صحيفة المثقف

محنة الحوار المذهبي بين الفكر الاعتباطي الفوضوي وتوحش التنظيمات الإسلامية المتطرفة (2)

حيث نجد صدقها مع كل مرة ينهض فيها فكرهم من بين طيات النسيان في هذا الجزء أو ذاك من بلاد الإسلام ليوقع بيان ظهوره ويدمغه ببصمات الدم المسفوح عبثا من خلال الهجمات الفكرية والعسكرية التي يشنها على العرف السلوكي المجتمعي السائد، وهو العرف الذي يستسيغ هذا التيار المتطرف الفوضوي اتهامه بالانحراف عن الدين واتهام معتنقيه بالردة والكفر وكل التهم الأخرى التي تخوله شرعية القضاء عليهم دون حساب.

تطرفية هذا الفكر تدل أنه نشأ بعيدا عن الضوابط المعيارية إذ المعروف أن الأفكار التي تنمو خارج منظومات الضبط تنمو غالبا بشكل عشوائي بدائي كما هو واضح في أطروحته، على عكس الإسلام الحقيقي الذي لم يحاول إيقاف النمو وتعطيل الحياة بل عمل على تشذيب أدرانها لتكون قريبة من السلوك الطبيعي. وأطروحات الفكر الإسلامي رغم جديتها وحداثتها واختلافها المبهر عن الفكر الموروث لم تقطع استمرارية الحياة وبالتالي لم تقطع استمرارية عمل العرف المتوارث أو التعامل به ولم تستغل تفوقها لتدمير الماضي بل حافظت تلقائيا على الكثير من شواهده الشامخة ولذا نلاحظ أن حتى تلك الأعمال العظيمة التي جاء بها الإسلام وأبهرت الناس كالتضحية والإيثار والموت في سبيل العقيدة والتسابق للشهادة لم تكن جديدة كليا على المجتمع بل كانت متجذرة في عمق الفكر العربي الأول. وهذا هو ما نقصده بالتواصلية التي توحد التقاليد قديمها وحديثها بدون انقطاع مما يؤكد أن حتى رؤانا وأفكارنا الحاضرة تبدو للمدقق الفطن مؤطرة بأطر قديمة كانت فاعلة في الزمن الأول وكأنها من بنات تلك الأفكار.

نعم هنالك من يظن أن هذا الرأي بعيد عن الحقيقة لأن التقاليد تتغير وتتجدد. وأقول له أن كل التقاليد القديمة تبدو سطحية وساذجة وغريبة إذا نظرنا لها بمنظار الحاضر ولكن حينما ننظر لها بمنظار العلم والعقل نجدها تحمل نفس القيمة العليا التي تحملها تقاليدنا الحاضرة. ولذا أرى أننا مهما تطورنا ومهما ازدادت معارفنا لن نعرف حدود العاطفة وأصول العادات لأن أسرار الاثنين مدفونة في ظلام الزمن وتتراكم فوقها طبقات التاريخ السحيق. لكن ذلك يزيدنا قناعة أن النظام الاجتماعي المعاصر تساهم عادة في خلقه مسببات لها جذور ممتدة إلى عمق النظم الاجتماعية الأولى وإنه في حراكه ليس مقطوعا عن تلك الجذور.

لم يدفع إقرار الإسلام لبعض الأعراف بها إلى الواجهة فقط بل جعلها موضع قدسية عالية أعطتها قوة مضاعفة لكي تتأقلم مع الضرورات الاجتماعية العامة حتى أصبحت في بعض مراحل تألقها تتساوق وتتماهى مع العرف الديني ولا تفرق عنه أو تختلف، ولذلك وجد بين المسلمين عبر التاريخ من يجهل أصل العرف الذي يتعامل به فيما إذا كان دينيا أم تاريخيا.

تسامحية الإسلام ونهجه اللين الذي كان أحد الأسباب التي أقرت بعض الأعراف ولم تنسخها كان سببه الإدراك الإسلامي أن الحاجات الفردية والمجتمعية لا يمكن أن تمنع أو تحول الظروف الاجتماعية والتوازن الحياتي دون قضائها وأنها لابد أن تجد لها منفذا لتمرق من خلاله مهما اشتدت صرامة السلطات وقوانينها. لذلك كان الإسلام لينا سمحا لأنه يدرك أن قساوة الأخلاق التي منبعها التحدي الذي يولده الخوف على تلك الأعراف أن تزول أمام هجمة الفكر الجديد أكثر خطرا من قبول بعض هذه الأعراف التي لا ضير من بقائها فاعلة في مجتمع مصيره أن يتبدل كليا ويلغي الكثير من القيم الدخيلة أو الموروثة تلقائيا.

عملية الموازنة هذه لم تكن يسيرة في مجتمع مبني على المتناقضات والتطرف. أليس هو المجتمع الذي كان يجل المرأة ويجن عشقا لها ومع ذلك يئدها صغيرة غير آبه لصراخها الذي يفطر القلب؟ أليس هو المجتمع الذي كان يغزو ويشن الهجمات الدموية على أهله وجيرانه ويقطع الطرقات للحصول على قوته وقوت حيواناته ثم يقدم ما كسبه عن طيب خاطر لأول ضيف يقف على باب خيمته وهو يشعر أن الضيف متفضل عليه لأنه قصده دون غيره من العشيرة؟ ألا يبدو هذا السلوك وكأنه اضطراب عقلي بميزان العصر الحاضر؟ لكن هل كان المجتمع آنذاك ينظر إليه بنفس الطريقة أم كان يعده من جماليات القيم والأخلاق التي نشأ عليها ؟

إن تطبع المجتمع على الأعراف والسنن المجتمعية من المسلمات البديهية نظرا لتلائمه مع مسير الحياة العامة، ومحاولات تبديل هذه الطباع ليس بالأمر اليسير وقد أورد الإمام مسلم في هذا الباب عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أنه قال: لا تمنعوا النساء من الذهاب إلى المساجد ليلا. فقال ابن له:لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلا! فزبره ابن عمر وقال:قال رسول الله: دعوهن. وتقول: لا ندعهن؟

وبين الجد والابن والحفيد تجد التفاوت واختلاف الرؤى بشكل يدعوك للوقوف مندهشا أمام ديناميكية التعامل مع العرف، حيث أورد الجاحظ عن خولة بنت قيس قولها: (كنا نكون في عهد النبي وأبي بكر وصدر من خلافة عمر في المسجد نسوة قد تحاللن وربما غزلنا وربما عالج بعضنا فيه الخوص فقال عمر:لا ردتكن حرائر فأخرجنا منه. إلا أنا كنا نشهد الصلوات في الوقت)

هذه الصور التي لا يمكن لك أن تدعي الصحة أو الخطأ لأي منها لأنك لا تعرف الظروف والإكراهات التي دفعتهم لاتخاذها أو محاولة تبديلها بحثا عن الصلاح والمصلحة العامة أو مجرد اجتهاد في الرأي، توضح بشكل جلي أن الحاجات والمستجدات توجب عادة تفعيل أو تغيير بعض الأعراف تبعا لحالة المجتمع وظروفه. وأن الإسلام أباح ذلك بما لا يتعارض مع الشريعة. وإلا ما كان قد وجد في أمة الإسلام في ذلك الزمن الكريم من يحاول اختراق دوائر هيمنة الفكر العام لتبديل عرف ما تبعا لمستجدات الظروف. بمعنى أن الشخصية الإنسانية بطبيعتها لا تقوم على الحتمية لأن الظروف المجتمعية لها قدرة التغيير؟

 

صالح الطائي

كاتب وباحث في الشؤون الإسلامية

[email protected]                  

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1114  الاثنين 20/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم