صحيفة المثقف

جلبرت.. و.. جلبرت / عبد الجبار الحمدي

يخرج كعادته في كل ليلة وصديقه جلبرت الصغير، والذي اكتسب اللقب نفسه، البرد قارص جدا، ووفر الثلج آخذ بالتساقط على شوارع شبعت منه، فباتت تبصقه إلى الخارج، مكونة به تلال صغيرة، كأكداس متاريس على أعتاب بيوت، وشرفات منازل، وباب الكنيسة الكبير، يلبس من الثياب ما يقيه بردا قارصا، يلدغ أبدان عارية المساحة من دثار، يحمل بيده العصا، التي ينير بها مصابيح أعمدة تسمرت قِدَماً، قبل البرد، فكانت كركائز انتظار طويل،  أو علامات دلالة، بعد أخذت عناوين رقمية لمنازل، أو رأس زقاق، أو شوارع فرعية، أما صديقه الذي نال من الحياة بقدر ما سكن مع جلبرت الكبير، العاكف على عمله بشكل دءوب، يشعر أن الليل يخافه، بعد أن يخرج إليه، ليزيح عن شوارع المنطقة كفوفه السوداء، والتي يخفي ما يخفي تحتها حين غفلة من وقت، وتجد بعد أن يسير بشكل متعاقب، ليوقد هذا المصباح، ثم يعمد إلى المقابل منه، فترى النور يسير متباهيا بروعته، متفاخرا بما يقدمه  لأهلها، أما الظلام، فتراه يلملم أفراخ دسائس، ألقيت في عتمة محرمة، او تخطيط مسبق، أشتد البرد  وتصلبت شرايين اقدام وأوردة دافقة بالدم، بعد أن اعتاد وصديقه أن يستريحا في الكنيسة، لتناول حساء ساخن مثل كل ليلة، بعد ان يقوما بإيقاد نصف الشارع الذ يشق المنطقة إلى نصفين متساويين ، قال جلبرت الكبير: أعتقد إننا وصلنا قريبا من الدفء لأجسادنا وبطوننا، آه... ما ألذ الحساء الساخن الآن والدثار الوفير، تطلع الى جلبرت الصغير وقال له: أعلم انك قد تجمدت، هيا تعال الى حضني لأدفأك وتدفئني، ام تراك تصبر على قرصة البرد هذه، ما رأيك؟ إنها مجرد اربعة مصابيح ونصل الى الكنيسة، صاح له أنه سيتحمل تلك المسافة، وجريَ أمامه، وكأنه يرسم علامات على الطريق دلالة همة وجلد، ضحك جلبرت  الكبير وقال: إني اراك يا صغيري جلبرت على غير عادتك، تتحسس الشارع قبلي، فهل هناك شيء ما  شعرت به، أجابه بصوت لم يسمعه جيدا لبعده عنه ولكنه فهم أنه لا يوجد شيء، ولكني احذر مِن في الظلام مندس، أني سأعمد على ضربه إن أمسكت به، آها.. أجاب جلبرت، إذن هناك من ينوي القيام بفعل خطر، دعني أحذر الشرطي هناك، حتى يقوم بواجبه، ولو أن ذلك سيجعلني أعود إلى أول الطريق بعد أن عاقبني قبل فترة يسير في الاتجاه المعاكس، صاح جلبرت الصغير وبعد ان أمسك بتلابيب جلبرت الكبير، لا عليك فنحن معا، نعمل على ضربه، إن سولت له نفسه القيام بفعل دنيء ، رد جلبرت الكبير : اتعتقد انه ينوي سرقة منزل السيد لورن؟ ام السيدة العجوز هيلين؟؟ هز جلبرت الصغير رأسه بعد شك و دراية، لكنه سار قدما نحو عمود النور، الذي يسبق الكنيسة من جهة اليمين، رفع جلبرت الكبير العصا بعد أن فتج مزلاجاً صغيراً لإدخالها لينير المصباح، خطف من أمامه رجل يحمل كيسا، دوت صرخة من المنزل المجاور لص .. لص .. لقد سرقت!!! لم يلحظ إلا وجلبرت الصغير يجري وراء اللص، صرخ نادى عليه، إلا انه لم ينصت لصراخ جلبرت الكبير ، ركض بدوره محاولا اللحاق بركبهما، وراح يصرخ لص في الجوار امسكوا اللص،  دخل السارق تلك المنطقة المظلمة ولكأن الظلام تستر على أحد أبنائه، كان الصغير جلبرت قد شعر برائحة الخوف الصادرة من ذلك اللص، فعمد الى جلبرت الكبير، صارخا.. أنه هناك في ذلك الاتجاه، حيث دخل نحو زقاق مدلهم، وقف جلبرت الكبير ليهدأ من روع جلبرت الصغير قائلاً له: كيف لنا ان ندخل؟ فأنا لا أكاد أرى أصابع يدي!؟ حتى أنت لا أكاد أراك، لولا شمي لبخار أنفاسك ولهاثك ما شعرت بوجودك، ترى ما الذي سنفعله!!؟ أستطرد.. يا لي من أحمق، لقد تركت عصاي هناك ورائي ولا يوجد عندي ما أنير به الزقاق، هل تذهب أنت لتحضر العصا أم أنا؟ لكن في الوقت نفسه أخاف أن يستفرد بك أو بي، هذا اللص اللئيم لينال من أحدنا، لا.. سأبقى معك هنا حتى يحضر الشرطي، فلا مخرج له إلا من خلالنا، وهذا صعب إذا ما أحكمنا سد الزقاق عليه، أو عزمنا معا القبض عليه .. ما رأيك يا صغيري جلبرت؟ كان جلبرت مستعدا لأي أمر يقوله جلبرت الكبير، فقد نال وسام الشجاعة من مجلس المدينة لقبضه على عدة لصوص فيما مضى من السنين، كان الخبر قد انتشر عن هروب اللص وأطلقت صفارات الشرطة، أتهما يسمعاها ولكنها لا تزال بعيدة، اللص سمعها ايضا وضاقت به سبل الهروب فقرر اقتحام جلبرت وجلبرت حتى يخلص نفسه من ذلك المأزق، أخرج سكينه قائلا لنفسه: إنها مجازفة كبيرة ولا يمكنني أن أتساهل، فعلي أن اخلص نفسي مهما كان الثمن، حتى لو قضى الأمر ان أطعن أحدهما أو كلاهما، فلست على استعدا للدخول مجددا إلى السجن، استعد لحين غرة فقد كان يرى جلبرت وجلبرت وهما يسدان مدخل الزقاق، وأدرك أن الأمر يحتاج إلى النيل من أحدهما، أستعد وعزم على الحركة، في تلك الأثناء كان جلبرت الصغير حريصا ان يتقدم على جلبرت الكبير خوفا عليه، وهذا ما شعر به الكبير جلبرت، فقال لجلبرت الصغير: هل تظن يا جلبرت أني سأتركك تواجه هذا السارق وحدك، فأنا أعلم شجاعتك لكن تذكر يا عزيزي أني امتلك الشجاعة والجرأة أيضا، وإلا ما بقيت حيا تلك السنين الطوال وموجات البرد العنيفة، ولكن.. أتظن أنه سيهاجمنا يا جلبرت؟

لم ينتهي من جملته تلك حتى وجد جلبرت الصغير قد قفز أمامه بسرعة البرق ليتصدى للص المندفع بقوة شاهرا سكينه لطعن جلبرت الكبير بها، لأنه الحلقة الأضعف في سد الزقاق الذي وقفا فيه، تلقى الضربة بدلا عن جلبرت الكبير، وفي نفس الوقت أسقط اللص أرضا ودار عراك بينهما، جعل جلبرت الكبير يقف مكتوف الايدى، طالبا المساعدة .. أرجوكم المساعدة أين الشرطة؟ لقد طعن عزيزي جلبرت ساعدونا، كانت المساعدة في تلك الاثناء قريبة منهما، فقد حضر رجال الشرطة نحو صوت الصراخ وتدخلا للقبض على السارق المجرم، سيطرا على الوضع، كان جلبرت الصغير قد بقي على الأرض مضرجا بالدماء من تلك الطعنة، أقترب جلبرت الكبير واضعا يديه على فمه، لا يدري ماذا يقول، ثم أفاضت نفسه بعبارات حبيبي جلبرت صغيري العزيز، لقد فديتني بحياتك يا لك من شجاع، حاول جلبرت الصغير التحرك إلا انج لبرت الكبير أمسك به قائلا: أرجوك لا تتحرك ستأتي عربة الإسعاف قريبا، لكن لا.. سأحملك على صدري وأذهب بك إلى المشفى، هون عليك تمسك بالحياة من أجلي أنا... نعم يا عزيزي .. من أجلي فلا أعرف للحياة طعم من غير وجودك فيها، كانت الدموع قد تساقطت من عيون جلبرت الصغير، وهو يرى جلبرت الكبير جاثيا عليه باكيا حاولا جاهدا ان يقول شيء إلا أن الطعنة أصابت رقبته فلم يكن بمقدوره الحديث، لذا كانت عينيه هي وسيلة الكلام، شعر جلبرت الكبير أن حياة صغيره تنساب من بين يديه، صرخ طلبا للمساعدة، لم يشعر بتجمهر بعض الناس حوله فقد إحساسه بوجود الجميع حتى رجل الكنيسة الذي أحضر دثارا ليغطي به جلبرت الصغير من برد قارص، زاغت عيون جلبرت الصغير .. وهن شيئا فشيئا، تراخت كل عضلات جسمه، وجلبرت الكبير جاثيا يشد من عزمه على المقاومة حتى وصول المساعدة، إلا ان كثيرة نزف أفقدت جلبرت الصغير المقاومة على البقاء، صرخ جلبرت الكبير.. جلبرت صغيري لا تتركني أرجوك.. عد إلي، وقع هو الآخر فوق جلبرت الصغير.

كان ذلك قبل عشرة أيام، وبعد أن أستعاد جلبرت الكبير وعيه، وعلم أن جلبرت الصغير لم يمت، بعد أن حاول الطبيب جاهدا العمل على إنقاذه، وها هما الآن.. يقفان أمام محافظ المدينة، ليسلمها وسام الشجاعة والتفاني بعملهما، بادرة شكر وعرفان من المدينة الى جلبرت وجلبرت، اللذان ما أن وقفا ليستلما الوسام حتى صفق لهما العديد ممن حضر هذا الحفل لتكريمهما، كان جلبرت الكبير سعيدا بعودة الحياة إلى صغيره جلبرت، وما أن ألبس المحافظ الوسام لجلبرت الكبير، حتى أخذه ووضعه في رقبة جلبرت الصغير ... كلبه الوفي الشجاع.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1569 الأحد 07 /11 /2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم