صحيفة المثقف

ما وراء استهداف الرئاسة الفلسطينية

و تفاوتت الاتهامات ما بين اتهامه بضعف الشخصية و بأنه ليس صاحب قرار أو اتهامه بالتفريط بالثوابت الوطنية.القراءة السطحية لهذا الحكم تُستمد إما من طبيعة شخصيته غير الشعبية إلى حد ما ، أو تعود لان أبو مازن غير قادر على تبيان نهجه السياسي بسبب ضعف وهزال الأجهزة الإعلامية التابعة له،أو لأن مشروع السلام الذي نذر نفسه من أجله وصل لطريق مسدود،وربما لكل هذه الأسباب،ولكن نعتقد أن الرئيس أبو مازن مستهدف ليس لهذه الأسباب.هذه الحملة ضد الرئيس أبو مازن تذكرنا بما جرى للرئيس أبو عمار قُبيل محاصرته في المقاطعة ثم تصفيته بالسم على يد الإسرائيليين وبتواطؤ ومشاركة من معارضين له من داخل البيت الفلسطيني بل الفتحاوي.فهل انتهى دور الرئيس أبو مازن وأصبح مطلوبا إخراجه وإخراج نهجه السلمي من الساحة لتعزيز حالة الفوضى في الساحة الفلسطينية و تمكين قوى جديدة من مواقع سلطوية في كانتونات أسست على بقايا وطن وعلى أنقاض المشروع الوطني؟هل كان مخططا أن يكون  أبو مازن مجرد كوبري لمرحلة تم التخطيط لها قبل مجيئه كما حاول البعض جعل أبو عمار وقبوله بنهج التسوية مجرد كوبري لتجاوز مرحلة التحرر الوطني لمرحلة التيه السياسي ؟ هل هناك أطراف توظف القيادات التاريخية التواقة للسلام لتمرير مخططات لا علاقة لها بالمشروع الوطني ولا بالسلام العادل؟.ألا تدل الشواهد بأن نفس القوى ،حتى وإن كانت تبدو متعارضة ومتناقضة، والتي عارضت أبو عمار وتآمرت عليه هي نفسها التي تعارض وتتآمر اليوم على أبو مازن؟!.

 

عندما وقَّع الرئيس الراحل أبو عمار على وثيقة الاعتراف بإسرائيل  وساير نهج التسوية اعتبرته كثير من القوى السياسية الوطنية والإسلامية داخل الوطن وخارجه وحتى من داخل حركة فتح بأنه تخلى عن المشروع الوطني،ولم يتركوا في القاموس العربي  من ألفاظ القذف والتجريح  والشتيمة السياسية إلا والصقوها بالراحل أبو عمار:الخائن ،الجاسوس،عميل واشنطن وتل أبيب،المُفرط بالحقوق الوطنية،والكافر  الخ.كانت صوره تُمزق ويُداس عليها في المسيرات والمظاهرات،كانت الشتائم تُهال عليه في المؤتمرات وعبر فضائيات سعت لكسب مشاهدين على حساب تفكيك ثوابت الأمة العربية والتشكيك بكل ما هو شريف ونبيل في الأمة العربية وخصوصا الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية (الحيطة الواطية)،في ذاك الوقت كان أبو عمار يخوض المعركة السياسية بنفس الشراسة التي خاض بها المعركة العسكرية بدءا من ضفاف نهر الأردن إلى جبل الشيخ وجنوب لبنان مرورا بمعارك الداخل.انحنى أبو عمار وقبَّل يد ورأس الصغير والكبير ،المرأة والرجل، من شعبه ومن قيادات العالم العربي والأجنبي بما فيها رؤوسا كان يجب أن تُداس وأياد كان يجب أن تُقطع ،ولكنه فعلها من أجل فلسطين.في الوقت الذي كان يخوض المعركة السياسية و ينزل ضيفا في البيت الأبيض ،كان يُهرب الأموال لمن يريد أن يقاتل ويجاهد ،و كان يصمت على تسليح وتجييش الذين يشتمونه من الفصائل الفلسطينية وخصوصا حركة حماس،كان يَقبَل أن يُتهَم وتُتُهم السلطة بالضعف على أن يدخل في مواجهات مسلحة مع حركة حماس وهو كان قادرا على تصفية الحركة أو إضعافها بشدة في السنوات الأولى للسلطة لو أراد،لكنه لم يفعلها  لأنه يؤمن بأن لا تعارض ما بين السلام والمقاومة  ولأنه يؤمن بشعبه و أهميته وحدته أكثر من إيمانه بمصداقية إسرائيل بالسلام ،ولأنه كان قائدا حقيقيا للأمة، والقائد لا يسمح بأي اقتتال داخلي أو حرب أهلية،فوحدة الشعب أهم من السلطة.

 صحيح أن الراحل أبو عمار لم ينجح في إنجاز المشروع الوطني لا من خلال سلام الشجعان و لا من خلال المقاومة المسلحة ولا من خلال التوفيق بينهما،ولكن الخطأ لم يكن بالرئيس بالرغم من كثرة الأخطاء في العمل الإداري وسكوته عن الفساد والمفسدين الذين انقلبوا عليه لاحقا، كان الخلل في اختلال موازين القوى مع العدو وفي ضعف وانقسام الجبهة الداخلية وفي غياب الموقف العربي الموحد والداعم للقضية الفلسطينية.انقسام الجبهة الداخلية متعدد الأبعاد : انقسام ما بين سلطة من جانب  ومعارضة من جانب أخر، وانقسام داخل السلطة و داخل منظمة التحرير وحتى داخل حركة فتح، وهو انقسام أدى  لتآمر البعض من قيادات تنظيم فتح على الرئيس أبو عمار. كان هذا الانقسام الأخطر والأشد قسوة على الرئيس أبو عمار والسبب الأكثر تأثيرا في إفشال نهجه السياسي وهو ما كان يلمسه وقد عبر عنه في أكثر من مرة عندما قال (القلاع تسقط من الداخل).

 

بعض القيادات والقوى من داخل تيار التسوية وبعضهم من داخل تنظيم فتح والذين قادوا عملية التشهير بالراحل أبو عمار ودمروا سلطته بالفساد وبالفلتان الأمني و بالجماعات المسلحة التي لا علاقة لها بالمقاومة،وجدوا في غياب أبو عمار فرصة لتمرير مشروعها المتعارض مع المشروع الوطني التحرري فاحتلوا مواقع صنع القرار في السلطة وازدادوا تماهيا مع الرؤية الأمريكية والأوروبية للتسوية. أما حركة حماس بفكرها وثقافتها الأقل قبولا لفضيلة النقد الذاتي والاعتراف بالخطأ -فمن يضفي على نفسه هالة التقديس من الصعب عليه أن يعترف بأخطائه-فقد أسست لشرعية وجودها كسلطة هزيلة ومحاصرة في غزة على أنقاض مشروع وطني ساهمت في تدميره سواء بجهلها السياسي أم بتآمرها المقصود.ما كان يطلبه  أبو عمار من المعارضة وخصوصا حركة حماس في بدايات السلطة وكانت ترفضه ،كالتهدئة ووقف العمليات الاستشهادية في الداخل وخصوصا المتزامنة مع كل جولة مفاوضات ،والمشاركة في الانتخابات ومؤسسات السلطة... ،قبلته حركة حماس والقوى الأخرى في ظل شروط أكثر إهانة وبدون مقابل،وكأن معارضتها لأبي عمار والسلطة لم يكن معارضة لنهج التسوية ولا لفساد السلطة بل معارضة لإضعاف سلطة فتح والمنظمة للحلول محلها أو لتقاسمها منافع السلطة.

بعد مقتل أبو عمار بالسم بدأت بعض قيادات وقوى المعارضة تعترف بخجل بأن أبو عمار كان على صواب وأن إسرائيل هي التي اغتالته،ولكن وللأسف فإن هذه القيادات والقوى لم تمارس النقد الذاتي وتعترف بأنها أساءت للرئيس وأضعفته بما مكن إسرائيل من محاصرته واغتياله.رحل أبو عمار ولم يتنازل عن الحقوق الوطنية ولا عن الثوابت ولا عن فتحاويته الأصيلة،ولو فعلها ما اغتالوه،ولم يغتالوه لأنه يريد العودة للكفاح المسلح بل لأنه أصر على السلام العادل،ولكن يبدو أن قابلية التنازل والتفريط عند منتقديه ممن تآمروا عليه وخذلوه أو لم يفهموه، أكبر واخطر، سواء من طرف حركة حماس والرسائل الواردة من الداخل أو من دمشق وبيروت دليل على ذلك، أو من المتنطعين للزعامة من داخل حركة فتح ومنظمة التحرير والذين دمروا حركة فنح ودمروا السلطة بإفسادها وإظهارها بمظهر العجز عن تأسيس دولة، و شاركوا في فصل عزة عن الصفة، ويلعبون اليوم مع أبو مازن نفس الدور القذر الذي لعبوه مع أبو عمار .

 

 اليوم يتكرر المشهد ، حيث يتم تحميل الرئيس أبو مازن مسؤولية أخطاء السلطة والحكومة وأجهزتها والمسؤولية عن الانقسام وعن فشل نهج المقاومة المسلحة وعن الحصار وعن الاستيطان وتهويد القدس وعن فشل المصالحة الخ،الرئيس في نظر هؤلاء هو المخطئ دائما ويجب أن يذهب، أما هم من قيادات فصائل منظمة التحرير وحركة حماس وحركة الجهاد و النوابت الذين يسمون أنفسهم بالمستقلين الخ فهم الصادقون المُصدقون المناضلون والمجاهدون الذين لا ولم يأتهم الباطل لا من أمامهم ولا من خلفهم وتاريخهم النضالي ناصع كالثلج وانتصاراتهم لا يضاهيها إلا انتصار الرسول عليه السلام في بدر !. نعم أبو مازن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة ورئيس حركة فتح، والحكومة أقسمت يمين الولاء بين يديه ،ولكن قيمة وأهمية الرئيس لا تستمد من رئاسته للسلطة بل من كونه رئيس منظمة التحرير وبالتالي رئيس الشعب الفلسطيني،شرعيته تستمد من رمزيته ومن المشروع الذي انتخبه الشعب على أساسه .السلطة والحكومة أدوات لتنفيذ المشروع الوطني وهي أدوات قد تكون ناجحة أم فاشلة؟ أمينة في أدائها أم متآمرة؟ الخ،مشروع الرئيس أبو مازن والذي لم نسمع انه تنازل عنه هو مشروع الدولة الفلسطينية في غزة والضفة والقدس عاصمة وحق عودة اللاجئين،إن لم ينجح هذا المشروع بسبب اختلال موازين القوى مع العدو أو بسبب الانقسام الداخلي أو بسبب فساد في السلطة أو خلل في الحكومة وفي الفريق المفاوض،أو بسبب خلل تكويني في أساس المشروع،فليس الرئيس وحده يتحمل المسؤولية بل كل الحالة السياسية ولا يجوز أن تُعلق كل أخطاء وخطايا نخبة سياسية مأزومة وفاشلة على مشجب الرئيس .

 

تحاول مراكز قوى حتى من داخل السلطة ومن داخل منظمة التحرير إسقاط عجزها وفشلها على شخص الرئيس أبو مازن، فبدلا من أن يعترفوا بفشلهم وعجزهم عن القيام بمسؤولياتهم الوطنية،يحملون أبو مازن المسؤولية ويزعمون أن ضعفه هو السبب فيما يجري ،هذا القول يذكرنا بقول نفس مراكز القوى هذه قبل سنوات أن الرئيس أبو عمار هو السبب فيما كنا عليه وبالتالي شنوا حملة شعواء عليه سهلت على الإسرائيليين عملية اغتياله.لا نعتقد بأن الرئيس أبو مازن ضعيف الشخصية بل الحقيقة عكس ذلك تماما،فمن يجرؤ على التمسك بالثوابت الوطنية المتفق عليها أمام كل قيادات العالم بما فيها القيادات الإسرائيلية ليس بضعيف الشخصية و من يجرؤ على المجاهرة برأيه دون مواربة كالتنديد بعبثية مدعي المقاومة أو المطالبة بتهدئة أو الإصرار على السلام العادل ليس بضعيف الشخصية ،هذه مؤشرات قوة شخصية الرئيس أبو مازن.أيهما شخصيته ومصداقيته أقوى؟قائد يسمي الأمور بمسمياتها ويصارح الجماهير بالحقيقة حتى وإن كانت الحقيقة تصدم مشاعرها ؟أم قيادات تنافق الجماهير وتكذب عليها وتخدعها بالشعارات الكبيرة حول المقاومة والجهاد فيما هي تدرك أن نهج المقاومة والجهاد بالشكل الذي هو عليه لن يؤدي إلا لمزيد من دمار مقومات صمود الشعب؟.

  إن كان من ضعف في أداء الرئيس أبو مازن فسببه ضعف تنظيم حركة فتح والأزمة التاريخية التي تعاني منها الحركة،مع أننا نحمل الرئيس المسؤولية في هذا السياق لأنه رئيس فتح ، سبب ضعفه حالة الانقسام  ووجود حكومتين وسلطتين،سبب ضعفه وجود قوى ونخب سياسية انتهازية وعاجزة وغير قادرة على اتخاذ مواقف مبدئية وحازمة سواء فيما يتعلق بالمقاومة أو بالسلام والمفاوضات أو بتشكيل حكومة المشروع الوطني بما سيترتب على تشكيل هذه الحكومة من تداعيات قد تضع الحكومة والقوى التي تمثلها في مواجهة مباشرة وساخنة مع الواقع ومع الاحتلال. ليس هذا القول دفاعنا عن الرئيس ولكن حفاظا على مرجعية وعنوان للشعب وللمشروع الوطني في ظل انهيار وعجز القوى السياسية وفي ظل محاولات تدمير المشروع الوطني أو الالتفاف عليه بالوصاية وعيرها .استهداف القيادات التاريخية هو استهداف للمشروع الوطني من خلال تدمير رموزه وقياداته إما بالاغتيال الجسدي المباشر كما جرى مع أبو جهاد وأبو علي مصطفى والآخرين أو بالتغييب السياسي كما جرى مع رئيس المجلس التشريعي عزيز الدويك أو بالاغتيال السياسي من خلال التشويه والإفساد وإظهار القيادة بمظهر العاجز والفاشل كما يجري مع الرئيس أبو مازن أو بهم معا كما جرى مع الرئيس أبو عمار.

 

وأخيرا،إن كان لنا أن نخاطب السيد الرئيس مباشرة،نقول لفخامته إن البعض ممن يحيطون بكم يوظف خطابكم وتوجهكم المبدئي والصادق للسلام لغير صالح السلام ولغير صالح الشعب الفلسطيني،هؤلاء يثيرون الضغائن والفتن بينك وبين حركة فتح و قوى المعارضة ،هؤلاء يشيرون عليكم مشورة سوء عند تعيين السفراء وكبار المسئولين، وأسمح لي سيادة الرئيس أن أقول إنهم يوظفون نهجكم وتوجهكم السلمي بطريقة مسيئة ،وإن تقربهم منكم بما يشبه الحلف يسيء لكم ونخشى أن ينقلبوا على فخامتكم كما انقلبوا على الراحل أبو عمار.ليست إسرائيل وحدها عدو مشروع السلام الفلسطيني الذي تدافعون عنه ونؤمن به، ولا حماس والمعارضة بالضرورة، فهؤلاء المعارضون قد ينافسونكم على قيادة النظام السياسي والمشروع الوطني ولكنهم لن يكونوا حلفاء لإسرائيل،إن أعداء المشروع الوطني هم أولئك الذين يحيطون بكم إحاطة السوار بالمعصم، أولئك الذين فرضتهم وزرعتهم واشنطن وتل أبيب قادة ومسئولين ومكنتهم من السلطة والجاه في زمن الانحطاط السياسي الفلسطيني،إنهم أقرب الناس إليكم فخامة الرئيس ونرجو ألا يكونوا أقرب الناس لقلبكم.

 

د. إبراهيم أبراش

[email protected]

‏05‏/07‏/2009

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1100  الاثنين 06/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم