صحيفة المثقف

العراق: وطن بلا طفولة

بعدما فقدوا أباءهم في حملات التطهير العرقي والقمع السياسي وحروب الطاغية. واليوم لم يتوقف العنف منذ حصل التغيير، وقسوة الاحتراب الطائفي تتحالف مع السيارات المفخخة والتفجيرات اليومية لتقضي على ما تبقى من أحلام الصغار وأماني الكبار. والجيل الجديد، وبنسبة كبيرة، هو جيل المشردين المكبوتين الخائفين والمعقدين والذين لديهم الأستعداد للانحراف اذا وجدوا من يوجههم، وما أكثرهم.ومن هذا الجيل سوف يخرج غدا حكام العراق الجدد..فهل من يسمع قبل فوات الأوان ؟!

 

منذ (29) عاما" واطفال العراق ضحايا صامتون. كان اول ما استلب منهم  هو حياة الطفولة بمرحها وبهجتها والعابها واغانيها. ويحدد تاريخ نشوب الحرب العراقية الأيرانية (1980) بداية هذا الاستلاب الشامل. اذكر انني كنت عام (1978) عضو لجنة مشرفة على برامج الاطفال في تلفزيون بغداد تضم ايضا" الروائية لطفية الدليمي والكاتب باسم عبد الحميد. كانت برامج (الكارتون) تنتقى من مناشىء مختلفة : تشيكوسلفاكيا، بولندا، الاتحاد السوفيتي، اليابان، وامريكا. وكانت البرامج المحلية المخصصة للاطفال هي الاخرى ممتازة مث : لغتنا الجميلة، سينما الاطفال، الشاطر، وبرامج تعليمية اخرى. وكانت اغاني الاطفال تعبّر عن عالم الطفولة ومفرداتها، اذكر منها اغنية تقول: (شوفو شحلو بيدي الطباشير.. شوفو شحلو ارسم عصافير.. رسمت وردة.. وفراشة عالحقل اتطير).

 

بعد قيام الحرب، صودر عالم الطفولة هذا.. حتى اغانيهم ما عادت تنتمي الى عالمهم. اذكر منها اغنية تقول: (في عيد ميلادي ماذا تمنيت ؟.. ان ارتدي ملابس الطلائع، وان ازور جيشنا في جبهة القتال). فأي طفل – بربكم – تكون امنيته في يوم عيد ميلاده زيارة جبهة القتال !.

 

كان هذا اول الاستلابات، اعني عالم الطفولة الذي يشبه عالم العصافير، تلته استلابات اقساها فقدان الطفل لأحبته في جبهة القتال.

 

وكان اخطر خلل سيكولوجي حدث للاطفال المولودين عام 1975 وما بعده انه تشكّل لدى هذا الجيل (يؤلف حاليا بحدود 70% من المجتمع العراقي) صور ذهنية ومعتقدادت  ومدركات مشوهه بخصوص نفسه والاخرين والعالم والحياة، وغير سوية بمواصفات الصحة النفسية للاطفال والشباب. ففي السنوات الثماني للحرب العراقية الايرانية تشكّل لدى الاطفال مفهوم ان العالم عدائي وان الاخرين يريدون افناءه. وبمشاهدته لجثث قتلى الحرب بدءا من برنامج( صور من المعركة) في الثمانينيات، الى مشاهد التفجيرات اليومية في المدن العراقية التي صارت تستهدف المدنيين، تراجعت لدى هذا الجيل( قيمة الحياة) التي كانت مقدسة.

 

اذكر حين كنت طفلا" بالخمسينيات، وانا ابن قرية، حضرت موكب تشيع رجل توفي وهو في السبعين من عمره.. كان الجميع يشعر بالأسف والحزن على وفاته. هكذا كان ذلك الجيل( الكبار حاليا" الذين لا تتجاوز نسبته 30%)، يحترم قيمة الحياة التي انعدمت لدى جيل الشباب. والى هذا السبب اعزو جرائم القتل وبشاعة قسوتها في الاحتراب الطائفي التي قامت بها مليشيات  من الشباب.

 

كنا نأمل ان تنتهي استلابات الطفولة بسقوط الدكتاتورية، لكن ما حصل للاطفال زمن الاحتلال كان اقسى وافضع وابشع. فبحسب تقديرات وزارة العمل فان(4,5) مليون طفل فقدوا والديهم او احدهما، ولم تأوي الحكومة في دور الايتام سوى 460 يتيما".( بالمناسبة، يتيم الحرب لا يعرف من قتل اباه فيما يتيم الاحتلال يعرفه، ولهذا نشأ لدى يتامى الاحتلال دافع الاخذ بالثأر  ولن يخف دافع الانتقام لدى معظمهم ما داموا احياء).

 

وتشير منظمة اليونسيف الى ان اطفال العراق يعدّون اكثر اطفال العالم معاناة من الخوف والجوع والفقر جراء العنف والارهاب والتهجير والاهمال منذ وقوع العراق تحت الاحتلال، وان اكثر من( 360) الف طفل يعانون من امراض نفسية، فيما افادت ممثلة الامين العام للامم المتحدة الخاصة بشؤون الاطفال ان 50% من طلبة المدارس الابتدائية لا يرتادون مدارسهم، و 40% منهم فقط يحصلون على مياه شرب نظيفة.

 

ولأول مرّة في العراق  يتم استخدام الاطفال في اعمال اجرامية بقتل ابناء وطنهم( منظمة طيور الجنة مثلا" !). ولأول مرّة ايضا" يتم بيع اطفال العراق في دول الجوار واخرى اوربية، وتجبر فتيات بعمر الصبايا على الدعاره، ويعرضن للبيع في سوق النخاسه كالفضيحة التي بثها التلفزيون السويدي قبل عامين.

 

ومع كل هذه المصائب هناك من يعدّ موضوع الاطفال قضية ثانوية ازاء وطن منكوب وشعب موجوع مفجوع، مع انه اهم ثلاث قضايا الى جانب الامن والخدمات، لسببين : لأنهم اكثر الفئات الاجتماعية التي يجب ان تحظى بالرعاية في اوقات الازمات والكوارث، ولأن هذا الجيل الصامت الان هو الذي سيكون المتكلم الذي سيحدد مستقبل العراق.

 

لكن واقع الحال يشير الى انهم مهملون. والمفارقة ان معظم المسؤولين في الحكومة ليسوا جهلة، وما كانوا رعاة غنم كبعض اسلافهم، بل جاءوا من مجتمعات متقدمة لا سيما المجتمع البريطاني. وهم يعرفون، اعني الذين جاءوا من لندن، ان الطفل في بريطانيا يخصص له راتب يوم يولد، يوضع في البنك ويستلمه حين يكمل السابعة عشرة مع الارباح المتراكمة، فضلا" عن تأمين صحي واجتماعي، فلماذا ما تعلموا هذا من بريطانيا التي عاشوا فيها سنين ويحملون جنسيات تؤكد انتماءهم لمجتمع متحضّر ؟. لماذا لا يطبقوا هذا العمل النبيل على اطفال بلدهم، والعراق اغنى من بريطانيا عشرات المرات، واطفال العراق احوج من اطفال بريطانيا الاف المرات ؟. هل لأنهم انشغلوا بالسياسة ؟.لكن السياسة تعني فن ادارة شؤون الناس وتحسين اوضاعهم والاطفال احوجهم للرعاية. ولا عذر لهم بضعف الامكانات المادية، فميزانية الدولة بمليارات الدولارات. لا تفسير لها سوى ان الذين صاروا بالسلطة وفّروا الرفاهية لأطفالهم وامّنوا مستقبلهم، وانه ما عاد يعنيهم بؤس وشقاء ملايين الاطفال.

 

وكي نكون موضوعيين، ليست الحكومة وحدها هي المسؤولة عن الاطفال، بل المجتمع بكامله بما فيه الاحزاب والمنظمات وميسورو الحال ورجال الدين. فانا لم اسمع برجل دين  خصص خطبة الجمعة لموضوع اطفال العراق، ولم اسمع بميسور حال فتح دارا" للايتام، ولم أقرأ عن عضو برلمان آثر ان لا يذهب للحج مفضلا" ان يرعى يتامى ليحصل على اجر اكبر.

 

ومفارقة اخرى هي ان الدستور العراقي نص على ان( تكفل الدولة حماية الطفولة وتؤمن لهم مقومات العيش بحياة كريمة) والدولة لم تعمل حتى على تشريع قوانين تحرّم استغلال الاطفال في التسول او بيعهم او انتهاك اعراضهم، بل هي لم تعمل لحد الآن على تفعيل قانون التعليم الالزامي.

 

كلنا صامتون امام هذا الجيل الصامت، وكلنا لاندرك ان مستقبل العراق في خطر، لأن من هذا الجيل سيظهر مجرمون وشاذون ومعقدون نفسيا".. واذكياء شر قد يكون الحل والربط بايديهم، كما حصل !.

 

وما لم تعالج أوضاعهم بصدق، فان هذا الجيل الصامت الذي منه سيكون قادة العراق، سيلعن هامليه من المسؤولين يوم يغادرون السلطة والدنيا.

   

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1115  الثلاثاء 21/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم