صحيفة المثقف

تعقيب على دراسة (لغة الشعر وآليات الإبداع)

 

   1- ذكرتم بيت المتنبّي هكذا:

جرى دمعي وما الداعي سوى طللٍ

دعا فلباه قبل الركب والإبلِ

 

فأصيب صدر البيت بالخلل الوزني، فخرج من إيقاع البسيط إلى إيقاع الوافر الشاذ،وصواب البيت أن يُكتب هكذا:

أجابَ دمعي وما الداعي سوى طلَل ِ

دَعَا فَلَبّاهُ قبلَ الركبِ والإبل ِ

 

وقلتم في شرحه " فيسرع الدمع منسكبا حتى قبل تجهيز ركب ومعدات السفر" في حين أراد المتنبي القول:إن طلل أحبّته استدعى بكاءه قبل جميع أصحابه،وقبل الإبل أيضاً،لأن الإبل تعرف ذلك الطلل وتبكي عليه،والدليل على ذلك، البيت الذي يليه الذي يقولُ فيه:

ظَلِلتُ بينَ أصيحابي أكفكِفُهُ

وظلَّ يسفحُ بين العُذرِ والعَذَل ِ

 

ومع أنّ التفاتتكم كانت ذكيّةً في الإشارة إلى الإيقاع الداخلي الذي تثيره التجمّعات الصوتيّة حين قلتم: " أقصد حرف العين الذي تكرر في هذا البيت ثلاث مرات في الكلمات (دمعي) و(الداعي) ثم الفعل الماضي (دعا)." ،إلّا أنّ الأولى ذكر التجمّعات الصوتيّة للّام،والباء،والدال،ثمّ العين،لأنّ حرف اللام قد تكرّر خمس مرات في:(طلل) و(فلباه) و(قبل) و(الإبل) ،وأنّ الباء قد تكرّر خمس مرّاتٍ أيضاً في(أجاب) و(فلباه) و(قبل) و(الركب) و (الإبل) ،وهما أكثر من العين في تكوين التجانس والتماثل الصوتي في هذا البيت.

 

2 – قلتم في تفسير بيت المتنبّي الآتي:

 

وعذلتُ أهلَ العشق حتى ذقته

فعجبتُ كيف يموتُ من لا يعشقُ

" حسب نقاد المتنبيء أن الشاعر قد أخطأ في معنى هذا البيت. غيرأني وجدتهم على شطط من الأمر. لقد إفتروا على الرجل جهلا أو حقدا عامدين. غاية ما في الأمر أن المتنبي قد تلاعب كعادته مشاكسا فغيّر السياق الزمكاني لأداة النفي (لا) في البيت كيما يشوش عقول نقاده وحساده ويجعلهم في حيرة من أمرهم واضطراب بحيث يسرفون في التخبط ويتمادون في العمى ثم لا يهتدون. كان هذا هو دأب الرجل على ما يبدو. تفسير البيت كما أراده قائله انما يستقيم باعادة تثبيت وضع أداة النفي (لا) في المكان الذي يستجيب الى، ويستقيم مع تسلسل أحكام منطق الجملة العربية الذي قد ألفنا منذ ألاف السنين. روح اللغة العربية تفرض على هذا البيت التسلسل المنطقي التالي :

فعجبت كيف ( لا يموت ) من يعشق

 

بدل فعجبت كيف ( يموت ) من لا يعشق."

 

   ومع أنّ لكم فضلاً في هذا الاجتهاد،إلّا أنّنا نرى غير ذلك، فقد ارتبط الحبّ ُ عند العرب لاسيّما المتصوّفة بالموت،وهو ارتباط أعلى درجة من ارتباطه بالعذريين، ومعروفٌ قبل المتنبي وبعده. ومع أنّهم يبالغون في جعلِ القتل مصير العاشق، إلّا أنّهم يواصلون إيراد اللهيب الذي يلذع قلوبهم حتى يقودها إلى الموت اختياراً.لهذا فهناك علاقة ترابط بين الحبّ والموت يكشفها شعرهم على نحوٍ واضح، فالحلاج (الذي عاش قبل المتنبي بما يقارب من خمسٍ وأربعين سنة) قال:

                      أقتلوني يا ثقاتي      إنّ في قتلي حياتي

                      ومماتي في حياتي    وحياتي في مماتي

 

وابن الفارض الذي يلقّب بـ(سلطان العاشقين) ومات بعد المتنبي بما يقارب من مئة وثمانين سنة كان يرى أنّ موته في حبّ معبوده هو الحياة الحقّة، كما في الأبيات الآتية:

1 – فعش خالياً فالحبّ ُ راحته عنا

وأوّله سقمٌ  وآخره قتلُ

2 – فمن لم يمت في حُبّه لم يعش به

ودون اجتناء الشهدِ ما جنت النحلُ

3 – إنّ الغرامَ هو الحياة ُ فمت بهِ

صبّاً فحقّكَ أن تموتَ وتعذرا

4 – فدعْ عنكَ دعوى الحبِ وادعُ لغيرهِ

فؤادك وادفعْ عنكَ غيّكَ بالتي

وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن

وها أنتَ حيّ ٌ إن تكنْ صادقاً  مُتِ

5 – مابين معتركِ الأحداقِ والمهج ِ

أنا القتيلُ بلا إثمٍ ولا حرَج ِ

 

فليس من داعٍ إلى تخريجكم القائل:

فعجبت كيف ( لا يموت ) من يعشق

لأنّ البيت سيكون ساذجاً فجّاً،فضلاً عن إخراجه من دائرة إيقاعه الوزني إلى الخلل العروضي.

 

أمّا قولكم " قد لا نشتط كثيراً أنْ غامرنا بالقول إنَّ المتنبي كان في هذا البيت وأمثاله قد سبق زمانه بعشرات القرون فتمكن من وضع الأساس الأول لقصيدة نثر زمننا المعاصر مكتشفا سحر تأثير آليات التلغيز السوريالي والتقديم والتأخير والتلاعب في أماكن الحروف في الكلمات وأماكن الكلمات في الجمل."

فنقول: إنّ الشطط كان واضحاً، بل كان جوراً على  احمد بن الحسين القائل:

وما الدهرُ إلّا من رواةِ قصائدي

إذا قُلتُ شعراً أصبح الدهرُ منشدا

 

فسار بهِ من لا يسيرُ مشمّراً

وغنّى بهِ من لا يُغنّي مغرِّدا

 

فإذا كان الدهر من حملة شعره، والألسنة تتناقله على مرّ الأوقات، وكان شعرهُ ينشّط الكسلان إذا سمعه فيسيرعلى سماع موسيقاه مشمّرا ً، أفيكتبُ قصيدة نثر ٍ منفلتة من عقال التقنين الموسيقي الذي بُني الكون عليه كما يقول فيثاغورس؟

لا ياسيّدي...لقد جرتَ وغاليت !

مع تقديري لما بذلتموه من جهد في هذه الدراسة، ولعلّ ملا حظاتي كما ألمعتُ لن تقدح ببحثكم القيّم هذا.

 

مع تحيّاتي. 

 ........................

للاطلاع:

    لغة الشعر وآليات الأبداع / د. عدنان الظاهر

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1512 الجمعة 10/09/2010)

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم