صحيفة المثقف

"مرايا العابرات" لجمانة حدّاد .. جبهات القتال ـ أوركسترا الموت / شوقي مسلماني

أنت الحدباء تعوي في الكاتدرائيّة وتعضّ ظلالها على الجدران". وأيضاً! "هل القدر ذريعة يتحجّج بها الله عندما يخطئ"؟. وهي ثلاثة ملامح لأصل واحد هو المجموعة الشعريّة ذاتها، أمّا الحواري فهنّ شاعرات من إثني عشر بلداً يستضفن الشاعرة حدّاد إلى حيواتهنّ حيث جبهات القتال ـ أوركسترا الموت في أعتى ذرواتها، كأنّما اختصاراً لعبث مجرم، لا نهاية له بعدُ، لِهَوَجِه وهيجانه وعنفه ودمويّته. والشاعرات جميعاً، ولا رعديدة واحدة فيهن،ّ يقرِّرن عن سابق تصميم وتصوّر أن يصنعن مصيرهن: "إشتهاءً أشتهيك أيّها الموت، يا نور الهداية الأعمى، يا مَنْ تحرث نومي كلّ ليل" ـ "سقفٌ ينشّ في بيت جديد" (الدنيا) ـ "قجّة بلا فتحة" (الدنيا) ـ "الميْت! ... فقط ينسى كلّ صباح أن يفتح عينيه" و"المرآة كثيراً تقول ولا تقول إلاّ عين الحقيقة، فتقول أن الميت لا يعرف أن يخاف، ولا يخاف أن يموت، وأن الميت ينتظر، وأن الموت ليس ذهاباً وإنّما عودة، وأنّه ينهض ليعلّم الموت ...". وهل أصدق ممّن كلّه عين فقط؟ فالخلل في المنشأ ولا يزال، والخلل همجيّة لا تزال ـ أنانيّة ـ جشع ـ دمويّة. إثنتا عشرة شاعرة يستضفن الشاعرة حدّاد، فتنزل حيواتهنّ بكلّ ثقافة بليغة وبكلّ مواهب الحلول، فهي هنّ وهنّ هي، فيها من الشعر الكثير ومن الرواية الكثير ومن المسرح الكثير ومن الفلسفة الكثير، وتعود من لظى الغياب "بإثنتي عشرة طريقة مختلفة: "حبوب منوِّمة، إطلاق نار، غرَق، شنْق، غاز، تحت عجلات قطار، قفْز من شاهق، سمّ، مخدّرات، قطْعُ شرايين الرسغ، حريق وكهرباء". تعود بلظى الحضور "العنيف، الصادم، الشرس ..." تعود قابضة بمرايا العابرات.

**

 

"يفتح الجنين عينيه في عتمة الرحم ويبتسم، يعرف أنّه مستقبل الجثّة". و"اسمعنني أيّتها الراثيات: \ الميت لم يمت، حقّاً لا يموت \ هو فقط ينسى، كلّ صباح، أن يفتح عينيه. \ الميْت نائم .. هدْهِدْنَه بالصلوات والتهويدات والأهازيج \ الميت نائم .. اطردْن عنه جنيّات الليل الحزين والقطط السود". و"مثل بابٍ موقَّت ينغلق النعش  ويخفت فيه تدريجاً صوت الجثّة". فكثيرة هي حقيقة الإشارات الأولى إنّما النتيجة هي الحقيقة المطلقة وبينها خيالٌ جامح غالباً. ولذلك، فلماذا مرايا العابرات في المنام، وهي تقول ذروة شاعراتها ـ ذروة الشكّ ـ ذروة المغامرة ـ ذروة المستحيل ـ ذروة الشاعرة جمانة حدّاد، لماذا لا تقول السخرية المرّة أيضاً؟ ألا متسّع للعيون غير أن ترى فقط؟. تهجّوا لعبة الموت: "... أن أتدثّر في اليوم التالي بكفن حريري، أن أدفئ قدمي بجوربين أبيضين (حذار أن تنسوا الجوربين)، أن أتمدّد في تابوت خشبي مزركش (ليكن ملوّناً .. لطالما أحببتُ الخشب الملوّن)، أن أطوي ذراعي على صدري (أو ربّما لا، فأنا هكذا لا أشبهني)، أن أقفل باب نعشي على مهلٍ، أن أشتم الحانوتي لصرير في باب النعش، أن أعاود الخروج، أن أذهب إلى المطبخ وأجلب قطّارة الزيت، أن أزيِّت مفاصل الغطاء، أن أعيد القطّارة إلى مكانها على الرفّ الثاني من الخزانة  العليا .. جهةَ الشمال، أن أتمدّد من جديد وأغلق الباب، أن أرتجف قليلاً في العتمة، أن تعتاد عيني العتمةَ .. والعتمة عيني، أن أحمل التابوت على كتفي، أن أمشي في موكبي، أن أشعل الأنوار في الشارع لدى مروري إكراماً لذكراي، أن أحضر مراسم جنازتي، أن أتثاءب خلال المراسم وأتأفّف لطولها، أن أبكي حالي من جديد، أن أترحّم، أن أتوجّه إلى المقبرة، أن أوقظ المعول الناعس، أن أحفر حفرةً في الأرض، أن أحفر أشدّ وأعمق، أن بالحبال أُنزل التابوت إلى تحت، أن أرمي الزهور عليه (أفضّل أزهار التوليب الصفر)، أن أهيل التراب، أن أدفنني جيِّداً، أن أردم الحفرة وأسوّي الأرض، أن أعيّن قبري بطوبةٍ رخاميّة نقشتُ عليها إسمي وجملةً من آخر (أوّل؟) قصيدة، أن أضع الأكاليل على ضريحي (أكرِّر: أفضِّل أزهار التوليب الصفر). وبعدُ: "... جارنا الحانوتي وعدني بحسم خاصّ على التابوت الأبيض الذي يعجبني (أقف لأتأمّله كلّ يوم في الواجهة الزجاج متمنيةً ألاّ يشتريه أحد قبل أن أجمع ثمنه الباهظ). أجل، وتستطيع أن تقول عينَ: "صداعي المعقوف"!.

**

 

عالياً يسطع نجم الشاعرة جمانة حدّاد، وكثيرة هي العيون التي تشخص إليه، وعلى نحو مفاجئ للوهلة الأولى، ولكن ما أسرع أن يكشف عن أصالته، بعد أسئلةٍ، من دون شكّ، الشاعرة حدّاد ذاتها تحرّض عليها، فهي صانعتها في المآل الأخير. هل هو اشتغالها على المختلف والمكهرِب في آنٍ معاً سرُّ انتشارِها في زمن قصير نسبيّاً يمتدّ من مجموعتها الشعريّة الأولى: "دعوة إلى عشاء سرّي" الصادرة سنة 1998 عن دار النهار للنشر .. إلى المجموعة الثانية: "يدان إلى هاوية" الصادرة سنة 2000 عن الدار ذاتها .. إلى مجموعة: "لمسات الظلّ" الصادرة سنة 2002 عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، وهي ترجمة لشعر إيمانويل ميناردو عن الأصل الإيطالي .. إلى مجموعة: "لم أرتكب ما يكفي" الصادرة سنة 2003 عن دار كاف نون، وهي مختارات شعريّة .. إلى رواية: "بيروت عندما كانت مجنونة" الصادرة سنة 2003 عن دار النهار للنشر، وهي لأنطونيو فيراري، ومترجَمة عن الأصل ألإيطالي .. إلى: "عودة ليليت" الصادرة سنة 2004 عن دار النهار للنشر أيضاً وهي المجموعة الشعريّة التي ما ذُكِر إسم جمانة إلاّ ذُكِر إسم المجموعة .. وأعادت نشرها دار آفاق في عام 2007 .. إلى: "صحبة لصوص النار" الصادرة سنة 2006 في بيروت وعمّان تباعاً عن دار النهار ودار أزمنة .. إلى ثلاثة كتب في عام 2007: "النمرة المخبوءة عند مسقط الكتفين" ـ دار العربيّة للعلوم ومنشورات الإختلاف، وهو مختارات شعريّة ..  و"عادات سيّئة" ـ الهيئة العامّة لقصور الثقافة، وهو مختارات شعريّة أيضاً .. و"سيجيء الموت وستكون له عيناك: مئة وخمسون شاعراً وشاعرة انتحروا في القرن العشرين" .. بالإضافة إلى مؤلفات لها وعنها صدرت بأكثر من لغة حيّة منها الإسبانيّة والإنكليزيّة والألمانيّة والفرنسيّة والإيطاليّة .. وأخيراً وليس آخراً "مرايا العابرات في المنام" الصادر في كانون الثاني العام 2008 ومُهدى إلى "عقل" .. أي رحلة كتابيّة معلنة لا يتعدّى عمرها عشر سنوات: 1998 ـ 2008. هل سرّ سطوع نجم الشاعرة حدّاد هو حضورها الأنثوي المثقّف الذي يلمّ بسبع لغات ويجيد فنّ القلوب؟.

**

 

"لستُ أولَد لأولد، إنّما أنا فقط لأموت". و"كصندوقٍ موسيقي تتفتّح الرحم ويتصاعد منها تدريجياً صوت الجنين". و"أن أغمض عيني، أن أختنق نظرة خلف نافذة، أن أنازع، أن أحاول الهرب، أن لا أتمكّن من الإفلات، أن أوقف قلبي عن الخفقان، أن أفطن (مع أهل بيتي وأقاربي) لموتي، أن أبكي حالي مع أهل بيتي وأقاربي، أن أتفرّج على جثّتي مع المتفرّجين على جثّتي، أن أصلّي عليها مع المصلّين، أن أسبّح، أن أهلّل، أن أنوح بصوت عالٍ: لمن تتركين أهلك يا امرأة؟ لمن تتركين أبناءك والأحبّة؟". والتعاقب أبدي، إقرارٌ فسهْوٌ ثم بلا جدوى. وكلّما انبثقت الشاعرة في الأرض الخراب ورأت بعينيها ولمستْ بيديها أشهرتْ أخيراً سلاحها الأخير احتجاجاً مطلقاً ـ هي الفونسينا ستورني شاعرة أرجنتينيّة أغرقتْ ذاتها. كانت تحلم أن تسكن في البحر فتحقّق حلمها ـ وهي كارين بوي شاعرة أسوجيّة قطعتْ حياتها بجرعة زائدة من المخدّرات. كانت تشعر أنّها سمينة ولكن في آن لم تشأ أن تهزل ـ وهي آنا كريستينا سيزار شاعرة برازيليّة أطلقت النار على رأسِها. كانت أمّها تريدها مغنية فأبت ـ وهي توفا ديتلفسون شاعرة دانماركيّة ابتلعت الكثير من حبوب المنوِّم لئلاّ تستيقظ مرّة ثانية. كانت تعاني أرقاً مهلِكاً مستديماً، وكان العلاج ناجعاً ـ وهي مارينا تسفيتاييفا شاعرة روسيّة أحاطتْ بحبل عنقها الذي تغزّلوا به، وتدلّتْ ـ وهي فلوربيلا إسبانكا شاعرة برتغالية وهبتْ جسدَها لعجلات قطار. كانت تعشق قراءة الكتب في المكتبات العامّة. لم تقرأ رواية "آنا كارينينا" لتولستوي إلاّ بأسلوبها ـ وهي أميليا روسيللي شاعرة إيطاليّة كهربتْ نفسها في "بانيو" شقّتها. كانت تعشق البرق فعانقتْه ـ وهي سيلفيا بلاث شاعرة أميركيّة دفعتْ إليها الغازَ واستلقتْ على أرض مطبخها. كان زوجها الشاعر تيد هيوز يخونها مع آسيا فيفيل ويُنكِر، لكنْ عندما ماتت لم يعد يُنكِر ـ وهي دانييل كولوبير شاعرة فرنسيّة تجرّعت السمّ في غرفة فندق. لم تكن تحبّ أدب فلوبير أيّام الدراسة. ستتعلّم أن تحبّه ـ وهي إنغبورغ باخمان شاعرة نمساويّة أحرقتْ نفسها. كانت تهوى جمع الشموع من كلّ شكل ولون، وتجلس تتأمّلها ساعات تحترق في العتمة. أتراها كانت ترى نفسها؟ ـ وهي ريتيكا فازيراني شاعرة هنديّة قطّعتْ أوردة معصمها بسكّين مطبخ، وقبل ذلك نحرتْ ابنها البالغ من العمر سنتين. أتراها قتلتْه أم "أنقذتْه"؟ ـ وهي نيلغون مارمارا شاعرة تركيّة رمت نفسها من شرفة بيتها. كانت هوايتها المفضّلة وهي صغيرة قراءة القصص المصوّرة .. ثمّ صدّقتها وشخّصتها ـ وهي التي تحيي ذكرى ميتاتها ... بقصائد.

 

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1495 الثلاثاء 24/08/2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم