صحيفة المثقف

تفسير سورة البقرة / عبد الله المالكي

التي تقع بداخله وإن كان ارتفاعه متواضعاً، فالعلة ليست في نوعية السور وإنما في الحصن المانع أو المادة التي صنع منها، وهذا ما يجعلنا نقف أمام السور القرآنية بهذا الوجه المثير والمعبر عن علاقة جميع السور بعضها ببعض دون النظر إلى قصرها وطولها، أو اختصارها واطنابها، فكلها تعتبر بمثابة البناء الواحد المؤلف من نفس المادة التي تتحد في نفس الأهداف والغايات، ومن هنا يمكن توجيه قول النابغة:

 ألم تر أن الله أعطاك سورة......ترى كل ملك دونها يتذبذب

 

وقد ورد ذكر السورة في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها) النور 1. وكذا قوله: (وإذا ما أنزلت سورة) التوبة 127. وقوله: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) التوبة 64.

 

أما معنى الآية لغة فهي العلامة الدالة على وجود الأشياء المحسوسة والظاهرة، كما في قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) الشعراء 128. وكذا في قول الشاعر:

 توسمت آيات لها فعرفتها......لستة أعوام وذا العام سابع

 

 وفي العرف القرآني هي وحدة بناء السورة، كما في قوله تعالى: (وأنزلنا فيها آيات بينات) النور 1. وكذا قوله: (وإذا بدلنا آية مكان آية) النحل 101. ولأجل دراسة القرآن الكريم وفهمه على الوجه المطلوب فقد قسم إلى سور وآيات، وهذا لا يتحقق إلا عن طريق هذا التقسيم الذي يجعل الآية الواحدة تحمل أكثر من نقلة وأكثر من معنى وإن كانت هناك أسباب أخرى قد يخرجنا تفصيلها عن موضوع البحث الذي نحن بصدده، أما التحزيب الموجود في المصحف فقد كان بأمر الحجاج بن يوسف كما قيل، حيث أن هذا الرجل كان يهتم في هذا الجانب، ولهذا توصل إلى الكلمة التي تنصف القرآن الكريم وهي "وليتلطف" من قوله تعالى: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً) الكهف 19. ثم استخرج من نفس الكلمة حرف التاء الذي ينصف القرآن الكريم من حيث الحروف، وهذا خلاف التحزيب الموجود في زمن الصحابة "رضي الله عنهم" والذي يعتمد على تقسيم السور دون النظر إلى الآيات، أما جمع القرآن وتقسيمه إلى سور وآيات فهو وإن كان بيد الصحابة إلا أنه أمر توقيفي، لأن الاعجاز يصاحب التفريق وكذلك يصاحب الجمع الذي وصل إلينا وهذا لا يمكن أن يكون إلا بأمر من الله تعالى.

 

وبناءً على ما تقدم يظهر السبب في الطول والقصر الذي ترتبت عليه السور، وكان من نصيب سورة البقرة أن تكون هي الأطول من بين جميع سور القرآن الكريم، وهي مدنية وعدد آياتها مائتان وست وثمانون، وسبب تسميتها بـ "سورة البقرة" لاشتمالها على القصة الشهيرة التي حدثت في زمن موسى "عليه السلام" والتي تظهر فيها آية عظيمة من آيات الله تعالى ألا وهي احياء القتيل الذي أشارت له في قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة...... إلى قوله...... فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) البقرة 67-73. فأسماء السور تؤخذ إما من الحدث البارز في السورة أو من مطلع السورة، وهناك بعض الآيات قد اشتهرت بأسماء أيضاً، كآية الكرسي، الدين، النور، السيف... الخ. وتعد سورة البقرة من أهم السور التي كان لها الدور الكبير في التشريع وهذا ما دأبت عليه السور المدنية التي تعنى بهذا الجانب، وذلك لأن المدينة كانت من أهم مراكز تجمع أصحاب الشرائع الأخرى إضافة إلى المشركين والمنافقين، ومن هنا كان اهتمام السور المدنية بهذا الجانب بخلاف السور المكية التي التزمت جانب العقيدة.

 

وتشتمل سورة البقرة على معظم الأحكام التشريعية سواء في العبادات أو في المعاملات، وقد بدأت السورة بذكر صفات المتقين وما يقابل ذلك من صفات الكافرين ثم بينت صفات المنافقين باطناب وضربت لهم الأمثال لأجل أن تبين الخطر الذي يأتي عن طريقهم، ثم انتقلت للحديث عن بدء الخليقة، وذلك في قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة 21. وتفرع هذا البيان على خلق آدم وجعله خليفة في الأرض وتعليمه الأسماء، كما في قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة...... إلى قوله...... قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 30-38. بعد ذلك انتقلت إلى أهل الكتاب وخاصة اليهود، باعتبارهم الثقل الأكبر في المدينة، وقد بدأت الحديث عنهم من قوله تعالى: ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) البقرة 40. إلى قوله: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) البقرة 124. وفي متفرقات السورة تظهر هناك مجموعة من الاحياءات التي تثبت القدرة الإلهية على البعث بعد الاماتة، كما في قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) البقرة 243. وكذا قوله: (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) البقرة 259. وقوله: (ثم ادعهن يأتينك سعياً) البقرة 260. وقيل إن في هذه الآيات دليل على الرجعة وهذا غير سديد لأنها تتفرع على قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) البقرة 28.

 

أما التشريع فكان له النصيب الأكبر في سياق السورة كأحكام الصوم والحج والجهاد وشؤون الأسرة ثم انتقلت للحديث عن الربا ومدى الأضرار الناتجة عن التعامل به، كما في قوله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا...... إلى قوله...... فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) البقرة 279. ثم انتقلت إلى أطول آية في القرآن الكريم وهي آية الدين التي يقول فيها تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمىً فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل...... الآية) البقرة 282. ثم ختمت السورة بالدعاء، وذلك في قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) البقرة 286.

* من كتابنا: القادم على غير مثال

 

    عبدالله بدر اسكندر المالكي

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1547 السبت 16/10/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم