صحيفة المثقف

إياك نعبد وإياك نستعين / عبد الله المالكي

التي تمكن أصحاب الحل والعقد من التوصل إلى علة الأشياء والواقع الذي تؤول إليه، ولهذا انتشرت الأخطاء التي تبين أن أصل العبادة يمكن أن ينتهي إلى علته الحقيقية والمتمثلة في واجب الوجود جل شأنه بما يضمن النهج والمصالح دون النظر إلى مقدمات أحداثها. وعلى الرغم من تحسين هذا السبيل في نفسه إلا أنه يجعل أمر التصديق به لا يتعدى إلى أكثر من الأوجه الشكلية التي بني عليها الدين من وجهة نظر الباحث الذي لا يرقى إلى الدخول العرضي المراد من العلل وفوائدها وصولاً إلى منتهاها الذي يحدد المنافع التي تصل إلى العبد دون الخالق سبحانه.

 

وعند التزام هذا الطرح يظهر أن قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56. لا يوحي بأن علة الخلق تترتب على العبادة بمفهومها العرفي وإنما يبين أن العدول من هذا النهج يمكن أن يرد إلى العباد ايجاباً لا سلباً، وذلك إذا أخذنا مجانبة أقوال من جعل علة العبادة هو الخالق سبحانه دون عباده، وعند التسليم بصحة ما ذهبوا إليه فإن الحياة سوف تعتمد الصوامع والبيع والصلوات والمساجد دون أن تسير الحياة وتصل إلى ما وصلت إليه، وأنت خبير بأن هذا هو منطق أرباب الدين الذين لا يفقهون سوى الشعارات التي لا تفرق بين العبادة الحقيقية وبين العبادة الصورية التي اتخذت كمهنة لمن لا مهنة له.

 

ولو كان هذا النهج صحيحاً كما يظن هؤلاء لجعله الله تعالى سبيلاً إلى طاعته، ولكن الحقيقة خلاف ذلك، والقرآن الكريم يؤكد الوجه الذي نريد اثباته ههنا، ويمكن استظهار هذا النهج من نهيه تعالى لنبيه "صلى الله عليه وسلم" من عدم مجاهدة المشركين حسب الطرق المألوفة لدى الناس آنذاك والتي ترد نتائجها إلى قهر الأجساد دون الأفكار التي تحتاج إلى تصحيح يزيل ما تعلق بها، ولهذا خاطبه سبحانه بقوله: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين***إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) الشعراء 3-4. وكذا قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) الكهف 6. وقوله: (فذكر إنما أنت مذكر***لست عليهم بمصيطر***إلا من تولى وكفر***فيعذبه الله العذاب الأكبر***إن إلينا إيابهم***ثم إن علينا حسابهم) الغاشية 21-26.

 

 ونهجنا ظاهر في الاستثناء المنقطع الذي انتقل به القرآن الكريم من النبي "صلى الله عليه وسلم" إلى الحق سبحانه. وقد تبين من اجتماع الآيات أن الله تعالى لم يقهر الناس على عبادته بل جعل الأمر لا يتعدى إلى أكثر من التكليف الذي ترد منافعه إلى الإنسان نفسه، وبهذا يظهر الفرق بين العاصي الذي يجعل الحياة أشبه بهشيم المحتظر، وبين المطيع الذي يسعى إلى خلق مجتمع فاضل تبنى قوائمه على الأسس الصحيحة. فإن قيل: هناك مجتمعات كثيرة قد وصلت إلى ما وصلت إليه من الحضارة دون الأخذ بأسباب العبادة العرضية التي بينتها؟ أقول: الأخذ بأسباب الحياة قد يجعل المجتمعات تصل إلى تحقيق ما تريد دون النهج المثالي الذي سوف يؤتيه الله تعالى إلى عباده المخلصين عند الاستخلاف في الأرض كما قال: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) النور 55. وقوله تعالى: (يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) هو المصداق الأمثل لقوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) فاتحة الكتاب 5. وتقديم المفعول في الآية يفيد الحصر أي أن العبادة لا يمكن أن تكون إلا لله سبحانه وتكرار المفعول في الاستعانة يُظهر التتابع اللازم في أخذ العون منه تعالى، باعتبار أن التلقين في السورة قد انتقل من الغيبة إلى الخطاب لأن مقام العبودية يحتاج إلى المواجهة الفعلية بين العبد وربه، فبعد تعليمه حمد الله وربوبيته للعالمين ورحمته بفرعيها وملكه ليوم الدين ونفاد ملك غيره المبين على سبيل الغيبة، انتقل إلى الخطاب الذي يختص بالتوجه الحقيقي إليه جل شأنه.

 

ويطلق على هذا الانتقال "الالتفات" في علم البيان، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: (عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهورا) الإنسان 21. ثم التفت إليهم في قوله: (إن هذا كان لكم جزاءً  وكان سعيكم مشكوراً) الإنسان 22. وسبب الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ظاهر في استحقاقهم لهذا الجزاء، وقد نجد العكس من هذا في قوله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك... "ثم انتقل من الخطاب إلى الغيبة" في قوله... وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) يونس 22. والسبب في الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ظاهر في عدم استحقاقهم الكلام المباشر الذي ورد في سياق العموم وهذا كثير في القرآن الكريم.

 

من هنا نعلم أن سياق آية البحث قد جعل العبد بين يدي الله تعالى من دون مانع يحول بينه وبين أخذ العون منه جل شأنه، وبهذا تظهر النكتة في ضمير الجمع المشار إليه في "نعبد" وفي "نستعين" وذلك لتعليم الناس اعتماد الحياة الجمعية سواء في العبادة أو في غيرها، ويمكن أن نجد هذا المعنى في كثير من الآيات، كقوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) الملك 15. وكذا قوله: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) التوبة 105.

 

* من كتابنا: القادم على غير مثال

    عبد الله بدر اسكندر المالكي

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1527 السبت 25/09/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم