صحيفة المثقف

الشاعرة الكبيرة لميعة عباس عمارة / قصي الشيخ عسكر

سائر البلدان العربية إذ لم يجتمع في زمن واحد في دولة عربية ثلاثة شعراء رواد كبار مع ثلاث شواعر رائدات إلا على أرض الرافدين، وإذا كانت الشاعرة نازك تغمدها الله بواسع رحمته قد كتبت في الشعر العمودي والحر لكن شعرها العمودي لايرقى إلى مستوى تجربتها الجديدة وإذا كانت عاتكة الخرزجي رحمها الله لم تجرب قط تجربة الشعر الحر بل أعرضت عنه و التزمت العمود وحده فابدعت فيه فإن لميعة عباس عمارة أطال الله في عمرها كتبت في الأثنين فأبدعت وقدمت شعرا ذا طابع خاص بها نابع عن تجربة رائدة فريدة.

نازك فذة في الشعر الحر

عاتكة شاعرة عمود ممتازة

لميعة أبدعت في الحقلين معا

وهنا قبل أن أدخل في المقال الذي هو عبارة عن ذكريات أود أن أبين أن السداسي العظيم الذي تولى مسؤولية التجديد في الشعر العربي المعاصر مثــَّـل أطياف الشعب العراقي الكبيرة تقريبا، فالسياب والبياتي من العرب السنة – ربما البياتي من أصول تركمانية كما يظن بعضهم- وبلند كردي، ليس كرديا فيليا كما يعتقد بعض الناس فجده كان شيخ إسلام زمن الدولة العثمانية ونازك وعاتكة كانتا عربيتين شيعيتين ولميعة عباس عمارة من المندائيين الصابئة وهي ذات معرفة واسعة باللغة المندائية ومدرسة للغة العربية." عندما كنت في المرحلة الثانوية كنت أتابع مقالات لها في مجلة النفط عن اللغات القديمة"

المقال:

في عام 1996 حضرت مهرجان البابطين في أبي ظبي كان كرسيي مصادفة جنب كرسي لميعة عباس عمارة فرأيتها تتخذ موضعا أقرب ما يكون ظهرها باتجاهي ووجهها من الناحية الأخرى قالتفت إليها وقلت:

من الأصول أن يكون وجهك  نحوي فنحن الآن جيران!

فابتسمت وقالت بطيبة قلب كأنها تعرفني منذ زمن بعيد:

معك حق " وضحكت ثم أردفت "

ا701-qusلمشهد حدث لي بالضبط مع نزار قباني كان موضعه جنبي لكنه جلس ووجهه باتجاه الناحية  الأخرى فقلت له من الأصول أن لاتعطي ظهرك إلى الآخرين عندئذٍ التفت نحوي قائلا: سيدتي صدري أجمل، فبسطت يدي ورفعتهما نحوه وأجبت وانا أغمّه:

 لادفاتر أشعارك" الغمة باللهجة العراقية أن تبسط المرأة يديها في حال كونهما متجاورتين مفتوحتي الراحتين وتدفعهما نحوالرجل استهزاء وتقول: أمِّداك أو أم أو تكتفي بالحركة فقط، كان نزار يلمح إلى قوله إني خيرتك فاختاري مابين الموت على صدري ... لكن شاعرتنا قطعت عليه غروره بسخرية أشد"

 توقفنا عن الحديث حين صعد المنصة أحد المحاضرين وفي اللقاء الثاني معها خلال فترة الاستراحة، قلت لها:

لقد قرأت في بعض الصحف ان السياب كان يحبك فهل هذا صحيح؟

قالت : ربما من جانبه هو فأنا لم اشعر بذلك الحب ولم أفكر به بل لاعلم لي به إطلاقا.

ولم يلفت نظرك قط؟

لا قط!

قلت: وقرأت أيضا أنه كان يطلق عليك لقب الأمبراطورية لسببين شموخك وجمالك.

قالت: لعله كان يقولها امام زملائه الطلبة في دار المعلمين أما مباشرة فلم أسمعها منه " قولها هذا ذكرني بالجمال والقبح من دون أن أدخل معها في التفاصيل يوم كنا نطلق مسميات على الفتيات الزميلات  ففي كيلتنا في جامعة البصرة كانت هناك فتاة خارقة الجمال رائعة الطول أطلقنا عليها لقب  نسر الجو وحدث أن  أغمي عليها ذات يوم فرفعنا ايدينا وقلنا يارب بكفته ولا بنسر الجو وكفته هو لقب أطلقناه على طالبة معنا قبيحة الشكل"

قلت: هل كنت تقابلينه باحتقار كما تشير بعض الصحف؟

قالت: ابدا أنت تعرف أن الصحف والمجلات تبالغ كثيرا. كانت علاقتنا علاقة زمالة وكل واحد منا يحترم الآخر ويقدره وليس هناك من سبب لاحتقاري إياه. إنه زميلي وأكن له كل احترام وتقدير." وكررت" نحن زملاء يحترم كل منا الآخر.

وفي لقاء ثالث سألتني عن آخر نتاج شعري لي  قلت لها: حين أصل الدنمارك سابعث لك بآخر ديوان  صدر لي لكن معذرة لما ورد فيه من أخطاء فأنا في اوروبا والناشر في دمشق وكثيرا ما أصحح ملازم المسوِّدات ثم ابعثها إلى هناك فاجد الأخطاء ذاتها، كذلك سأرسل إحدى رواياتي!

فابتسمت وعقبت:

ماذا أفعل بالرواية، الشعر نعم!" بلهجتها العراقية الجميلة" الرواية شسوي بيها!

فعرفت أنها لاتقرأ الرواية وربما لاتحبها.

أدناه يجد القاريء الكريم رسالتها التي بعثتها لي من الولايات المتحدة الأمريكية تعرب فيها عن تقديرها لمجموعة عبير المرايا التي طبعتها في دمشق عام 1990 والإهداء المؤثر التي ذكرته الشاعرة هو إهداء الديوان الذي كتبته لوالدي " إلى روح والدي الذي وردني نبأ وفاته بعد سنتين" والسبب هو أننا كنا في دمشق زمن المعارضة  ولم أكن لأعرف أن النظام السابق ٌ اغتال ابي إلا بعد سنتين، والإهداء نفسه أثــَّر أيضا في الكاتبة الكبيرة السيدة غادة السمان كما أشارت  في إحدى رسائلها لي.

وسوف يطلع القاريء الكريم أيضا على رأي مهم للشاعرة الكبيرة لميعة الا وهوقضية الرسم والموسيقى. كنت أتمنى أن أعرف العزف على آلة موسيقية، فقد كنت منذ زمن الثانوية مؤمنا أن الشاعر إذا لم يكن يعرف العزف على آلة موسيقية ما أية آلة كانت فإنه يعد من الأميين ضاربا المثل بالأعشى صناجة العرب والسياب الذي كان يجيد العزف بالناي الأمر الذي حدا بي ذات يوم إلى استعارة عود من صديق لي وعندما حضر والدي وهو ملا  - قاريء حسيني وفي الوقت نفسه وكيل السيد الخوئي رحمه الله-أمر أن يخرج العود – كان رحمه الله يقول إن الآلة الموسيقية المحترمة  هي البيانو اما العود وغيره فهو... فماذا يقول عنا الناس بيت عواده؟" ودعا صديقا لي طالبا منه أن يخرج العود من البيت إلى صاحبه لكي لايراني الناس في الطريق أحمل عودا، وعندما خرج ذلك الصديق حاملا العود  وجد نفسه في الشارع وسط ضجة من الناس فسأل ماهذا فقيل له إن جده الطاعن في السن مات فجأة وها هم يحملون جنازته لغسلها في المسجد عندها كنت اقف امام باب بيتنا واعماقي تهتف اعزف ياصديقي موسيقى جنائزية.

  المهم إن الشاعرة الكبيرة التفت في رسالتها إلى نقطة رائعة هي أهمية معرفة الشاعر للموسيقى: ظنتني رساما وعازفا. لقد تعلمت بعض مباديء العود والبيانو من أجل الشعر ـ الآن نسيت تلك المباديء لعدم ممارستها- وإني أحث أي شاعر على أن يتعلم العزف على اية آلة موسيقية من أجل أن يطـّور شعره كذلك أن يدرس فن الرسم لكني في الوقت نفسه تراجعت عن موقفي السابق ايام الشباب هو أن كل شاعر لايعرف استخدام آلة موسيقية يعد أميا. لقد كان رايا قاسيا متطرفا لامسوغ له.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1539 الجمعة 08/10/2010)

 

 

 

701a
701b

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم