صحيفة المثقف

التقاعد= مت وأنت قاعد!

صورة القاعد على الكرسي أمام بيته، والجالس في المقهى يلعب الطاولة والدومينو. والأقسى أننا نوحي له نفسيا بأنه بلغ المحطة الأخيرة، وأن انتظاره الموت مسألة وقت ليس الا!

ومع قلّة راتبه، فان الكفخة النفسية الأقوى التي نسددها له هي أنه يفهم منّا أن التقاعد يعني: مت وأنت قاعد!

وبخلاف العالم المتمدن الذي يعمل على اطالة عمر الانسان، ويشيع لدى من يعبر الستين أنه دخل العمر الذي تتحقق فيه الآمال المؤجلة، فاننا نعمل نفسيا ليس فقط على تسريع الشيخوخة بل على استعجال الموت لمن بلغ الستين. وفيما اكتشفت فرنسا انزيما يجعل الشيخوخة تبدأ في الثمانين! فاننا نهيئ المتقاعد لأن يموت قبل أوانه رغم أن معظم العراقيين عاشوا مثل عمر المدعو جبر، وهو مثل لحكاية عن عراقي دعاه صديقه الانكليزي لزيارة لندن... وحين تمشيا في مقبرة أعمار المتوفين فيها دون العشرين سنة، استوضحه جبر عن سرّ ذلك فأجابه بأن هذه السنوات لا تعني العمر الحقيقي للمتوفي بل تلك التي استمتع بها في حياته. فضحك جبر ساخرا من حياته وقال: إذن، حين أموت أنا ليكتبوا على قبري: جبر... من بطن أمه للقبر!

ان مجتمعنا متخم بالخرافات ومنها خرافة ان من يبلغ الستين يكون من الميتين فيما الحقيقة السيكولوجية تقول ان الشيخوخة يمكن أن تكون سعيدة لصاحبها اذا ظلّ يعمل بنشاطات لها معنى عنده حتى لو تخطى الثمانين. فرائد جراحة القلب مايكل دبغي ظلّ يجري عمليات جراحية دقيقية وهو في الخامسة والتسعين. وبيكاسو ظلّ يعجن الطين وينحت وينتج أكثر من الفنانين الشباب الى أن توفي في الواحدة والتسعين. وفرويد ظلّ يكتب بابداع ونشاط وأنتج «موسى والتوحيد» وهو في الثالثة والثمانين. وبرتراند راسل بقي حتى الثمانينيات من عمره يحاور ويكتب ويتظاهر في شوارع لندن ضد الاستخدامات المدمرة للذرّة. والآخرون المبدعون في تاريخنا العربي والكردي والاسلامي تعرفونهم أكثر مني.

لقد اقترحت على السيد وزير التعليم العالي السابق الدكتور سامي المظفر، بصفتي رئيس رابطة أساتذة جامعة بغداد، أن لا يحال الأستاذ الجامعي على التقاعد الا اذا هو طلب ذلك، لأن الأستاذ حين يبلغ الستين يكون في قمة نضجه العقلي وأوج عطائه الفكري. ورجوته استبدال مفردة الأستاذ المتقاعد بالأستاذ القدوة أو أستاذ الشرف، وأن يبقى على اتصال بقسمه العلمي في التدريس والاشراف والاستئناس بالرأي. وقد استجاب في حينه، وجمّد حالات التقاعد المحالة اليه من الجامعات. غير أن معظم وزرائنا لديهم عقدة أن على الوزير الجديد أن يخالف سياسة سلفه.

والمشكلة أن تقاليدنا تتحكم بنا وكأن لدينا نزعة سيكولوجية احتفاظية حتى بالبالي من العادات. والمفارقة، أن هذا التحكّم يوجّه سلوك حتى وزراء مسؤولين عن التغيير!

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1129  الثلاثاء 04/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم