صحيفة المثقف

الهدر وسوء التدبير

وكلما أطلّ علينا مكتب منتخب جديد، قروي كان أو حضري، إلا وعلقنا عليه بأمانينا العراض وأحلامنا العذاب التي أحبطتها المكاتب المنتخبة السابقة، أو قصرت في تحقيقها أوبلوغها ورحلت عنا كسابقاتها وتركت أمانينا أما نياً والأحلامنا أحلاماً، وإذا تحقق منها شيء، فغيض من فيض، أو فلتة من الفلتات. فترانا نرنو بأبصارنا إلى الانتخابات الجماعية القريبة التي ستجري في 12يونيو لعلها تكون مختلفة عن التي تعاقبت علينا عبرالأزمان المرة، ولم نظفر مع أغلبها بما تمنيناه، و لم نبلغ ما حلمنا به، فتحمل إلينا مكاتب جماعية مسؤولة بمشارع تنموية مثمرة، و أحداثاً مفرحة أو مفاجآ ت سعيدة، أو تغيرات إيجابية في حياتنا.

 فإذا مجالسنا الجماعية المحلية والإقليمية والجهوية تتكرر وتتماثل، يعدو بعضها خلف بعض، ويكاد الحالي منها يكون صورة مطابقة لسابقه، وبات المرء يستقرئ أحياناً نوع المكاتب المرتقبة من واقع وحال الموجودة أمامه، وما يعايش من فراغها اللانهائي، ووجودها الباهت الرتيب، والخالي من العمق و التجديد، المشبع بالإحبا طا ت المتوالية التي لا تحتمل، ولا يشعر معها المواطن بالأمان والاستقرار..حتى أنك لو سألت أي مواطن مسيس أو غير مسيس عن وجود أو عدم وجود جماعة محلية تمثله وتمثل رغباته الشخصية وتطلعاته الوطنية، لأجابك بعدم وجود مثل تلك المؤسسة، لتحول الكثير منها إلى كعكة تكالبت عليها أفواه المغتصبين والسراق والمارقين وصناع الظلام..حتى أضحت كالوردة الذابلة التي امتصت رحيقها الدبابير الشرهة ولم تستطع أشواكها اللينة درء الأفواه المفغورة لأسراب الغربان والجراد التي التهمت حتى الأعواد اليابسة..

ولعله أمر متفق عليه أن هناك ولدواع معلومة، من يريد وبإصرار أن تبقى جماعاتنا المحلية مليئة بالأجواء والمناخات الباعثة على اليأس والقلق، خاصة باختلاق المشاكل والمشاحنات واتخاذها الدرائع الواهية لإحداث الضجات المفتعلة لشغل الناس والرأي العام بها. وكما هو معلوم أيضاً أن الجزء الأكبر من مشاكل جماعاتنا هي من ذلك النوع الذي يثيره ويقف خلفه ووراءه من يحتكرون النضال والوطنية وينكرونها على الآخرين، أو من بعض من سخروا مواقعهم لغايات وأغراض ودوافع ذات صلة بصراعات أو نفوذ أو مصالح خاصة أو فئوية أو حزبية أو طائفية ومذهبية، والتي يبدو واضحا ولافتا للنظر أن الانتخابات الجماعية المقبلة القريبة اتخذت شكلا سافرا من أشكال هذا الصراع الحزبي المقيت، من اجل الهيمنة على السلطة بها والاستحواذ على ثروات الجماهير في واحدة من اعنف وأشرس الانتخابات على مدى تاريخ المغرب..

ولا شك أن الجزء المتبقي من تلك المشاكل تأتي من بعض المسؤولين- الرؤساء على الأخص- ممن نجحوا بامتياز في شرعنة اللامبالاة إزاء هموم الناس ومتطلباتهم.. الذين ما أن يصل أحدهم إلى هذا المنصب حتى يشعر وكأنه ملك العالم أجمع وسيطر على كل من ينتمون لإدارته، فيدير إدارة الجماعة على حسب أهوائه، وما تمليه عليه عواطفه، فيقرب البعض وينبذ آخرين لمصلحة شخصية تنفعه من وراء موظفيه الذين يتعامل معهم بعقلية الإقطاع والولاء القبلي والحزبي.

وضعية مأساوية تختزن ذاكرتنا صوراً مكدسة منها تستحق الوقوف عندها والسخرية منها. بل البكاء عليها بدمع غزير وحزن مرير، لما عرفته وتعرفه جل الجماعات المحلية من فساد تدبيري ومالي امتد إلى ما وراء الاختلاسات المالية ليشمل العديد من مظاهر"سوء التسيير" من استغلال النفوذ والسلطة و المحاباة والمحسوبية والمنسوبية والإكراه والترهيب والاستغلال وشراء الذمم وتقاضى العمولات ونظام الواسطة وتمشية المعاملات بهدف تحقيق مآرب سياسية أو اجتماعية و عرقلة المشاريع والمساعدات الإنسانية وتحويلها إلى مجموعات غير محسوبة أصلا.

 وإذا أردنا أن نقوم بدراسة علمية عن الكثير من الجماعات المحلية ومجالسها المنتخبة، فلابد أن نكتشف أنها كانت ولازالت السبب الرئيس في قتل كل محاولات التطوير والإصلاح والتنمية بها، وتراجع النمو واستمرار الركود السياسي والاقتصادي فيها جراء الكثير من الممارسات الخاطئة، وعوامل الفساد الإداري والمالي المستشري في جل قطاعاتها والعديد من مصالحها من القمة إلى القاع، ولا شك أن هذان العاملين "الإداري والمالي" على خطورتهما، يكشفان ويحيلان على علة مسكوت عنها، أكثر خطورة منهما، وهي داء "الهدر" الذي أصاب في المقتل أغلب الجماعات المحلية المغربية منذ عصر الاستقلال.  وحافظ على بقائها مترهلة لعقود طويلة، و جعلها تسير في دائرة قاتلة من التخلف المؤسساتي والترهل البيروقراطي. وتكمن خطورت هذا الداء في أنه يمارس بشكل تلقائي من قبل الجميع تقريبا، ولا يثير استنكارا أو انتقادا، بل يمضي فيه الجميع، أفرادا ومؤسسات حتى أصبحت ثقافة الهدر شائعة بيننا في كل شيء، هدر الوقت والمال والجهد والكفاءات والوعاء العقاري..

 فكم من المال يصرف على مناسبات الوجاهة، ومهرجانات "الفنطازيا"، والأنشطة التي لا تتأتى من ورائها فائدة مجتمعية؟ وكم من المال يهدر على أجهزة وأثاثات وسيارات وهواتف نقالة، يمكن أن تصرف في مجالات أخرى ذات فائدة عامة يستفيد منها الإنسان والمدينة؟ كم من الموارد تضيع في ممارسات يومية في أغلب الدوائر والمقاطعات، بدءا من المحروقات المستعملة لأغراض خاصة، وكميات الأوراق المهدورة على معاملات يمكن معالجتها على الكمبيوتر، والأعداد الهائلة من الموظفين الذين يؤدون أعمالا قد لا تحتاج بالفعل إلا إلى جزء بسيط من ذلك الجيش الجرار، إلى جانب المشاريع المتنوعة (التحتية) التي تستبدل بعد سنوات قليلة بمشاريع أخرى بسبب سوء التخطيط، وغياب الدراسات والأبحاث، أو لغايات أخرى في نفس يعاقبة الجماعات.

فإذا وضعنا داء "الهدر" وسوء التسيير تحت المجهر، لوجدنا أنهما السبب الرئيسي في تسرب كل الظواهر السلبية والخطيرة إلى جل عمال وموظفي البلديات بالمغرب وسيطرتها سلبياً على وعي جيل بأكمله، خاصة من ناحية مفهوم العمل ومفهوم الإنتاج، وتراجع ثقافة العمل عموماً وثقافة الإنتاجية خصوصا. حتى مال الكثير من عمال وموظفي الجماعات إلى السلبية والتعامل في أضيق الحدود مع الوظيفة على أساس أنها مصدر رزق ومرتب آخر الشهر عملا بالمثل الدارج " المونة من دار المخزن خارجة"، ويعتبرون أن الوظيف من حقوق المواطنة بمعزل عن قيمة العمل والإنتاج، ودون الانخراط الحقيقي في رؤية وأهداف المؤسسة أو التفاعل البناء معها لخدمة الوطن والمواطن، لذا تراهم يتعاملون مع مؤسساتهم وكأنها مؤسسات خيرية وغير منتجة أنشئت لرعاية العاملين فيها فقط؛ في حين أن للوظيفة العامة واجبات ومسؤوليات هدفها الأساسي خدمة المواطنين وبالمقابل ضمان حقوق العامل والموظف، مما يعني أن الموظف مطالب أن يعطي من أمانته وجهده في عمله بقدر ما يتوقع أن تلتزم جهة عمله بالوفاء بكل ما له من حقوق. فاقتصاد البلاد ودخلها القومي يتأثر بجملة العمل المبذول من قبل الجميع في كل مرافق الحياة، فإذا ازداد عملنا وتحسن الأداء كان الاقتصاد والدخل القومي بخير. لكن الملاحظ أنه في العديد من مرافق العمل والإنتاج التابعة للدولة- والجماعات من بينها- نجد أن مستوى الأداء لا يخرج عن المتوسط في أحسن التقدير، فالأداء اعتيادي لا إبداع فيه ولا تطوير، والروتين والتـأخير وإهدار المال والوقت وفرص التنمية هو سيد الموقف، في حين نجد أن موظف القطاع العام إذا انتقل للعمل في القطاع الخاص نجد أداءه يمختلف تماما، فالأداء أكثر مردودا وأكثر انتظاما. ولتبرير هذا الكسل والإهمال والتسيب الشخصي والجماعي في مواقع الإنتاج والعمل في الجكاعات، أظفى عليه بعض عمال البلديات وموظفيها طابعاً سياسياً ونقابيا حتى يبرروه ويمرروه. بل إنهم سيسوا ونقبوا كل شيء من حولهم، فأصبحت هناك قابلية مؤسفة لعدم الإنتاج في مواقع العمل لأسباب سياسية ونقابية التي أضحت الشماعة التي يعلق عليها البعض تكاسله واهماله وتسيبه، وأصبح بعض السياسيين والنقابين من مسيري الجماعات، عن وعي أو دونه، ينظرون إليه بعين الرضا بدلاً من أن يرفضوه ويوجهوه إلى الفصل بين الموقف السياسي والنقابي وبين التوقف عن الإنتاج كسلاً وإهمالاً وتسيباً يضفى عليه طابع التسييس.. ومن هنا برزت أهمية وجود أنظمة فاعلة وشفافة ذات جدوى لتقييم الأداء والمردودية تتسم بالموضوعية والعدالة والإنصاف، لأنه لا يمكن تحقيق التقدم الاقتصادي في ظل شيوع شعور قوي بالحقوق لا يقابله شعور مماثل بالواجبات. فبقاء الأمور على حالها وعدم حدوث المكاشفة والحوار البناء المبني على النزاهة والصراحة، سوف يؤدي إلى تعميق الفجوة وسيخسر الجميع وبالذات الأجيال القادمة التي ستحمل إرثاً مُخزياً يجعلها تلعن من سبقها مسيرا ومسيرا ناخبا ومنتخبا. ولاصلاح أوضاع العمل والإنتاجية المزرية بالجماعات المحلية وبكل المؤسسات الإنتاجية لابد من كبح فلثان الفساد المتعاظم والمتمادي والمعرقل الأول للنمو الاقتصادي، وهي قضية يجب أن تتصدر أولوية كل رؤية سياسية واجتماعية واقتصادية وتنموية، تروم تحريرالاقتصاد مما يكبله لتوسيع الطبقة المتوسطة، ومعالج تزايد الهوة والفجوة بين الثراء الفاحش والفقر المدقع، بتوزيع ثمار التنمية بشكل عادل وسليم على المواطنين، إنطلاقا من قناعة "أنه لا خير في نمو أو تنمية لا يستفيد منها المواطن".

فالعدالة الاجتماعية تأتي من خلال سياسات اقتصادية وتنموية فاعلة تركز على اقتصاد منتج ومواطن منتج، وقدرة تنافسية وتنمية مستدامة توفر للمواطن السبل التي تمكنه من العيش حياة كريمة ترفع من مستوى معيشته، وهي مسألة يجب أن ترتبط بالتخلص من الأمراض المجتمعية المرتبطة بلعبة المصالح الضيقة والمرهقة للمجتمع..

 فملف العمل والإنتاجية بالجماعات المحلية يستلزم حواراً وطنياً جاداً باعتباره التحدي الرئيسي لعملية التنمية والرؤية الاقتصادية المستقبلية، ويفرض التفكير العميق في تأثير داء الهدر وسوء التسيير على الموارد المجتمعية، وتحديد مواطنها التي قتلت فرصا ذهبية خلال العقود الماضية لتحسين مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وتنويع مصادر خلق الثروات المحلية الوطنية.

 رغبات كثيرة نتمنى تحققها، وأمنيات عظيمة ندعو ليل نهار لبلورتها على أرض الواقع... ولكن ليس بالأمنيات ولا بالدعوات وحدها نحقق النجاح ونصل الى المقاصد خصوصاً إذا كانت مقاصد بحجم التغيير وبمقدار التحولات التي ننتظرها في ظل هذه الأوضاع الإنتاجية المزرية التي اصابها الترهل، وعراها الخلل والعطل، ونخرها التكاسل "المسيس والمنقب" إن صح التعبير.

ولكن رغم كل هذه الحقائق المرة المؤلمة، التي يجب ألا نتجاهلهان علينا أن نعتصم بالأمل، ونواجه واقعنا بعقل مفتوح يعرف ما يريد، وبإرادة صلبة، لا تعرف اليأ س ولا التردد أو التلكك، وأن ننظر إلى واقع جماعاتنا بمنظار الأمل المقرون بالعمل على تغييره نحو الأفضل، ونتفاءل بالمستقبل، ونتطلع إلى جماعات محلية مسؤولة جادة، ونرى أن أرقاها تسييرا وإبداعا هي تلك التي لم نعرفها بعد ولكنها آتية قريبا، لتظل حياتنا تشع بالأحلام، وتظل البسمة ترتسم على شفاهنا، فتحفزنا على المشاركة في سياسة البلاد وتخليقها، وتدفعنا إلى صناديق الاقتراع بكل نشاط وخلق وإبداع..

 

حميد طولست

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1127  الاحد 02/08/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم