صحيفة المثقف

أزمنة التحديث في ايران 1979 -1800 / عبد الجبار الرفاعي

والجمعيات، والمنتديات، ومراكز الأبحاث، والمؤسسات المدنية، والجامعات، والصحف والدوريات، مضافا الى الحوزات العلمية، وشبكة رجال الدين المنتشرين في المدن والقرى والأرياف، ممن لايغادرون المساجد والحسينيات، ويتخذون منها منابر للدعوة والارشاد الديني، واستثمار الطقوس والشعائر المستمرة لتعبئة الجماهير، ودمجها بالشأن العام.

كما ان للبازار دورا مميزا في الحياة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، والدينية، والبازار هو السوق التجارية العريقة والعملاقة، المتوطنة في طهران واصفهان ومشهد وتبريز وشيراز ويزد، وغيرها من المدن الكبيرة، وعادة مايتمدد البازار ويتكرس دوره في الاجتماع الايراني، مع تنامي الدخل وارتفاع المستوى المعاشي، وتطور المعاملات التجارية، وتداول الثروة، وحركة رؤوس الاموال.

ان هذه الورقة لاتزعم انها تستوعب كل ذلك، وانما تحاول مواكبة مسار التحديث، والاشارة الى أبرز محطاته ومراحله، واستخلاص أهم اتجاهاته وتياراته، والتعرف على شيء من قراءاته للنص والتراث، واكتشاف بعض مقارباته للواقع، والتوقف عند المقولات والمفاهيم والآراء السائدة لدى رموزه، خاصة مايتصل منها بتفسيراته للتمظهرات والتعبيرات والتجليات المتنوعة للدين في المجتمع. ذلك ان أية ظاهرة في الاجتماع الايراني تحيل الى الدين، وعادة ماتتخذ الجداليات والنقاشات والآراء المتضادة في تفسير ظاهرة معينة، أو تبريرها، من الدين مرجعية لها. وغالبا مايلوذ المتخاصمون بالأدلة والحجج اللاهوتية، والفتاوى الفقهية في شرعنة مواقفهم.

والشخصية الايرانية متدينة بطبيعتها، بمعنى انها شخصية باطنية، مركبة، طقوسية، مسكونة بالأسرار، تغرق بالتأمل، وتعشق التجارب الروحية، وتدمن الارتياض، وتتسم بالصبر والجلد، والمثابرة. وربما تعيش في حياتها العملية نمطا مدنيا حديثا، اي بعيدا عن المدونة الفقهية، لكنها في المجال الشخصي الخاص تنشد الزيارات، والمواجيد، والدعاء، ولاتكف عن طقوس عاشوراء، وتراجيديا مآتم كربلاء.

كل ذلك مهّد الأرضية لامتداد نفوذ رجال الدين في مختلف الميادين الاجتماعية، وأتاح للحوزة العلمية التوغل في حياة الناس، وتقاليدهم، وعاداتهم، وأعرافهم، وثقافتهم، وتفكيرهم، ومنحها مكانة استثنائية، جعلتها الذروة والمرجعية العليا في المجتمع.

 

بواكير التحديث

بعد سقوط الدولة الصفوية في العقد الثالث من القرن الثامن عشر الميلادي (في2 173)، ظهرت عدة حكومات محلية قبيل الحكومة القاجارية، ففي الفترة (1736-1747) حكم نادرشاه المعروف بقسوته وغلظته، والافشاريون في خراسان، وكريم خان زند في شيراز (1175-1779). ولم تتمكن هذه الدويلات من بسط سيطرتها على كافة الولايات الايرانية. ثم بدأت سيطرة آقا محمد خان (1779-1797) مؤسس المملكة القاجارية، على الولايات بالتدريج، والذي تلاه في الحكم أخوه فتح علي شاه (1797-1834). وكان ولي عهده عباس ميرزا (1788-1833) حاكما على اذربيجان، ومقيما في تبريز. وقاد الأخير الجيش الايراني في معاركه المريرة مع روسيا (1803-1827)، والتي انهزمت فيها ايران، واضطرت لتوقيع معاهدة كلستان (1813) بعد نهاية المعركة الأولى، ومعاهدة تركمان شاي (1827) بعد ختام الحرب والفراغ من المعركة الثانية. وأرهقت السلطنة القاجارية بمواثيق وشروط في المعاهدتين، لم تتخلص منها ايران إلا بعد ثورة اكتوبر في روسيا.

شكلت الهزيمة جرحا عميقا لدى الايرانيين، وحفزت ولي العهد وقائد الجيش عباس ميرزا، المعروف بنائب السلطنة، للتفكير بجدية بأسباب انحطاط ايران، والسبل الكفيلة للنهوض بالمجتمع، واصلاح حال الأمة، وساهم الموقع الجغرافي لتبريز، وارتباطها مع الدولة العثمانية، وروسيا واوروبا، عبر (خوي- ارضروم- طرابزون) و(ايروان- تفليس)، في تعرف عباس ميرزا والنخبة المصطفة من حوله، على الأساليب الجديدة في اعداد الجيوش الروسية والعثمانية، فاستعارها لبناء الجيش الايراني، وحاول ان يقتبس حتى نمط الملابس العسكرية للجنود والمراتب في جيشه، بالرغم من ردود الأفعال السلبية، ممن استهجنوا ارتداء المؤمنين لباس الكفار المماثل للجيوش الغير مسلمة. كما حرص على ابتعاث تلميذين الى فرنسا اولا، وبعد قطع العلاقات بين فرنسا وايران، بادر السفير البريطاني لقبولهما في لندن (1809-1810). وعاد حاجي بابا افشار الى ايران ليعمل طبيبا لعباس ميرزا، فيما توفي التلميذ الآخر محمد كاظم في لندن.

 وبعد ثلاث سنوات اُرسل الى لندن ايضا خمسة اشخاص، احدهم هو ميرزا صالح شيرازي، الذي مكث هناك ثلاث سنوات وتسعة اشهر، وكتب رحلته وانطباعاته عن الحياة الغربية، وسجل الكثير من التفاصيل والمفردات عن التقدم الاوروبي ونظام الحكم.

وكان تلميذ آخر من هذه المجموعة قد اقترن بفتاة انجليزية، ولعل هذا

أول زواج رسمي معروف بين رجل ايراني وامرأة اوروبية.(1) وتداولت السلطنة القاجارية وقتئذ مع محمد علي باشا لإرسال خمسين تلميذا الى مصر، ولم يتحقق ذلك في النهاية.

 أشاع المبتعثون العائدون الى ايران الأفكار والمعارف التي تعلموها في اوروبا، في البلاط وبين النخبة الحاكمة، وتحدثوا عن انطباعاتهم ودهشتهم من المعارف والتمدن الغربي، ووفر لهم ولي العهد فرصة مناسبة لإبداء آرائهم، يكتب احدهم في رسالة له الى زميلة انجليزية:(.... نحن في رعاية ولي عهدنا المحبوب عباس ميرزا، يسود بلدنا العزيز العلم والسلام والاستقرار والأمن....).(2)

والتمس عباس ميرزا مختلف السبل للإنفتاح على المعارف والفنون الاوروبية، فنشر في الصحافة الاوروبية بيانا سنة 1826) يتضمن دعوة لكل من يرغب من (الافرنج في السكن في اذربيجان وعاصمتها تبريز ... وبدلا من ان يذهب الاوروبيون الى افريقيا وقيرغيستان وداغستان، بوسعهم القدوم الى ايران، والعيش فيها، ليكتشف الايرانيون من خلالهم الحضارة الغربية).(3) وتكفلت الحكومة بحمايتهم، ومنحهم حرية دينية في ممارسة شعائرهم، واعفائهم من الضرائب.(4)

وكانت هذه المبادرات عرضة للنقد والتشكيك والسخرية، حتى وصف احد الكتاب حينذاك الطلاب المبعوثين الى اوروبا، متهكما بأنهم (ديوك رومية ايرانية).(5)

ومثلما اهتم عباس ميرزا بتحديث الجيش عمل كذلك على تأسيس مطبعة حجرية في تبريز، وتشجيع الترجمة الى الفارسية، واصلاح الادارة.

ودعم النزوع التحديثي لعباس ميرزا وزيره الميرزا ابو القاسم عيسى قائم مقام فراهاني (1779-1835) الذي حارب الفساد، وحاول تطهير البلاط الملكي، لكنه دفع حياته ثمنا لذلك، فقتل بأمر محمد شاه القاجاري.

وكادت شعلة التحديث ان تنطفئ بوفاة عباس ميرزا ومقتل الوزير قائم مقام فراهاني، لولا جهود الميرزا تقي خان أمير نظام المعروف بأمير كبير (1805أو1807-1851) الذي اصبح اول رئيس وزراء لناصر الدين شاه القاجاري، وكان امير كبير قد تعلم في تبريز في بلاط ولي العهد عباس ميرزا على يد مجموعة من الخبراء الاوروبيين، كما اطلع على الاصلاحات و"التنظيمات" الحديثة في اسطنبول، عندما اضحى سفيرا لايران في الدولة العثمانية، حيث مكث فيها لمدة اربع سنوات، في المدة التي كان فيها رشيد باشا، رائد الاصلاحات والتنظيمات العثمانية، هو الصدر الاعظم.(6)

وبعد ان تسلم امير كبير الوزارة لم يلبث في منصبه سوى ثلاثة اعوام، اصر فيها على الاصلاح الاداري والمالي في بلاط الشاه، فقد وضع سلما للرواتب، حدد فيها راتب الملك اولا، وانشأ مصحات عديدة، ودائرة للبريد، وتعاقد مع النمسا لاصلاح الجيش، واستورد السلاح من بريطانيا وروسيا، وحارب الفساد.

وأصدر ميرزا صالح شيرازي اول صحيفة في ايران سنة9183 بإسم "كاغد اخبار" وبعد اثنتى عشرة سنة اصدر امير كبير الجريدة الرسمية لايران" روزنامه رسمي ايران" والتي تحول اسمها الى "وقايع اتفاقيه" بعد مدة وجيزة، ثم امسى اسمها فيما بعد "روزنامه دولت عليه ايران" جريدة دولة ايران العلية، وظلت تدار هذه الصحف بواسطة فريق من الموظفين الكبار في الحكومة، وفي سنة 1863 اهتمت الصحيفة الأخيرة بترجمة المقالات العلمية، وباتت تصدر بالفارسية والعربية والفرنسية.(7)

يتلخص الانجاز الأهم لأمير كبير في تأسيس" دار الفنون" عام 1851، وهي أول مدرسة خارج اطار المدارس الدينية في ايران، وفكرتها مستقاة من" دار الفنون" في اسطنبول، التي أُنشئت قبلها بثلاثة اعوام. وتمحور التعليم فيها على: الطب والتشريح، والهندسة، واللغة الاجنبية، وجاء معظم اساتذتها من بلدان اخرى، مثل: فرنسا، والنمسا.....وغيرهما من البلدان الغربية. استوعبت المدرسة 114 تلميذا في مختلف مراحلها، واصل جماعة منهم تعليمهم العالي في اوروبا.

 وبمقتل امير كبير بعد افتتاح دارالفنون بثلاثة عشر يوما، غاب مؤسسها وأمست بلا رعاية، وتحولت الى تأهيل كبار الموظفين والعسكريين في الدولة، واقتصر القبول فيها على ترخيص وزير العلوم، وضاق هامش الحرية فيها، وانحسرت التقاليد الديموقراطية العلمية والتعليمية، التي ارساها امير كبير.(8)

تراجعت حركة التحديث بعد ان قضى امير كبير بأمر ناصر الدين شاه، الذي لم يتحمل مشاريعه ومساعيه الإصلاحية المتنوعة، بالرغم من انه كان يتمتع بمكانة مميزة عند ناصر الدين، باعتبار امير كبير تولى توجيه وارشاد وتعليم الأخير في فتوته.

ومنذ مطلع القرن التاسع عشر نلاحظ زيارات متعددة الى اوروبا، قام بها اشخاص، لم يكن هدفهم الدراسة والتعليم، كما كان يفعل التلامذة المبعوثون الى هناك. رحل هؤلاء الى مختلف البلدان الاوروبية، وكان هاجسهم دائما اكتشاف عالم بعيد، غريب، يضج بما هو جديد ومدهش، واهتموا بتدوين مشاهداتهم، ورصدوا الكثير من الاحداث، وكتبوا عن التمثلات الاجتماعية، والتعبيرات الفنية، والنظم السياسية والادارية والاقتصادية والمالية، وسجلوا ماتعرفوا عليه من علوم ومعارف وفنون، وأشاروا للمفاهيم والأفكار والآراء، وكل ما لفت انتباههم. وغالبا ماجاءت مذكراتهم بشكل انطباعات وملاحظات عاجلة، تقف عند السطح، ولاتدرك الجذور، والامتدادات والأعماق، والمجالات والفضاءات، والأبعاد المختلفة لتلك الظواهر، ومنابعها وخلفياتها ومرجعياتها، وسياقاتها التاريخية والدينية والثقافية، والعناصر المكونة لها، والنسيج المعقد للعوامل المتنوعة المولدة لها.

كما ان تلك الانطباعات غالبا ما اختزلت الغرب في بعد واحد، وتورطت في احكام مبتسرة سريعة، تدعو لقبول الغرب واستعارته كما هو، أو نبذه ومناهضته ورفض كل شئ ينتمي اليه.(9)

أزمنة التحديث

 

تخطى مسار التحديث في ايران عدة محطات، منذ انطلاقته في مطلع العقد الثالث من القرن التاسع عشر الى اليوم، وتبدت سمات مميزة في كل زمان من الأزمنة التي تحرك فيها. وبوسعنا تحقيب أزمنة التحديث في فترات، تستغرق كل واحدة عدة عقود زمنية، تطول او تقصر، حسب طبيعة المتغيرات، والاستجابة والتحدي التاريخي للمجتمع، وأشكال التعاطي مع الماضي، ومع الآخر المختلف.

 ويمكن ايجاز الحديث عن هذه الأزمنة فيما يلي:

 

الزمان الأول: الإكتشاف والإقتباس والتقليد(1820-1878)

في هذا الزمان اكتشف الايرانيون الاصلاحات و"التنظيمات " العثمانية، و"اصلاحات " محمد علي باشا في مصر، فعملوا على استعارتها ومحاكاتها. ودشنت هذه المرحلة باصلاحات ولي العهد عباس ميرزا، ومساعيه في تحديث الجيش، وابتعاث الطلاب الى اوروبا، وتعاون وزيره قائم مقام فراهاني معه، ثم محاولات امير كبير البالغة الأهمية في تحديث النظم الادارية، والمالية، والعسكرية، والتعليمية في الدولة القاجارية، وبلغت المرحلة الاولى ختامها بإقصاء سبهسالار من الوزارة. وكان الميرزا حسين خان القزويني الملقب بمشير الدولة ثم سبهسالار ولد في 1825م وبعد عزله من رئاسة الوزراء اصبح واليا لكيلان، ثم وزيرا للخارجية لفترة قصيرة، وأخيرا واليا على خراسان. الى وفاته فيها عام 1880م.

 وقد دفع المنحى الاصلاحي لدى ناصر الدين شاه ان يبحث عن بديل لأميركبير، فعثر على سبهسالار الذي كان ابوه من الشخصيات المرتبطة بالبلاط، تقلد الوزارة، وترعرع في جهاز امير كبير، الذي بعثه سفيرا لايران في الهند، ثم تفليس. وسبهسالار من أوائل خريجي دار الفنون ، أرسله أبوه بمعية أخيه الى فرنسا ، وعمل لمدة ثلاثة عشر عاما في تركيا، وتعلم التركية الاسطنبولية، وتأثر كثيرا بافكار الاصلاحيين الأتراك الذين كانوا من اصدقائه المقربين. وحينما سافر ناصر الدين الى العتبات المقدسة في العراق 1870، استقبله سبهسالار واستضافه،  باعتباره سفيرا لايران في الدولة العثمانية، فنال رضا الشاه واعجابه، وجلبه معه الى طهران، واستوزره للعدل اولا، ثم الحرب، وخلع عليه لقب سبهسالار، اي "امير الجيش" . واخيرا تبوّأ رئاسة الوزارة في 1871م.

 كان سبهسالار تحديثيا، يسعى لإحداث اصلاحات شاملة في البلاد، لم يضطهد خصومه، مثلما فعل امير كبير. ومن فرط اعجابه بالمعارف والآداب والفنون والحريات والحقوق في اوروبا روج الموسيقا الغربية، وأسس" دار الشورى الكبرى". وفسح المجال لصدور الصحافة، وأنشأ معاهد لتعليم المعارف الجديدة، ومنح الصحف الحرية بتقويم ونقد الحكومة، مما أثار حفيظة رجال البلاط وبعض رجال الدين،  فوصف ملا علي كني كلمة الحرية التي يدعو لها سبهسالار بأنها قبيحة (كلمه قبيحه ازادي).

وبمرور الأيام تزايدت الأصوات المعارضة له، وتكاثر خصومه، من رجال البلاط، الذين فقدوا أهم مخصصاتهم وامتيازاتهم، بعد ان أراد مساواتهم بكافة المواطنين امام القانون. وكذلك بعض رجال الدين، إثر محاولاته تأسيس محاكم مدنية، والتخلص من العقوبات البدنية، كالجلد وبتر الاعضاء، ودعوته الصريحة للحرية، فأفتى بعضهم بضرورة اقصاء سبهسالار، وهددوا ناصر الدين ان لم يعزله بترك ايران.

تعاقد مع رجل الاعمال الانجليزي رويتر، كيما يؤسس شبكة للسكك الحديدية والطرق في البلاد، وغير ذلك من البنى التحتية، غير انه واجه معارضة شديدة، ولم يدعمه احد سوى ناصر الدين، واتسعت رقعة معارضيه وضجوا بالشكوى من اصلاحاته، وتحريض ناصر الدين شاه عليه، حتى تحصن رجال البلاط ضده، وهددوا بأنهم لاينتهون من تحصنهم مالم يقصيه الشاه. وبلغت مواقف  خصوم سبهسالار الى الحد الذي أفتى احد رجال الدين بوجوب قتله. فرضخ ناصر الدين في خاتمة المطاف وعزله، بالرغم من انه لم يلبث  في رئاسة الوزراء سوى سنتين .(10)

 

الزمان الثاني: انبعاث الأنا ومناهضة الإستبداد (1878-1906)

يستوعب هذا الزمان النصف الثاني من حكم ناصر الدين شاه الى ثورة المشروطة في (1906). سادت فيها الدعوة الى اشتراع دستور لعمل الدولة، والاهتمام بالتنمية الاقتصادية والثقافية، والدعوة للخروج من نفق التخلف. وشدد مجموعة من الكتاب على استلهام النظام السياسي الحديث في اوروبا، وضرورة الاستناد الى الشعب كمصدر لمشروعية السلطة، وشجبوا الاستبداد، وكافة اشكال احتكار السلطات، وعدم الفصل بينها. فقد كتب الميرزا يوسف خان التبريزي، مستشار الدولة (1823-1895) ان الشعب هو المصدر الوحيد لمشروعية السلطة، وهو اول ايراني يطالب بتدوين دستور، وملكية دستورية، أو سلطنة مشروطة، حسبما يقول فريدون آدميت.(11)

وكان مستشار الدولة أحد السياسيين المعروفين في العصر القاجاري، واصبح وزيرا لفترة وسفيرا لايران في روسيا وفرنسا. وقد ترجم اعلان حقوق الانسان من الفرنسية الى الفارسية، وسعى الى دعم تلك الحقوق بما يؤيدها من الكتاب والسنة والسيرة. كما أصدر رسالة بعنوان كلمة واحدة " يك كلمه ". ويقصد بالكلمة الواحدة القانون، وهو يرى انه السبيل الوحيد للنهوض والتقدم.(12)

وكان لصوت جمال الدين الافغاني (1838-1897) ودعوته استجابات واسعة في ايران، فطالما تردد على ايران، وتواصل مع السلطة والبازار ورجال الدين فيها، ففي مايو1886 رسا في بوشهر، ولبث هناك الى آب «أغسطس» 1886م، فبلغ طهران نهاية تلك السنة عبر شيراز واصفهان، وفي نيسان «ابريل» 1887م غادر طهران - بعد ان ضاق به ناصر الدين شاه ذرعا - الى موسكو التي أخلد فيها بضعة أشهر، ومنها ذهب الى سان بطرسبرج بروسيا، فاستقر هناك من شباط «فبراير» 1888م الى منتصف عام 1889م، ومنها سافر الى ميونخ بألمانيا ثم عاد الى روسيا في نفس العام، وعاد الى طهران مرة أخرى في أواخر هذا العام، بناءً على دعوة من ناصر الدين شاه، وبعد عدة أشهر تبدلت الأجواء في طهران وحدس الأفغاني وقيعة ناصر الدين به، فتحصن بمقام شاه عبد العظيم الحسني في تموز «يوليو» 1890م، ولبث فيه حتى طرد منه في كانون الثاني «يناير»1891م، وجرى تهجيره بطريقة شنيعة قاسية الى العراق مروراً بكرمنشاه، فانتهى الى بغداد في آذار «مارس» 1891م ومنع من زيارة العتبات المقدسة في العراق، واستقر بالبصرة الى صيف 1891م، ومنها شخص الى لندن التي أقام فيها الى مطلع صيف 1892م، وجهر بصوته ضد فساد ناصر الدين شاه واستبداده، فسعى ناصر الدين شاه الى السلطان عبد الحميد كيما يدعوه الى العاصمة العثمانية، فدعاه عبد الحميد، ورغب اليه ان يساعده في مشروع «الجامعة الاسلامية»، التي هي احد مرتكزات مشروع الأفغاني الاحيائي، فنزل على رغبة السلطان ووصل الاستانة صيف 1892م، وقطن فيها مرغما في المحبس «الذهبي» تحت أعين السلطان الى وفاته 9 اذار «مارس»1897م .(13) وحيثما ذهب الافغاني لايفتأ عن مناهضة الاستبداد، وتقويض مفاهيم وشعارات السلطات الشمولية المطلقة، وتزييف دعاوي السلاطين والخلفاء، وطالما ندد برجال الدين الذين ينفرون الناس من الاسلام، وحث على تطوير النظام التعليمي في الحواضر العلمية التقليدية، والتخلص من الأساليب العقيمة في الدراسة، وتحديث المقررات التعليمية المتعارفة.

وفي عام 1890 اصدر الميرزا محمد حسن الشيرازي، من سامراء في العراق، فتواه الشهيرة بتحريم التنباك، من اجل إلغاء الامتياز الممنوح من حكومة ناصر الدين شاه الى شركة رجي البريطانية، لانحصار كل مايتعلق بزراعة وصناعة التبوغ فيها، وحرمت مايقارب المئتي الف مواطن من ارزاقهم، ممن كانوا يعملون في هذا المجال. وبعد صدور الفتوى مباشرة انهار الامتياز الممنوح للشركة، ورضخ ناصر الدين شاه لسطوة الفتوى، عندما أصاب الشلل فاعلية كل المرافق المتصلة بزراعة وتصنيع التبوغ.

وكانت هذه الفتوى اختبارا مدهشا لتأثير المرجعية الدينية العليا في المجتمع، والمكانة السامية لكلمتها في حياة الناس، وهيمنتها على مشاعر الأتباع وعواطفهم وأرواحهم وعقولهم. وهي تؤشر الى عمق وعي الأنا لذاتها، وقدراتها المخبوءة في مقاومة الاستبداد والاستعمار. ولم تتقوض مكانة المرجعية الدينية في ايران أو تتداعى وتضمحل، وانما تكرست وتعزز دورها بمرور الايام.

 

الزمان الثالث: المشروطة أو الدستورية (1906-1925)

استفاق وعي النخبة الايرانية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين على ان غياب القانون، وتفشي الاستبداد والملكية المطلقة، غير المقيدة بدستور، هو منبع التخلف والانحطاط، الذي يرزح في اغلاله المجتمع الايراني.

وكان للمذكرات والانطباعات، التي دونها المسافرون والرحالة والطلاب والبعثات الدبلوماسية الايرانية الى اوروبا، تأثير بالغ في ادراك الدور، الذي يلعبه الدستور في الحد من السلطة، والتداول السلمي لها، من خلال الفصل بين السلطات الثلاث، والتوكؤ على الشعب كمصدر للمشروعية، ومراقبة تنفيذ القانون.

حين نراجع الكتابات المدونة في تلك الفترة، نجدها تشترك في الدعوة لإشتراع القانون، والالتزام بتطبيقه، وهو ما نطالعه في مقالات الصحف والمجلات، والرسائل والكتب، وأدبيات الرحلات والأسفار، والنصوص المترجمة الى الفارسية. وسبقت صحيفة "اختر" الايرانية الصادرة في اسطنبول في القرن التاسع عشر سواها، في طرح مسألة القانون، والتشديد على ضرورة ترويج ثقافة دستورية بين الناس، وتوعيتهم بأن مشكلات حياتهم ناجمة عن عدم وجود دستور، وعدم تنظيم السلطات وحدودها ومجالاتها في قانون. ولما كانت هذه المسألة من اهم مشاغل النخبة وقتئذ، اصدر ميرزا ملكم خان ناظم الدولة (1833-1908) صحيفة في لندن تحت عنوان" قانون" تمحور اهتمامه فيها على ضرورة سن القوانين، وان السبيل الوحيد لنهوض ايران هو القضاء على الاستبداد، واقامة حكومة تعمل في اطار قانون. واستوحى ملكم خان تصوراته بشأن القانون من مطالعاته لآثار مفكري الثورة الفرنسية، واوغست كنت، والفيلسوف الانجليزي جون استيوارت مل. وقد شدد في رسالته المعروفة بـ "مكتوبات" على هذه المسألة، واعتبرها السبب الرئيسي لكافة اشكال التخلف.(14)

كذلك ربط ميرزا عبد الرحيم طالب اوف التبريزي (1834-1911) تخلف ايران بغياب القانون، ففي كتابه (سياست طالبي) الذي صاغه على شكل حوار بين شخصين "ميرزا عبد الله وميرزا صادق" يرمزان الى المثقف المستنير في عصره، ويبحثان عن تفسير موضوعي علمي لانحطاط المجتمع، يتفقان في خاتمة المطاف على رأي واحد، يتلخص في ان (علة العلل لانحطاط ايران هي كلمة واحدة، وهذه الكلمة ليست سوى القانون).(15)

ولاتختلف هذه الرؤية عن رؤية ملكم خان، او رؤية مستشار الدولة في رسالته كلمة واحدة (يك كلمه) الذي كان فيها سباقا في دعوته لصياغة الدستور، وهكذا في مقالاته في صحيفة "اختر" .

وسادت كتابات النخبة الايرانية في هذه المرحلة مصطلحات: الحكومة القانونية او الدستورية "حكومت قانوني"، والحرية "حريت"، والنظام البرلماني "نظام برلماني"، "دار الشورى "مشورت خانه"، او"هاوس كامن"house common  .

وانعكست اصداء هذه الكتابات على لسان الوعاظ وخطباء المنابر، ممن يواظبون على تحريض مستمعيهم، وتعبئتهم لمناهضة الاستبداد، عبر المناداة بدولة القانون، ورفع الشعارات المطالبة بالدستور، وتكرارها في كل مناسبة. ويمكننا ملاحظة مدى الاصرار على هذه المسألة والتأكيد عليها، حين نطلع على نموذج لهذه الخطابات الموجهة من على المنبر للجمهور، فمثلا يدعو السيد جمال الدين الاصفهاني، احد الخطباء المعروفين في ذلك الزمان، الناس بقوله: (ايها الناس: ليس بوسعنا بناء بلدنا من دون التمسك بالقانون، ومن دون التعرف على القانون، ومن دون حفظ القانون، ومن دون احترام القانون، ومن دون تنفيذ القانون، القانون ثم القانون. لابد من تعليم القانون للأطفال في الكتاتيب والمدارس منذ الصغر، ويجب تفهيمهم ان ليس هناك معصية في الدين والشريعة اعظم من مخالفة القانون.....).(16)

 كذلك استوعب الوعي الدستوري الايراني مجموعة تشريعات وقوانين دستورية ولوائح حقوقية فرنسية وعثمانية وعربية، واهتم بنقلها من لغاتها الاصلية الى الفارسية، كما لاحق الكتابات الجادة في تشريح الاستبداد وتفكيكه، وترجمها وروج لها، مثل كتاب عبد الرحمن الكواكبي" طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، بعد مدة وجيزة من صدوره، ومن قبله ترجم مستشار الدولة لائحة حقوق الانسان من الفرنسية، وترجم ميرزا حسين خان سبهسالار دستور مدحت باشا العثماني الى الفارسية ايضا.(17)

ساهمت أنشطة ومساعي وكتابات النخبة الفاعلة بإيجاد ارضية واسعة للوعي الدستوري في المجتمع الايراني، بعد ان جعلت مناهضة الاستبداد وتدوين الدستور من اهم أولوياتها، وكرست مختلف الجهود لإشاعة هذه الثقافة وتعميمها، بنحو لم تعد ثقافة خاصة بالنخبة، وانما امتلكها الوعي الشعبي، وصارت القضية المطلبية الاولى في حياة المواطن الايراني. ووجد جماعة من الفقهاء ان الظروف الاجتماعية والسياسية ممهدة، لإرغام الملكية المستبدة على تحديد سلطاتها وتقييدها في اطار قانون أساسي، يستمد مشروعيته من الشعب، ويخضع بموجبه الملك لإرادة الأمة، ولايختصر كل شئ بشخصه. تتألف هذه الجماعة من ثلاثة مجتهدين معروفين من طهران، وهم: الشيخ فضل الله النوري، (1835-1909)، الذي قضى فيما بعد شهيدا، بعد ان تحول الى موقع مناهض لهذه الحركة، لاعتقاده بأن المشروطة على الضد من الشريعة الاسلامية، والسيد محمد الطباطبائي، والسيد عبد الله البهبهاني.

اما في الحوزة العلمية في النجف، فجرى اصطفاف آخر، اذ انشطر موقف المرجعية، فتبنى الشيخ محمد كاظم المعروف بالآخوند الخراساني، وتبعا له تلميذة الميرزا محمد حسين النائيني، وغيرهما، موقفا مؤيدا وداعما للمشروطة، فيما ذهب السيد محمد كاظم اليزدي الى تأييد الشيخ فضل الله النوري، ومن اصطف معه، في مناهضة المشروطة.

 وتضاربت الآراء والفتاوي في الموقف من المشروطة، ففي الوقت الذي ينص احد الفقهاء في فتواه، على ان (المشروطة كفر، والمطالب بالمشروطة كافر. ماله مباح، ودمه مهدور).(18) يكتب الآخوند الخراساني، وعبد الله المازندراني، والميرزا حسين بن الميرزا خليل في فتواهم: (نعلن حكم الله الى كافة الشعب الايراني، ان بذل الجهد هذا اليوم لإقرار المشروطة، هو بمثابة الجهاد تحت راية صاحب الزمان، ارواحنا فداه. وأدنى معارضة او تهاون في ذلك، انما هو كمحاربته وخذلانه. اعاذ الله المسلمين من ذلك، انشاء الله).(19)

وتؤشر لحظة المشروطة الى منعطف حاد في تحديث النظام السياسي عند المسلمين، وتبلور مرتكزات محورية لمفهوم الدولة المدنية، عبر توظيف شيء من المكتسبات الحديثة في الحريات والحقوق والتداول السلمي للسلطة.

 وقاد التكفير المتبادل بين الفريقين الى استثمار جميع مكونات الذاكرة الدينية والقومية للمجتمع الايراني في تعبئة الجمهور، ومحاولات اجتراح تفسيرات وتبريرات تستند الى الكتاب والسنة والسيرة والتراث، من اجل تشكيل رؤية واضحة لموقف كل فريق.

 ومثلما سادت الدعوة لتقنين عمل السلطة، ونادى بها معظم النخبة، قبل المشروطة، الى ان امتد التثقيف عليها الى عامة المجتمع. انقسم الناس تبعا للإنقسام في مواقف الفقهاء حيال المشروطة سنة 1906، وباتت قضية المشروطة هاجسا نخبويا وجماهيريا شاملا، انخرطت النخبة المدنية والدينية في الكتابة والخطابة والحديث عنه، اثباتا أو نفيا. وصدرت الكثير من المنشورات، والرسائل، والمقالات، والكتب، والمطبوعات المتنوعة، لمعالجة هذه القضية.

ويمكن القول ان أخطر رسالتين صدرتا خلال هذه الضجة، وعبرتا بوضوح لالبس فيه عن الموقف المندد والرافض، والموقف المؤيد للمشروطة، هما: "تذكرة الجاهل وإرشاد الغافل "للشيخ فضل الله النوري، المطبوع سنة 1908 اي قبل مقتله بسنة، و"تنبيه الأمة وتنزيه الملة" للشيخ محمد حسين النائيني، المطبوع سنة 1909. ويبدو من عنوان الأخير لرسالته، انه يشير الى عنوان رسالة النوري، وينفي حكمها على دعاة المشروطة ومؤيديها، باعتبارهم "جاهلين....غافلين". ويصرح النوري في رسالته بنبذ الدعوة للمساواة بين المواطنين، ويستخدم لغة حادة، مشبعة بالاتهام، والأحكام القاسية، في التدوين. فمثلا يقول (ياعديم الشرف، ياعديم الضمير! صاحب الشريعة منحك شرفا وامتيازا، لأنك انتحلت الاسلام، وانت تسلب هذه الميزة عن نفسك، وتقول: يجب ان نكون متساوين، مع المجوس والأرمن واليهود، ألا لعنة الله على من لا يعرف قدره)(20). ولم تنتشر بنحو واسع رسالة النوري، ولم يمتد حضورها خارج زمانها، بينما اشتهرت رسالة النائيني "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" وتنوعت الإحالات المرجعية عليها، وأصبحت من أهم النصوص المؤسسة في الفكر السياسي الاسلامي الحديث. وكتب عنها وتداولها مجموعة من الباحثين والدارسين بالفارسية والعربية وغيرهما. وربما يعود ذلك الى الاسلوب الاستدلالي الذي انتهجه النائيني في بيان آرائه، ومناقشة الآراء التي يختلف معها، وابتعاده عن الأحكام المتسرعة والقاسية حيال الآخرين، واستيعابه لثقافة عصره، فيما يتصل بأثر الاستبداد والحكومات الشمولية في انحطاط البلدان، ورؤيته المدنية للدولة، وقيام نظمها وتدبيراتها على ماراكمته الخبرة البشرية، والتفكير خارج المدونة الفقهية في قضايا الدستور، وضرورة وجود برلمان، وانتخابات برلمانية، وبيان مهام البرلمان في صياغة القوانين، والحرية، والمساواة بين المواطنين، والعدل.

يتلخص مفهوم المشروطة في تشكيل الحكومة على اساس دستور، ونظام برلماني، وتقييد سلطات الحاكم في اطار القانون. وكان الكاتب العثماني نامق كمال من اوائل من استخدم، تعبيرات الدولة المشروطة" دولت مشروطه" والإدارة المشروطة "اداره مشروطه" في كتاباته في القرن التاسع عشر، وهو يعني بذلك الحكومة الدستورية غير المستبدة. وكانت مثل هذه الحكومة توصف لدى الكتاب العثمانيين في ذلك العصر، بتوصيفات من قبيل: " مقيدة" و"معتدلة" و"محدودة". والقيد بمعنى الشرط، والمحدود هو المؤطر بحدود، اي بشروط.

 ويعتقد الدكتور عبد الهادي الحائري ان هذه الكلمة وفدت من التركية، وأول من استخدم مصطلح المشروطة باللغة الفارسية، هو ميرزا حسين خان سبهسالار سنة 1868 حين كان سفيرا لايران في الامبراطورية العثمانية، اذ وردت هذه الكلمة في بعض التقارير التى اعدها ساعتئذ.(21)

 

الزمان الرابع: المحاكاة الشكلية للغرب (1925-1945)

يبدأ هذا الزمان بنهاية العصر القاجاري، وتولي رضا شاه (1925-1941) للسلطة، وباستلامه للسلطة انخرطت ايران في حقبة جديدة من تاريخها، واتخذ مسار التحديث فيها نهجا مغايرا، بعد ان انصب اهتمام رضا شاه على بناء دولة شديدة المركزية، سعى فيها الى استعارة نموذج التمدن الغربي في الآداب والفنون والادارة والتعليم والتصنيع، والعمل على تشكيل البنية الاقتصادية التحتية للدولة. وانفتحت ايران في عصره على اوروبا، ثم على الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وتعززت علاقة الشاه بالجمهورية الجديدة التي أسسها اتاتورك على انقاض الخلافة العثمانية في تركيا، وكان رضا خان شديد الاعجاب باسلوب مصطفى كمال اتاتورك في التحديث، فعمل على تقليده، والاهتمام بإقتباس أساليبه ومقرراته وفرضها على المجتمع الايراني، من قبيل تغيير التقويم من الهجري القمري الى الهجري الشمسي، الذي وضعه الشاعر عمر الخيام في وقت متأخر، وحظر الحجاب، وخلعه بالقسر والإكراه، وملاحقة رجال الدين، ومنعهم من ارتداء العمامة واللباس الموروث الخاص برجال المؤسسة الدينية، ولم يستثن من ذلك إلاّ من بلغ درجة الاجتهاد، وحصل على اجازة بذلك من احد المراجع المعروفين. وبعد تغلغل الدولة وهيمنتها على مرافق الحياة العامة، وتدخلها فيما هو خاص وشخصي، ضاق فضاء الحرية، واختنق الاجتماع الايراني، وضاق ذرعا بالمعاناة الشكلية الزائفة للغرب، واستنساخ ماهو شكلي من تجربة اتاتورك.(22)

وظهرت في هذه المرحلة نزعة قومية تعصبية، تدعو للعودة الى ماضي ايران قبل الاسلام، وتعتبر الاسلام دخيلا على ايران، وترى في العرب الفاتحين مستعمرين قضوا على حضارة البلاد، ودمروا التمدن الايراني العريق. وتبدو هذه النزعة بوضوح في آثار احمد كسروي وصادق هدايت، وغيرهما.(23)

واحمد كسروي (1890- 1945) كان احد رجال الدين في اذربايجان، وهو كاتب غزير الانتاج، وكتاباته من ابرز عناوين الضجة في هذه المرحلة، قاد حملة نقد واسعة للمعتقدات الشيعية، واهتم بإحياء ميراث ايران العتيق.

اصدر كسروي تسعة وتسعين عددا من مجلة "بيمان" وخمسة وعشرين عددا من "برجم" وصنف سبعين كتابا، نشرت اغلبها في عقدي الثلاثينيات والاربعينِيات. تمحورت آثاره حول التاريخ، والادب الفارسي والاذربايجاني، والحياة الاجتماعية، والمعتقدات الشيعية.

كتب "بيرامون اسلام" وادّعى انه لم يبق من الاسلام شئ في زماننا، وليس هناك سوى الحضارة الغربية في هذا العصر. وألف" شيعيكري" الذي ترجم تحت عنوان الشيعة والتشيع في عام 1943، هاجم فيه المعتقدات الشيعية. طرح ما اسماه "باكديني"  أي الدين الطاهر، ادعى انه جمع فيها مشتركات الأديان، كان متأثرا بالنزعة العلمية للقرن التاسع عشر. وقتل في المحكمة على يد فدائيان الاسلام سنة 1945، بعد صدور فتاوى بقتله.

وبسبب القسوة البالغة لنظام رضا شاه، ومصادرته للحريات، مضافا الى آثار الحرب العالمية الثانية على ايران، لانعثر في هذه المرحلة على مكاسب فكرية أو أدبية أو فنية مميزة، خارج نفوذ الحكومة ومؤسساتها.

اندلاع الحرب العالمية الثانية، قضى على حكومة رضا شاه، التي سعت لإحتكار كل شيء، وأصرت على فرض نمط زائف للتحديث، تمحور حول اقتباس الأشكال والمظاهر، وعمل على طمس الرموز الدينية والتقاليد الثقافية المتوارثة، في اللباس والأزياء وغير ذلك. لكن ذلك التحديث الشكلي اصطدم بممانعة اجتماعية، ومقاومة ثقافية ودينية جريئة، فأفضى في النهاية الى تجذير الرموز والشعائر والمراسم والتقاليد الثقافية، وتعذر عليه محوها.

الزمان الخامس: الدين كأيديولوجيا للثورة أو لاهوت التحرير (1945-1979)

كان انتهاء الحرب العالمية الثانية ايذانا بتدشين محطة هامة في مسار حركة التحديث في ايران، تنامت فيها فاعلية الأفكار والتيارات السياسية والاتجاهات الايديولوجية المتنوعة، ونشطت الحلقات النقاشية، وتطور الحراك الثقافي، وانبعثت طائفة من التساؤلات اللاهوتية، والرؤى الدينية التي تخطت التفكير التقليدي .

في هذا الزمان واصل محمد رضا شاه جلوسه على العرش خلفا لوالده (1941-1979)، حتى خروجه من ايران.لم يتحرر محمد رضا من النهج الشمولي الاستبدادي، الذي اختطه سلفه، ولم يتمكن من تشييد نظام سياسي مرن ومنفتح، تتسع فيه مساحة مشاركة المجتمع في السلطة، وبالرغم من الترقيعات التحديثية الاقتصادية، خاصة مشروع الاصلاح الزراعي الذي أطلقه مطلع الستينيات من القرن العشرين، غير انه فشل في كسب ود النخبة، فضلا عن الجماهير، التي كانت تدين بالولاء والطاعة للمرجعيات الدينية.

اهتم الشاه بالتبشير بأيديولوجيا تعصبية، تبتني على مركزية ايرانية، تبشر باسترداد الماضي السحيق للأخمينيين وغيرهم من الأقوام الأوائل، ممن أشادوا التمدن الايراني، وبذل جهودا واسعة من اجل احياء الرموز والميثيولوجيا الفهلوية العتيقة. واتسم نظامه بطابع استعلائي غارق بالمحاكاة الشكلية للغرب، وحالة نرجسية حادة منكفئة على ذاتها، واضطهاد وقمع جهاز الأمن" السافاك" المعارضين له، وخنق الاصوات الحرة الجريئة في المجتمع، مضافا الى استبعاد محمد رضا لرئيس الوزراء محمد مصدق، المعروف بتبنيه للقضايا الوطنية. كل ذلك عمل على منع المواطنين من المشاركة السياسية، ولم يذك شعورهم بالحماس لأية مبادرة من قبل السلطة، فانعزل النظام بالتدريج، واتسعت الهوة، بين النظام والمجتمع، بمرور الزمن، وافضت الى ان يجد الشاه محمد رضا نفسه ونظامه غريبا في بلده، بعد طغيان الغضب الجماهيري، وتفجر الثورة الاسلامية، واضطراره للخروج قبيل انتصارها.(24)

ان تعسف رضا شاه ومن ثم خلفه محمد رضا في فرض النموذج الغربي قسرا على المجتمع الايراني، ولجوءه الى العنف احيانا في ذلك، كما في خلع زي رجال الدين، واكراه النساء على عدم ارتداء الحجاب، في عصر الأب، وتدابر الإبن والأب مع الميراث الاسلامي لايران، واصرّا على استدعاء الذاكرة الغارقة في التأريخ، ومختلف المفاهيم والاشارات والرموز والعناصر المكونة لها، بغية القطع مع السياقات الاسلامية والماضي القريب للمجتمع الايراني. نجم عن هذا السلوك تكريس الشعور بالانتماء الى الاسلام، وكشف المكاسب الهائلة التي انجزها الايرانيون بعد اعتناقهم لهذه الديانة(25)، وبموازاة ذلك انخرط بعض المثقفين في دعوة لتأصيل "الهوية" و"الذاتية" أو العودة الى الذات، ونقد كافة صور التغريب في الحياة الايرانية، وبلغ النقد حد الاتهام بالخيانة للمثقفين المنبهرين بالغرب، المنادين بضرورة استعارة ثقافته ونمط تمدنه(26). وظهرت في هذه الحقبة مجموعة من الحركات السياسية، ترتكز مرجعيتها على قراءة أيديولوجية نضالية للإسلام، تستقي مشروعية الاحتجاج والثورة على النظام القائم، من العقيدة والشريعة. وأسرفت بعض الحركات في تأويلها للنص فاختزلته في لافتات وشعارات للتعبئة الجماهيرية والكفاح والمقاومة.

أسس الد?تور محمد نخشب (1923-1976) بمعية حسين راضي نهضة الموحدين الاشتراكيين "نهضت خدابرستان سوسياليست"، وهم جماعة من الشباب المتدينين ذوي نزعة اشتراكية، وانصب اهتمام نخشب وجماعته على الأبعاد الاخلاقية والانسانية في الدين، وعمل على انتاج قراءة اسقاطية للنص والماضي والتراث، فخلع عليه صورة اشتراكية، وكان يحسب ان الاشتراكية الانسانية العملية تجسدت في صدر الاسلام، اما الاشتراكية الاوروبية فهي اشتراكية خيالية.

 انجز عدة آثار، وهي: الانسان المادي، صراع الكنيسة والمادية، ماهو الحزب، قاموس المصطلحات الاجتماعية، ايران على اعتاب تحول كبير، ونشرها في الاربعينيات والخمسينيات.

وكان يقيم اجتماعا اسبوعيا في منزله، يحضره الكثير من الشباب، الذين اصبحوا من الفاعلين الناشطين سياسيا وثقافيا واجتماعيا فيما بعد، منهم الدكتور ابراهيم يزدي وزير الخارجية في أول حكومة بعد الثورة.

 تعرضت هذه الجماعة الى عدة انشقاقات واندماجات بأحزاب ومجموعات اخرى، وارتبط بها بعض رجال الدين الشباب. لجأت نتيجة للصراعات الداخلية وضغوطات السلطة الى تغيير اسمها الى: جمعية حرية الشعب الايراني "جمعيت ازادي مردم ايران"، واصدرت نشرة تحت عنوان "مردم ايران" اي الشعب الايراني، وأسس كاظم سامي وعلي شريعتي في مشهد فرعا للجمعية، دافعت عن محمد مصدق ومواقفه الوطنية، وانضمت الى نهضة المقاومة الوطنية "نهضت مقاومت ملي" بعد الانقلاب عليه، واستبدلت اسمها الى حزب شعب ايران "حزب مردم ايران" بقيادة نخشب، الذي سجن، ثم سافر الى الولايات المتحدة، وعمل هناك في الامم المتحدة، واصبح رئيسا لفرع نهضة الحرية "نهضت ازادي" في امريكا، وظل يدافع عن افكاره الدينية. توفي في الولايات المتحدة عام 1976م.

تأثر بأفكاره ومنحاه الاشتراكي في تأويل الاسلام  الدكتور علي شريعتي          (1923-1977) في بداية حياته، فترجم كتاب ابوذر الغفاري لعبد الحميد جودة السحار، تحت عنوان ابو ذر الموحد الاشتراكي "ابوذر، خدابرست سوسياليست".(27)

وكان علي شريعتي من ابرز دعاة  القراءة الايديولوجية النضالية للإسلام، ذلك انه عاش في عصر طغى فيه صوت مقاومة الاستعمار، والثورة على الأنظمة التابعة له، وتسابق المثقفون لتأييد ومساندة الانتفاضات والحركات الثورية، ومنذ بداية حياته أغواه بريق الشعارات، وشغف بفعل الاحتجاج والاعتراض، فتضامن مع استغاثات الكادحين، ولوعة المحرومين، وأنين المعذبين. وانصب اهتمامه، وتمحورت جهوده على تأويل النص تأويلا ثوريا، وملاحقة والتقاط مواقف المعارضين والثوار في التاريخ الاسلامي، وتمجيد ذكراهم، والاشادة بشعاراتهم، واعتبارهم الممثلين الحقيقيين للدين والانسان في الاسلام، والتهكم على سواهم، أو الإنتقاص من نتاجاتهم، مهما كان عطاؤهم، فمثلا يكرر ان مكانة ابي ذر الغفاري أهم، وأثره أعظم في تاريخ الاسلام، من الفيلسوف ابن سينا(28).

  تلاحم في شخصية شريعتي المثقف والداعية والمناضل، وذابت الحدود في وجدانه بين النموذجين، بل أمسى الوجه الحقيقي للمثقف في وعيه هو الداعية، وتحولت الثقافة الى أيديولوجيا، وظل ابرز مشاغله "أدلجة الدين والمجتمع". يقول شريعتي: (سألني أحد رفاق الدرب: ماهو برأيك أهم حدث وأسمى انجاز استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟ فأجبته: بكلمة واحدة، وهو تحويل الاسلام من ثقافة الى أيديولوجيا).(29)

 لكن ماالذي يقصده الدكتور شريعتي بالأيديولوجيا ؟ وهل يستطيع ان يحتفظ بموقفه المعرفي الموضوعي الحر كباحث ومثقف، في الوقت نفسه الذي يختزل الدين بالايديولوجيا، ويعطل ابعاده الميتافيزيقية والروحية والتنزيهية والتطهيرية العميقة؟!

وقاد هذا الموقف شريعتي الى التورط تارة بتفسير ماركسي لبعض الآيات، فأسقط المادية التاريخية على القصص القرآني، فيما انشغل بتأويل وجودي للاسلام تارة اخرى، فمثلا قدم تحليلا يبتني على الصراع الطبقي في قصة ابني آدم بين هابيل وقابيل، فاعتبر (قابيل ممثلا للنظام الزراعي والملكية الخاصة والفردية، بينما هابيل يمثل العصر الرعوي والاشتراكية الاولية قبل الملكية).(30)

 وهكذا فسر الكثير من الصراعات الاعتقادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، تفسيرا طبقيا اقتصاديا، فهو يرى أن (الثورة الحتمية المستقبلية تعتمد على التناقض الديالكتيكي، الذي بدأ بالمعركة بين هابيل وقابيل، وهي تجري على الدوام في كافة المجتمعات بين النظام الحاكم والمحكوم، وانتصار العدالة والقسط والحقيقة هو المصير الحتمي للتاريخ).(31) وخلص الى ان كافة العقائد و(المذاهب الحاكمة في التاريخ، انما هي دائما وبلا استثناء تمثل الطبقة الحاكمة).(32)

وتحيل الظواهر الاجتماعية لدى شريعتي الى مفاهيم عقائدية، فالوحدة الاجتماعية والسياسية، والشرك والصراع الاجتماعي والسياسي، يعبران عن  التوحيد والشرك الاعتقادي (والوحدة الحقيقية بين الجماعات والطبقات، هي تعبير عن التوحيد).(33) ، وهكذا (الشرك الاجتماعي انما هو انعكاس للشرك الالهي).(34)

حذر شريعتي من المثقف الانهزامي المنقطع عن جذوره، المقتلع من عالمه، وذهب الى ان المثقف المستنير، هو من يعمل على تغيير الواقع، وتوعية المجتمع بذاته الحضارية وميراثه. وشبه المستنيرين بالأنبياء، باعتبار طبيعة المهمة العظمى والمسؤولية الاستثنائية المناطة بهم، والتي تتركز حول ايقاظ شعور الناس بذاتهم. وطفق يدين المثقفين المسلمين المعجبين بنماذج التنمية الغربية، ويصفهم بالاغتراب عن الذات، وخسران الهوية، وزعم ان مابعد القومية، والنزعة الانسانية العالمية، اكاذيب كبرى، ينشد من خلالها الغرب محو الهوية الثقافية للشرق.

 تأثر شريعتي بمناخات المقاومة والعودة الى الذات، وسط المثقفين والطلاب المبتعثين في باريس من العالم الثالث، واعجب بخطاب "المعذبين في الارض" ، لفرانتز فانون، وسعى لمحاكاته في كتابه "العودة الى الذات". لكنه تجاوز خطاب فانون الذي تمحور حول الخصوصيات العرقية والسياقات التاريخية والثقافية للعالم الثالث، وأكد على تكريس الجذور الاسلامية. يكتب شريعتي: (حينما نتحدث عن العودة لجذورنا، نتحدث في الواقع عن العودة الى جذورنا الثقافية... ان العودة لا تعني اعادة اكتشاف ايران ماقبل الاسلام، وانما تعني العودة الى جذورنا الاسلامية).(35)

وتتكرر في آثار شريعتي مفهومات الاصالة، والهوية الحضارية، والذاتية، حتى انه خصص للعودة الى الذات احد اهم كتبه، وعالجها في موارد مختلفة من آثاره. وطغت  في هذه المرحلة لدى المثقفين الايرانيين فكرة الذاتية، والعمل على اكتشاف السياقات الاجتماعية والثقافية والدينية للهوية الايرانية.

 وكان الدكتور احمد فرديد (1910- 1994) احد ابرز المفكرين الذين كرسوا حياتهم لقضية الهوية واستدعاء المواريث والخصوصيات الحضارية الذاتية، وعرف عنه تبرمه وسخطه على كل ماهو وافد الى البيئة المحلية الايرانية من الغرب. وقد كان له دور رائد في تعليم الفلسفة الألمانية في ايران، واعتناق آراء هايدغر، وتشغيل بعض مقولاته في المجال التداولي الايراني، وعرف عنه تطبيقاته لنظريات هايدغر في دراسة الحضارة الغربية، وآثارها السلبية خارج محيطها الخاص، فمثلما يعتقد هايدغر بأن (كل حقبة من حقب التاريخ تختص بسيادة حقيقة معينة تطغى على بقية الحقائق، فيما تقذف بما سواها إلى الهامش). ويرى فرديد أيضا بأن (الغربيين أضاعوا الله، واستبدلوه بإله آخر، هو النفس المادية، أو النفس الأمارة بالسوء). كما يؤكد ان للبشر ثلاثة أبعاد: الأول علمي، والثاني فلسفي، والثالث معنوي، ومع ان (الأول والثاني احتلا مساحة واسعة في السنن الفكرية الغربية، لكن الثالث ظل غائبا وباهتا، بشكل فاضح).

نحت فرديد مصطلحات تتضمن توصيفات، ذات دلالات هجائية، مشبعة باحكام سلبية بالغة الرفض لمحاولات التعاطي مع الفكر الغربي، فهو يعبر عن انفتاح المسلمين على المعارف اليونانية، بتعبير "يونان زدكي" بمعنى الوباء اليوناني، او الاصابة باليونانية، او التسمم باليونانية، وهكذا يسمي ماجاء من الغرب وآثاره في عالمنا بـ"غرب زدكي" وهو كالمصطلح السابق يشير الى: الوباء الغربي، او الاصابة بالغرب، او التسمم بالغرب.

ويتعرض فرديد وتلامذته ومريديه الى نقد حاد من الاصلاحيين الايرانيين اليوم، فهو يوصف بأنه" فيلسوف ضد الفلسفة" حسب داريوش آشوري، وهو منظر القراءة الفاشستية للدين، حسب عبدالكريم سروش. ورجل النظام في كل زمان، ففي عصر الشاه محمد رضا، منحه النظام فرصة التعبير عن افكاره والتبشير بها، عبر المحاضرات والدروس الجامعية والخطابات والحلقات النقاشية، بل اشترك في مؤتمر تدوين ايديولوجيا حزب الشاه رستاخيز (البعث) سنتي 1976-1977، فكتب مدخل ايديولوجيا هذا الحزب. وبعد الثورة الاسلامية اتيحت له حرية واسعة للتعبير عن افكاره ومقولاته حول: خلاص البشرية من كل طاغوت وطاغوتي، والجهاد ضد الطاغوت، والايمان بالآخرة، وامام العصر والزمان، لمواجهة الغرب والحداثة، والترويج لرؤيا محيي الدين بن عربي، ومفاهيم هايدغر.(36)   

 استعار جلال آل أحمد (1923- 1969) مفهوم وباء الغرب "غرب زدكي "من فرديد، لكنه صاغه صياغة ايديولوجية، وعبأه بأفكاره، التي استقى شيئا منها في المرحلة الماركسية من حياته، وهي أفكار تمنح آلات الانتاج والماكنة دورا مركزيا في حركة التاريخ، وبناء المجتمعات وفقا لمعاييرها الخاصة.

يعرّف آل أحمد" وباء الغرب" بأنه (مجموعة الاعراض التي تطرأ على حياتنا، في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية، من دون ان يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ، وبدون ان يكون دخولها تدريجيا، يسمح بالاستعداد لها، وانما تداهمنا دفعة واحدة، لتقول لنا: أنا هدية الآلة اليكم، أو قل انها الممهد للآلة). ويعرف آل أحمد بتوجسه الشديد من كل شيء يرمز للغرب وثقافته، وبالأخص معطيات التكنولوجيا الغربية، فهو يرى ان كل شيء في عالمنا تدنسه الماكنة، و"يتمكنن"، وعندما يتمكنن يجري تهشيمه ونسفه.

ولعل مصدر هذا الفزع هو خيبة الأمل المزدوجة، من الغرب بقناعه الامريكي، الذي اسقط حكومة الدكتور محمد مصدق، واطاح باصلاحاته، التي جسدت بعض احلام جلال آل أحمد والنخبة الايرانية، وخيبة الأمل من الاتحاد السوفيتي، الذي يرمز للماكنة والسلع الغربية أيضاً، وما يلاحظه آل أحمد من قيم وثقافة وافدة، يفرضها نمط الماكنة والسلعة الآتية من الغرب، وما تمثله الماكنة من مركزية محورية في خلق اشكالية التغريب الحضاري.

وقد نشطت في هذه المرحلة مجموعة حركات سياسية عملت على تأويل الاسلام تأويلا ماركسيا، أو اشتراكيا، أو ليبراليا، أو كفاحيا ونضاليا، وامتد تأثيرها في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية الى ما بعد انتصار الثورة الاسلامية عام 1979.

بالرغم من اختزال هذه الورقة واشاراتها العاجلة لمراحل التحديث وأبرز عناوين الضجة في مسار حركة التحديث الايرانية، لكن تعذر عليها تناول رموز ومفكرين وفقهاء، كان لهم اثر مميز في تاريخ ايران القريب، لان مداخلة في مؤتمر ليس بوسعها استيعاب كل ذلك، ونتمنى التحدث عنهم في مناسبات لاحقة.

وتنبغي الاشارة الى ابرز اولئك الاعلام، وهم: ميرزا فتحعلي آخوندزاده (آخوندف) (1813- 1878)، ، ميرزا عبدالحسين آقا خان كرماني (1853- 1896)، زين العابدين مراغه اي (1839- 1911)، عبدالكريم حائري يزدي (1860- 1936)، حسن المدرس (1869- 1937)، محمد علي فروغي ذكاء الملك (1875- 1942)، ميرزا رضاقلي شريعت سنكجلي (1890- 1943)، صادق هدايت (1902-1951)، مجتبى نواب صفوي (1924- 1955)، نيما يوشج (1895-1959)، حسين بروجردي (1875- 1961)، ابو القاسم كاشاني (1882- 1961)، محمد مصدق (1882- 1967)، فخر الدين شادمان (1907- 1967)،حسن تقي زاده (1878- 1969)، مرتضى مطهري (1920- 1979، محمود طالقاني (1910- 1979)، علي دشتي (1894- 1981)، محمد حسين بهشتي (1928- 1981)، محمد حسين طباطبائي (1902-1981)، كاظم شريعتمداري (1903- 1986)، محمد تقي شريعتي (1907- 1987)، علي اكبر حكمي زاده (  - 1987)، روح الله الخميني (1902- 1989، مهدي بازركان (1907- 1994)، محمد يدالله سحابي (1906- 2002)، حسين علي مننتظري (1921ـــ  )، حسين نصر (1933- )، وداريوش شايغان (1935- ).

 

 ...............................

الهوامش:

(1)  بهنام، د. جمشيد . ايرانيان وانديشه تجدد. طهران: فرزان، 1375= 1996، ص21-23.

(2) رايت، دنيس. ايرانيان درميان انكليس ها. ترجمة: منوجهر طاهرنيا. طهران: اشتياني، 1364=1985، ص 156

(3) ناطق، هما. "فرنك وفرنكي مآب".زمان نو (باريس) شماره 12(شهريور1365= 1986).

(4) نفيسي، سعيد. تاريخ اجتماعي وسياسي ايران در دوره معاصر. طهران: بنياد، 1366=1987، ج2: ص 223

(5) الكاتب هو"مجد الملك"في" رسالة مجدية". انظر: بهنام، د.جمشيد. مصدر سابق.

(6) بهنام، د. جمشيد. المصدر السابق. ص 25.

(7) المصدر السابق. ص 47.

(8) المصدر السابق. ص 31.

(9) من ابرز الايرانيين الذين دونوا مذكراتهم عن رحلتهم الى اوروبا في القرن التاسع عشر:

1- ميرزا ابو طالب"ابو طالب اللندني"(1753-1806): تنقل في اوروبا لمدة خمس سنوات، وكتب رحلته بعنوان "مسيرطالبي في بلاد افرنجي".

2- مير عبد اللطيف الشوشتري (1758-1805):سافر الى الهند وبريطانيا، ودون مشاهداته بعنوان "تحفة العالم".

3- ميرزا صالح الشيرازي: احد الذين بعثهم عباس ميرزا الى بريطانيا، تحدث عن حياته فيها في "مجموعة سفرنامه هاي ميرزا صالح شيرازي".

4- ميرزا ابو الحسن خان الشيرازي: سافر الى روسيا ولندن سنة (1817)، وكتب مذكراته في السفرتين.

5- رضا قلي ميرزا: حفيد فتح علي شاه، سافر مع اخويه عام 1837 الى لندن وتحدث عن مشاهداته واخويه في"سفرنامة رضا قلي ميرزا نايب الايالة". ص347-500.

6- ميرزا فتاح خان: اوفده محمد شاه القاجاري بضمن فريق الى النمسا وفرنسا وبريطانيا، سنة 1839 فكتب حول رحلته"سفرنامه ميرزا فتاح خان"ص804-951.

7- فرخان امين الدولة: احد العاملين في البلاط القاجاري، اوفد الى باريس عام 1855 للقيام بمهمة حكومية. كتب مذكراته عبد الله السرابي، وهو احد مرافقيه، تحت عنوان "مخزن الوقايع".

8- محمد علي سياح: كان من رجال الدين، بدأ رحلته سنة 1859 الى اوروبا، واستغرقت هذه الرحلة ثمانية عشر عاما، وكتب عن تجربته وحياته فيها"سفرنامة حاج سياح".

9- محمد علي ميرزاده نائيني المعروف بـ"بيرزاده": كان متصوفا من مريدي الحكيم جلوه، سافر الى اوروبا مرتين، الاولى في 1868 والثانية في 1885، استغرقت سفرته ثلاث سنوات، زار خلالها ايطاليا وفرنسا وبريطانيا، وتحدث عن سفرته بعد عودته، في "سفرنامه حاجي بيرزاده".

10- ميرزا محمد خان سينكي، مجد الملك (1809-1872): كان سفيرا لايران في روسيا في العصر القاجاري. كتب في عام 1870 "كشف الغرايب أو رسالة مجدية".

11- ميرزا محمد علي معين السلطنة: سافر عام 1892 الى روسيا واوروبا وشيكاغو في الولايات المتحدة، وكتب "سفرنامه شيكاغو".

12- ابراهيم صحافباشي: سافر سنة 1892 الى روسيا والمانيا وبريطانيا وفرنسا ثم الولايات المتحدة. وكتب مذكرات رحلته في "سفرنامه ابراهيم صحافباشي".

لمعرفة المزيد من التفاصيل حول هذه الرحلات، راجع: مشتاق عبد مناف. "دعاة الاصلاح في ايران".ص4-6.

(10) زيبا كلام، د. صادق. سنت ومدرنيته. طهران:روزنه، ص273-337.

(11) آدميت، فريدون. فكر آزادي ومقدمه نهضت مشروطيت. طهران: سخن، 1340=1961، ص186.

(12) مستشارالدولة. رسالة يك كلمة. طهران- باريس: 1287هــ، 38-39.

(13) الرفاعي، د. عبد الجبار. مقدمة في السؤال اللاهوتي الجديد. بيروت: مركز دراسات فلسفة الدين ودار الهادي، ط2، 2008، ص238-239.

(14) بهنام، د.جمشيد. مصدر سابق. ص 74، 77.

 (15) المصدر السابق. ص 74.

(16) همايون، د. ناصر تكميل (اعداد). مشروطه خواهي ايرانيان. طهران: مركز بازشناس? اسلام وايران، 1383=2004، ص 19-20. عن: سيد جمال الدين اصفهاني، ش35 (26 ربيع الثاني 1326هـ)

(17) د. جمشيد بهنام. مصدر سابق. ص 77.

(18) زركري نجاد، غلام حسين. رسائل مشروطيت. طهران:كوير، 1374=1995، ص15.

(19) المصدر السابق.

(20) النص منقول من ترجمة الاستاذ السيد مشتاق الحلو لرسالة النوري، وستصدر ترجمة "تذكرة الغافل وارشاد الجاهل" مرفقة بترجمة السيد مشتاق الحلو لــ" تنبِيه الأمة وتنزيه الملة" عن مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد.

(21) حائري، عبد الهادي. تشيع ومشروطيت در ايران ونقش ايرانيان مقيم عراق. طهران: امير كبير، 1364=1985، ص252.

(22) د. بهنام، جمشيد. مصدر سابق. ص133-134.

(23) المصدر السابق.ص 116.

(24) بروجردي، د. مهرزاد. المستنيرون الايرانيون والغرب. ترجمة: حيدر نجف. مراجعة: د. عبد الجبار الرفاعي. بيروت: مركز دراسات فلسفة الدين ودار الهادي، 2007، ص58-63.

(25) ألف الشيخ مرتضى مطهري كتابا مفصلا، تحدث فيه عن" الخدمات المتبادلة بين الاسلام وايران". مترجم الى العربية مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

(26) ألّف جلال آل احمد كتابا في جزئين ، بالغ في تخوين واتهام المثقفين المستنيرين، بعنوان" المستنيرون بين الخدمة والخيانة". ترجمه الى العربية: حيدر نجف، وأصدره مركز دراسات فلسفة الدين في سلسلة كتاب قضايا اسلامية معاصرة.

(27) جعفريان، رسول. جريان ها وسازمان هاي مذهبي - سياسي ايران (از روي كار امدن محمد رضا شاه تا بيروزي انقلاب اسلامي)، قم: ط6، 1385ش. ص 75 - 81.

(28) شريعتي، د. علي. مجموعه آثار. طهران: ج7: ص134.

(29) المصدر السابق. ج1: ص209.

 (30) شريعتي، د. علي. مجموعه آثار . ج16: ص51-52.

(31) المصدر السابق. ج16: ص62.

(32) المصدر السابق. ج4: ص383.

(33) شريعتي، د. علي. مصدر سابق. ج11: ص136.

(34) المصدر السابق. ج14: ص319.

) 35) بروجردي، د. مهرزاد. مصدر سابق. ص171-172.

(36) الرفاعي، د. عبدالجبار. مصدر سابق. ص271-274.

 

مداخلة في: مؤتمر" اتجاهات التجديد والاصلاح في الفكر الاسلامي الحديث". مكتبة الاسكندرية / مصر (19- 21/ 2/2009

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1508 الاثنين 06/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم