صحيفة المثقف

ليلة زفاف وردية / عبد الجبار الحمدي

ذات يوم الى مركز كبيرا لشراء ورد القرنفل، الذي يحب عبيره ونقاء بياضه، فقد تعود ان يضع أحدها على ياقته حين يستعد الى السفر، فقد امتهن الجو كطيار يحلق في أجواء مختلفة، تجمعهما حرية الشعور بالانطلاق، كانت هي تشتري الورد الجوري ذو  اللون الوردي كلون بشرتها، هذا ما كان يقول لها بعد أن امتزجت روحيهما معا، وألفا الأيام أهزوجة فرح، أحببت لونك الوردي لأنه يشبهك، ومن ثم تدفقت الأحاسيس كسرب من الطيور تلاصق بعضها ببعض حنانا وعاطفة وحباً، رمز لها السرب كسهم كيوبيد، فربط بينهما ميثاقا أبديا، يعلم جيدا أنها طفلة الروح مرهفة الإحساس، وهذا ما جعلها فنانة لمادة الرسم في إحدى رياض الأطفال، تعشق الطفولة ببراءة الحياة التي تخلو من التقدم في العمر، حين تراه تركض الى حضنه لتشعر بدفء عواطفه، يضمها لأنها ترتب له ضربات قلبه المتسارعة حين سفر، ويسبحا معا في بحر الهيام عشقا عذريا يحتضن لواجعهما، حتى ذات يوم حين جاءها يحمل لها باقة زهور وردية، والتي ما أن رأتها حتى شغفت بها كعادتها في كل لقاء، إلا أن مسحة من حزن طفت على قسمات وجهه عكرت بهجتها، بعد ان أشار ناقوس القلق بداخلها فقالت له: ما بك يا حبيبي أرى في وجهك مسحة حزن، هل حدث شيء؟ كان مترددا في أخبارها، ولكن يجب عليه ان يقول لها، فإن حزنه قد عصر قلبه بعد أن علم بالأمر، كيف له أن يفارقها كل تلك المدة أن عام من الفراق هو بمثابة النفي خارج حدود جنة عواطفهما، شعرت هي بمرارة حيرته، تزامنت معها دموع في أحداق لم تشأ لجفونها ان تغلق خوف إظهار ضعفه، لكن حبه دفع بها لتكون شفيعة له عندها، عصرت قلبها الضعيف شرايين وهنة طالما أسقطتها حين مفاجأة حزن وألم، تعثر السؤال على شفاهها، زحف متوسلا دموعه أن تخبرها عن الأمر، ضمها إلى صدره قبلها، شعرت بلهفته ووجعه، تركت قبلته طعم مرارة فراق، فقالت له: لا عليك حبيبي فقد تعودت على سفرك ولكني أدرك أنك ستعود بعد بضعة أيام لي، حيث واحتي التي أفترشها معك، نعم أني أفتقد باقة الورد هذه ولونها الذي لف روحي فأصبحت وردية اللون، لأنها لامست روحك، أقترب منها حتى أحست بحرارة أنفاسه لهيبا، ... حبيبتي ليس الأمر كذلك، سأخبرك وأعلمي أني سأموت حين غيابي بعيدا عن نهرك الدافئ، لكن المسألة هي أنها أوامر شركة الطيران، فقد أقرت أن أكون مع فريق من الطيارين الذين سيدخلون دورة في لندن ولمدة عام كامل، ربما لغيري يعتبر هذا حلما فبه سيكون صاحب امتياز، لكنه بالنسبة لي نفي بعيدا عنكِ وعن واحتنا حبيبتي، كما لا يمكن أن ارفض فهذا يعني التخلي الكثير من طموحاتنا التي خططنا لها، لذا جئت راميا بثقل همي بين يديك .. أخبريني ماذا علي أن أفعل؟

دخل الصمت بينهما كسارق ليل، بعد ان أخذ كل الأصوات من حولهما، وترك الهواجس تنسل خلسة إلى قلبها محاولة غلق تدفق الحياة فيه، وأمسك بشرايينه منع لجريان الدم إلى رأسها، أوقف السفن التي تحمل الهواء إلى رأسها، أفقدها الوعي، ترنحت وقعت على صدره، لم تسعفه الدهشة على التصرف تطلع إلى مساعدة، لم يكن هناك أحد، أمسك بها هزها بقوة لا .. لا تذهبي بعيدا، لا تتركيني وحدي أرجوك، هيا تنفسي فرك صدرها بقوة، شعر الصمت بأيدي تدفعه إلى الخارج، بعد أن كشف أمره خوفه عليها ولهفته، تسارعت دموعه تستنجد الحياة لها، كان هناك في داخلها من يستمع إلى ندائه، بعد أن أسدل الظلام عليه، لكن رغبة في حياة رفعت الستار، لتفتح عينيها وتقول له: ضمني أليك بقوة، أخذها نحو صدره حتى استعادت النبض من جديد بقلبه هو، فتمتمت يا لك من قاسي، أتريد البعاد بحجج واهية ؟؟ لا ... وقسما بكل لحظة لم يكن في نيتي ذلك، وعلى كل حال سأرفض وليكن ما يكون، فأنا لا أريد شيئا سوى حبك وعش صغير يجمعنا معا، ولن أنسى أن يكون ورديا كحبك لي ... شعرت ساعتها بأن الحياة أعادت شروق شمسها من جديد، واتفقا على أن يكون موعد الزفاف الأسبوع القادم .

تدافعت الأيام فيما بينها فرحا، كلا تريد أن تكون هي يوم ميلاد زواجهما، الغيرة جعلت بعض مكائد تحاك في وضع عراقيل في تعطيل وانتظار، لكن وصول باقات الزهور الوردية لم يتوقف بل زينت صالة الاحتفال في كل أركانه، حتى سميت ليلة زفاف وردية، هو أخبر كل من يعز عليه بقول دعوة حضور يوم ميلاده الجديد، هي دعت كل من كان يشاركها من أهل وأقرباء وأصدقاء عيد ميلادها الجديد أيضا، طلبت ان يكون ثوب زفافها ورديا، أقترب المساء بعد ان لبست النجوم حلتها الجديدة، وشهد القمر بنوره سعادتهما، فأرسل ضيائه بطاقة حب، رقصت نسمات المساء تمايلا على أوتار نغمات سعادة، كانت تنتظر وصوله بفارغ الصب ، ممسكة بباقة الجوري الوردية لتشع شفافة عبقا سرمديا، كانت السيارة التي يقودها تسير بشكل سريع، شعر بأن الوقت يجري وهو يتوانى، زاد من سرعة السيارة، أندفع بها متسابقا مع الزمن، قال له صديقه: أن يترفق بالسير فوقت المساء لا زال طويلا، أجل يا صديقي .. ولكني أشعر أن هذه لحظات تسرق من عمري حين لا أراها بقربي، كم أنا محظوظ بها، آه ... لو تعلم مدى حبي لها لما قلت ما قلت، أدرك ذلك، ولكن عليك ان تسير بمهل حتى تصل سالما له، وتحظى بحلم حياتك، لا عليك أني سيد القيادة كما لا تنسى أني طيار .. ها ها ها ..، بلع صديقه ما تبقي من شعور شجاعة وأصفر لونه بعد ان كاد يصطدم.

الانتظار هو ما تكرهه، فكثيرا ما كان يؤرق مضجعها حين يسافر نبض روحها، وتبقى هي تعد الثواني حتى عودته، كان الانتظار لها حدا قاطعا، قد يسقطها في يوم ليبرهن أنه سيد الموقف، جميع صديقاتها مجتمعات من حولها يضحكن ويهزجن ويهنئن، أما هي ففي عالم غيبوبة ترى أشباح البعد تنغص فرحتها، طلبت الهاتف لتتصل به حتى تشعر بالطمأنينة، كان هو قد شارف على الوصول رن الهاتف، مد يده الى جيبه أخرجه، نعم حبيبتي... سأكون معك لا تبعدني سوى لحظات عقيمة سأدهسها وأكون بقربك، في أثناء استدارة فقد السيطرة على القيادة، ضغط على الفرامل بقوته، أخرجت صوت العجلات  صراخا قويا، سمعته هي.. خرجت مهرولة من غرفتها،  دهش الجميع!! جروا خلفها، تسابقت دون سماعهم وسؤال ما الذي حدث؟؟؟

تسابقت أقدامها خوفا عليه بوقع حادث تصادم، ، قلقها أضاق أنفاسها، تلاشت الأصوات حولها صمت كل شيء، تهاوت هي على الأرض، بعد أن دحرجها الصمت من فوق السلم ليسرق حياتها في مساء زفافها الوردي.

           

 

 

 

     

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم