صحيفة المثقف

لفظ الجلالة.. الرحمن الرحيم / عبد الله المالكي

 وكذلك لا يحتاج إلى تمزيق الحجب أو الكشف عنها بواسطة علم الكلام أو الفلسفة مثلاً عندما نجعلها وسيطاً بين الأشياء الخافية وبين عللها التي تطغى وتظهر للعيان مبينة الحقائق في وجهها العرضي من ناحية وبين الكاشف لغوامضها من ناحية أخرى، مما يجعل العقول السليمة تدرك آثار المبحوث عنه دون كنه الذات المحيرة.

 

ولذا قيل: إن لفظ الجلالة (الله) قد اشتق من الوله وهو التحير وإن كان في الاشتقاق نوعاً من التسامح، ولهذا كان العدول إلى الارتفاع أقرب للباحث الذي يجد السير دون الوصول إلى كنه الحقيقة إلا بقدر ما يستدل عليه بواسطة الآثار المشاهدة، مما جعل البعض يظن أن اشتقاقه من أله: أي المكان المرتفع الذي تؤول إليه الأبعاد المعنوية للأشياء غير الظاهرة أو التي يصعب رؤيتها بالعين القاصرة إذا ما أردنا التنازل قليلاً عن ماهية هذه المعارف التي اختلف فيها العلماء كلاً حسب الطريقة التي يراها أقرب للوصول إلى كنه الأشياء دون العلمية التي لا يمكن تفريقها، وهذا الوجه هو المناسب الذي يدل على المعنى البسيط لـ (لفظ الجلالة) الذي لا يقبل التركيب والاختلافات غير المجدية التي اتخذت من الوله والارتفاع نتيجة مجانبة للصواب دون معرفة كنه الذات، التي يمكن اعتبارها اسماً جامعاَ لكل الصفات التي تتفرع على العلمية التي تحمل جميع صفات الكمال الإلهية المتفرعة إلى الجمال والجلال.

 

أما الأسماء الأخرى فهي تشير إلى جانب من جلال الله تعالى، كالرحيم، العليم، البصير، السلام، المؤمن، المهيمن وغيرها من الأسماء، ولذا نجد أن الحق تبارك وتعالى يجمع هذه الصفات تحت علمية الذات، كما في قوله: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) الحشر 23. وهذه الصفات لا يمكن أن تقوم مقام لفظ الجلالة الذي عرف به الحق جل شأنه، فقولنا لا إله إلا الرحيم لا يمكن أن يفي بالغرض المطلوب من كلمة التوحيد، فإن قيل: ما فائدة هذه الأسماء التي جعلت كالصفات منسوبة إلى الذات؟ أقول: لا يستطيع الإنسان أن يدرك كنه الذات وإن كان يأخذ أحد الوجوه المحتملة التي يضع لها الشواهد العاجزة عن الادراك، ولهذا فهو يعدل إلى ما يحاكي الفطرة التي فطر عليها أو ما يجده أمامه من مستلزمات مسيرته العامة، فبقدر معرفته للرحمة فإنه يلجأ إلى اسم الرحيم دون معرفة الرحمة الشاملة التي لا يمكن قياسها أو حصرها في اللسان الذي لا يستطيع الافصاح عن كنه تلك الصفات وإن شئت فقل لا يستطيع التعبير عن حقائقها التي جمعت في لفظ الجلالة.

 

من هنا يظهر أن قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون) الأعراف 180. يصور لنا هذه الحقيقة التي دأب الإنسان على التفاعل معها مما يجعله يختصر السبل المؤدية إلى معرفة الله تعالى، وإن كانت تلك المعرفة تقتضي الأخذ بأحد الوجوه اللازمة التي اعتاد الناس عليها، وبهذا نعلم أن لفظ الجلالة لا يمكن اعتباره وصفاً للأسماء الأخرى أما العكس فهو صحيح، وما يدل على علمية لفظ الجلالة هو الاستعمال الشائع قبيل نزول القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) الأنعام 136. وكذا قوله: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) الزخرف 87. وقريب منه: العنكبوت 61-63. لقمان 25.

 

قوله تعالى: الرحمن الرحيم: صفتان مشتقتان من الرحمة التي تعني إرادة الاحسان أو عين الاحسان ولا يمكن التوصل إلى معرفة حقيقة هذه الرحمة إلا من ناحية آثارها المشاهدة، ولا يخفى على ذي لب أن الرحمن أكثر مبالغة من الرحيم لما في فعلان من المبالغة التي تفوق الصيغة الثانية المتمثلة في فعيل، ومن هنا كان التفريق في نوعية التفسير بين الصفتين من حيث دلالتهما على مراد الله تعالى، أما إذا كان هناك أحد الأسماء الذي يخرج من القاعدة في اختلاف الصيغ فهذا لا يمكن أن يؤثر في بناء القاعدة كما هو الحال في حذر وحاذر.

 

أسباب تقديم الرحمن على الرحيم

 

أولاً: قدم الرحمن على الرحيم باعتبار أن الأول يتناول ما عظم من الأمور والثاني يتناول دقائقها.

 

ثانياً: إن الأول يتناول الرحمة العامة التي تشمل جميع الكائنات والموجودات، أما الثاني فهو خاص بالناس، ويشهد للأول قوله تعالى: (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً) الفرقان 59. ويشهد للرحيم قوله: (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم) الحج 65. وقريب منه: النحل 7-47. الحديد 9.

 

ثالثاً: استناداً إلى صيغة المبالغة فإن رحمن يلزم منه الدوام كغضبان، والرحيم بمعنى دائم الرحمة لأن صيغة فعيل تستعمل في الصفات الدائمة، بتعبير آخر يمكننا القول إن الرحمن صفة ذاتية تدل على المنشأ والأصالة أما الثانية فإنها تدل على وصول الرحمة إلى المنعم عليه.

 

رابعاً: الرحمن من الصفات الخاصة بالله تعالى دون أن تتعدى إلى غيره، أما الرحيم فيمكن أن تنسب إلى الله تعالى وإلى غيره، كما في قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 128. ولذا قيل: إن الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة. أقول: هذا ما يفهم من أصل الوضع إلا أن ما ذكر في متفرقات القرآن الكريم نجد فيه استثناءً أبعد من الجزء المقرر لمعاني الصفات التي تلحق اسماء الله تعالى، وأنت خبير بأن الرحمة التي خص بها الله تعالى المؤمنين في قوله: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً) الأحزاب 43. لا يراد منها إلا وضعاً خاصاً ولهذا فإن العموم الشامل قد إمتد إلى أكثر من هذا الوصف عندما أشارت الآيات الأخرى إلى عامة الناس والتي مرت عليك خلال البحث.

 

* من كتابنا: القادم على غير مثال

 

   عبد الله بدر اسكندر المالكي

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1507 الاحد 05/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم