صحيفة المثقف

تفسير سورة فاتحة الكتاب: الاستعاذة / عبد الله المالكي

والحق الذي يبينه القرآن الكريم يثبت أن للشيطان مصاديقاً خارجية تتمثل في الجن والإنس، وهذه الحقيقة لا يمكن حملها على المجاز، وإن كان الأخير قد أخذ النصيب الأكبر من الاطلاقات التوسعية التي ترد إلى الواقع المتأصل في النفس البشرية، ولو لم تكن هذه الحقيقة ظاهرة لما كان للنفس أن تعترف بهذا الخفاء الذي يجعلها تعيش الواقع بغض النظر عن التجرد الذي تترتب على مفهومه عدة مصاديق تحمل في جوانبها مقررات الأبعاد الثنائية الملقاة على عاتق الجن والإنس. ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم***طلعها كأنه رؤوس الشياطين) الصافات 64-65. علماً أن التشبيه لا يمكن أن يصدق إلا على الأشياء الملموسة أو المتعارف عليها، وهذا ظاهر في وجود الملائكة الذي لا يختلف فيه العلماء، بل هو من المسلمات، ولهذا قابل القرآن الكريم حقيقة الشياطين بحقيقة الملائكة في قوله تعالى: (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم) يوسف 31.

 

وبما مر يظهر أن الشيطان حقيقة واقعية لها مصاديق لا تتعدى إلى غير الجن والإنس، وقد بين الله تعالى ما يدل على ذلك في قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) الأنعام 112. وكذا قوله: (من الجنة والناس) الناس 6. أما ما أشار إليه في ذكر شياطين الإنس دون الجن فقد تجده في قوله تعالى: (وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون) البقرة 14. ولهذا فإن المصداق الأكبر للشيطان قد تمثل في إبليس الذي هو من سنخ الجن، كما بين تعالى ذلك بقوله: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف 50.

 

فإن قيل: ما هو التلازم بين فسق إبليس وبين الجن علماً أن القرآن الكريم قد بين أن في الجن بعضاً من الصالحين كما في قوله تعالى: (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً) الجن 11. وكذا قوله: (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً) الجن 14. وقوله تعالى: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) الأحقاف 31. أقول: لم ينسبه تعالى للجن لأنه فسق عن أمر ربه وإنما نسبه لهم لأنهم أصحاب اختيار كما هو الحال في الإنس، وبهذا تظهر النكتة في هذه النسبة.

 

مباحث الاستعاذة:

المبحث الأول: الاستعاذة من الشيطان عند القراءة تجمع في بيانها كل الطرق المؤدية إلى الوسوسة التي تخالج النفس البشرية سواء كان مصدرها شياطين الجن أو الإنس، ولهذا قال تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) النحل 98. أي عند البدء في القراءة يجب أن يكون الإنسان قد تجرد عن جميع أنواع الوسوسة التي تحول بينه وبين استحضار مادة القراءة ولا يراد من الأمر لفظ الاستعاذة وهذا ظاهر في قوله: (فاستعذ) ولو كان المراد اللفظ لقال: (فقل أعوذ) ويشهد لهذا قوله تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) الأعراف 201.

 

المبحث الثاني: معنى الاستعاذة: التحصن في ركن قوي لدفع مكروه، ومنها لغة أخرى هي (اللوذ) واللفظ الثاني قريب من الأول إلا أن دفع المكروه لا يتحقق فيه وإنما يستعمل لطلب محبوب، وقد جمع الشاعر الأمرين في قوله:

يا من ألوذ به فيما أؤمله......ومن أعوذ به مما أحاذره

وقال آخر:

يا من ألوذ به فيما أؤمله......ومن استجير به من كل مكروه

 

المبحث الثالث: اختلف أهل البصرة والكوفة في اشتقاق الشيطان لغة، فذهب أهل الكوفة إلى أن اشتقاقه من (شاط) أي كالشيء الذي يشيط في النار لأنه مخلوق منها، وقال أهل البصرة إنه مشتق من (شطن) أي إذا بعد باعتبار أنه مبعد عن رحمة الله تعالى، ورجح سيبويه المدرسة البصرية، وحجته أن العرب تقول (تشيطن) لكل من يحمل الصفات الشيطانية، قال ولو صح الأول لقالوا تشيط. فإن قيل: يظهر من آية سورة النحل آنفة الذكر أن الاستعاذة تأتي بعد القراءة، فكيف الجمع في ذلك؟ أقول: عند تقارب الأفعال يحق لك التقديم والتأخير وهذا شائع في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق) هود 71. وكما هو ظاهر فإن البشرى لا يمكن أن تتأخر عن الضحك. وكذا قوله: (ثم دنا فتدلى) النجم 8. وقوله تعالى: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون) الأعراف 4. وأنت خبير بأن الهلاك لا يمكن أن يتقدم على مجيء البأس.

 

من كتابنا: القادم على غير مثال

عبدالله بدر اسكندر المالكي 

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1495 الثلاثاء 24/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم