، وحين هممتُ بالخروج ناداني مريض قائلاً: دكتور مروتك! تعال شوفني، فاعتذرتُ بلباقة من أنّني كلفتُ بمعاينة هذا المريض حصراً، ثمّ ودعتُ مريضي، وخرجتُ، فخرج لتوديعي صديقي مزاحم البلداوي متظاهراً أنه يريد أن يسألني بعض الأسئلة، وعند باب الردهة قلتُ له: متى يتركك حارسك ليلاً؟ فقال:الساعة الثامنة، فقلتُ له: في الساعة الثامنة والنصف سأوقف سيّارتي في باب المستشفى، فعليك أن تكون جاهزاً للصعود إليها، فإن حدث ما يمنع ذلك فسأنتظرك إلى التاسعة، وعندها سأغادر، وعسى الله أن يسهل لك الأمر.

وبعد خروجي من المشفى هرعتُ إلي بيت أختي أم فاضل فهاتفتُ صديقي العزيز د.سعيد الزبيدي، وطلبتُ منه أن يصعد حالاً إلى بغداد من المحاويل (محافظة بابل) وما هي إلّا ساعات حتّى كان أبو رواء معي، وقبل الساعة الثامنة والنصف كان أبو أحمد قد صعد إلى السيّارة، فسلكنا به الطريق السريع المؤدّي إلى سامراء تلافياً لنقاط التفتيش لأنّ أبا أحمد لايحمل أيّة هويّة تعريفيّة، ومن إحدى مقتربات جسر المثنى استدرنا متجهين إلى حيث الشقة التي كانت أم أحمد قد استأجرتها، فوجدنا الباب مفتوحا ً، وقبل نزوله اتّفقنا أن يكون جاهزاً في الخامسة من صباح الغد قرب باب الشقة، وهكذا كررنا السيناريو لثلاث مرّات فقط.

وحين اجتمعنا بعد ما يقارب من عشر سنوات في صنعاء كنّا نضحك على فعلتنا، لكنّ سعيداً الزبيدي كان يسألني مستنكراً بلهجته الشعبيّة المحبّبة: إذا جان عاجبك تنعدم آني ليش تزجني ويّاك؟؟؟ فكنتُ أجيبه: لعد قابل أنعدم وحدي؟ غير الصديق يشارك صديقه بالإعدام ! فنضحكُ مرّةً أخرى.

وإليكَ أجوبتي على ما طرحتّ أيها الوفيّ:

 

ج 52: مازلتُ يا سيّدي كما وصفتني والله، أبكي عند مشاهدتي ما يحدثُ ُ من ترويع للعراقيين كلّ يوم، ولا يكاد يمرّ يومٌ دون أن يتكدّر صدري، أو تمتلئ المآقي بالدموع،، لكنّني لم أستطع أن أرفض ما طلبه مني صديقي هامساً وهو يودّعني في باب الردهة: (أريد أشوف الجهال)، عندها اتخذتُ قراري، وحددتُ الوقت له ولأم أحمد التي كانت من أشجع النساء اللواتي عرفتهنّ ميادين الجهاد.

 

ج 53- نعم يا سيّدي مراراً، لاسيّما حين هيّأتُ لوالده فرصة عمل في اليمن في محافظة صعدة، وفي صنعاء بعد أن تفضّل شاعر اليمن ورمزها الثقافي الدكتور عبد العزيز المقالح بنقله إلى الكليّة التي أعملُ فيها، علماً أنّ للدكتور مُزاحم ستة ً من الأبناء كلهم من الذكور، وفي آخر زيارة لي إلى بغداد طلبتُ من أخي إبي زينب (أركان ثامر) أن يتصل بأم أحمد ويخبرها برغبتي في رؤيتها مع بعض أولادها، وما هي إلّا ساعات وإذا بهم عندي في الفندق، فاحتفلتُ برؤيتهم، وشاركني الاحتفال أصدقائي الدكتور أكرم كسّار رئيس الجامعة، والدكتور محمّد سعيد الطريحي، وأبو زينب، وكان الذي تسأل عنه (فرقد) بينهم وقد أصبح شاباً كرمح أنكيدو.

 

ج 54 – لم تخطر الوصيّة ببالي، كما أنّني لم أخبر زوجتي أو أخي، أو أخواتي بقراري، فلم يكن يعلم بالقرار غير د. سعيد الزبيدي الذي رافقني في تلك المغامرة بمحبّة وشجاعة نادرتين، ولعلّك لا تعلم كم كانت سعادتنا في اليوم التالي، ممّا شجعنا على التمادي بالمغامرة، لأنّ الحارس الشخصي كان قد وقع في حبائل المال والمشروب، وكان يتمنى أن يظلّ البلداوي في المستشفى أطول مدّة، ويبدو أنه كان مسلكيّاً مدمناً بإفراط.

 

ج 55 – للأسف لم أحتفظ بها، فقد أهديتها في صنعاء، ولم أدرك أهمية تاريخها سوى الآن، أي بعد أن سألتني أنتَ عنها، فقد نسيتُ دورها، ولم أتذكره لولا تنبيهك يا صديقي العزيز.

 

رحم الله الدكتور مزاحم أحمد البلداويّ الذي لم يستطع دفع تكاليف عمليّة القلب المفتوح،

فغادرنا إلى الرفيق الأعلى بعد أن تعرّض لذبحةٍ صدريّةٍ حادّةٍ في صنعاء لم تمهله طويلاً، وكان

يحلمُ بمشاهدة أعضاء المنظّمة السريّة وهم يولّون الأدبار.

 

...........................

خاص بالمثقف

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم ا. د. عبد الرضا علي من: 17 / 8 / 2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم