صحيفة المثقف

نسبية المتشابهات من الآيات / عبد الله المالكي

وذلك لأن التدبر في آيات الكتاب المجيد يضع الباحث أمام هذه البينة، أما الصنف الآخر من المحققين الذين ذهبوا إلى عدم حجية الظواهر القرآنية فقد كان ادعائهم أن في القرآن الكريم آيات محكمات يمكن الوصول إليها دون جهد وعناء، وأخر متشابهات لا يمكن الوصول إليها والاستدلال على مضامينها أو الوقوف على أي نوع من الأحكام فيها، وعند البحث والتحقيق في الفروقات المختلف فيها بين المحكم والمتشابه يظهر لنا أن التشابه في القرآن الكريم لا يمكن اعتماده في كل الظروف وجميع المناسبات، فما كان بالأمس محكماً أصبح اليوم متشابهاً، وذلك لبعد الناس عن السليقة السليمة للسان العربي وكذلك امتناع البعض عن دراسة أحوال البيئة التي نزل بها القرآن الكريم، وأسباب نزول آياته وظروفها والتعرف على الحالات التي كانت وراء النزول سواء في السلم أو الحرب وهكذا.

 

وعند الرجوع إلى المنبع الأول للسان العرب نجد أن كثيراً من الآيات التي تتشابه على البعض في وقتنا الحاضر كانت محكمة بالنسبة لمن كان حاضراً في عصر التنزيل، كتلك التي تتحدث عن العرش والكرسي ورؤية الله تعالى وغيرها من الآيات التي أصبحنا نجري عليها قواعدنا في المجاز والاستعارة ووضعنا لها بعض الاشارات التي أصبحت علوماً تدرس في مجالات اللغة العربية وخواصها، وذلك بسبب بعد اللسان العربي عن أصالته كما أشرت.

 

من هنا يظهر أن القرآن الكريم لا يحتوي على الآيات المتشابهة، وإنما التشابه يعد من الأمور الطارئة عليه من الخارج للأسباب التي ذكرتها، ولهذا استغل أعداء القرآن هذه الأسباب لأجل التضليل من خلال ما أصبح يعرف بالمتشابه. فإن قيل: وماذا عن قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) آل عمران 7. أقول: إن الآية الكريمة تثبت نسبية التشابه لا حقيقته، أي أن الذين في قلوبهم زيغ هم الذين يتبعون بعض الآيات التي يجدون فيها المنفذ إلى قلوب الضعاف من الناس، وبنفس الوقت فإن هؤلاء لديهم القدرة على قلب الحقائق والتحكم في الآيات، ولذلك نجد أن الآية آنفة الذكر تشير إلى أن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، أي أنهم حصلوا على المتشابه بواسطة التأويل الذي اتبعوه لايقاع الفتنة بين أتباع القرآن الكريم.

 

أما الصفة التي يمتاز بها القرآن الكريم فهي صفة الاحكام المطلق كما قال تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) يونس 1. من هنا يتحصل أن من وصفهم القرآن الكريم بالراسخين في العلم هم الذين لهم القدرة على رد المتشابه الذي استعمل للتضليل إلى آيات أخرى أطلق عليها المحكمات، وبناءً على هذا لا يمكن أن تكون الآيات متشابهة في نفسها، ولو سلمنا بهذا فلا سبيل للراسخين في العلم إلى معرفتها، فإن قيل: ماذا لو كان الوقف على لفظ الجلالة؟ أقول: لو ثبت أن الوقف على لفظ الجلالة فليس هناك ما يوجب استئناف الكلام، حيث أن الإيمان بالقرآن يتساوى فيه الجميع من راسخين وغيرهم كما قال تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.....الآية) النساء 162. ولو ثبت خلاف ذلك فإن قوله تعالى: [وما يذكر إلا أولوا الألباب] يرده، حيث أن تذييل الآية بهذه الذكرى يفيد أن من وصفهم الله تعالى بالراسخين في العلم يمكن أن يكون لهم السبيل الموصل إلى فهم جميع القرآن، ومن هنا يظهر أن ليس هناك ما يدعو إلى القول بالتشابه في حقيقة القرآن الكريم.

 

فإن قيل: وماذا عن قوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.......الآية) الزمر 23.

أقول: إن التشابه الذي أشارت له آية الزمر يعني التردد بين الترغيب والترهيب، فهو تشابه من وجه آخر لذلك عقب تعالى بقوله:[مثاني] أي أن التركيبة العامة لهذا اللفظ أخذت هذا الاتجاه في الترهيب الذي بعث الخشية في نفوس المؤمنين حتى أخذت جلودهم بالقشعريرة، والترغيب الذي بعث في نفوسهم اللين وكان انعكاسه على جلودهم وقلوبهم، ولا يوجد في الآية ما يشير إلى الذين في قلوبهم زيغ كما في آية آل عمران لأن الجهة منفكة وما يؤكد هذا قوله تعالى: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود 1.

 

هذا ما لدينا وللمفسرين آراء مختلفة حيث يقول: الشوكاني: اختلف العلماء في تفسير المحكمات والمتشابهات على أقوال: فقيل: إن المحكم ما عرف تأويله، وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه مالم يكن لأحد إلى علمه سبيل، ومن القائلين بهذا جابر بن عبدالله، والشعبي، وسفيان الثوري، وقيل المحكم: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً والمتشابه ما يحتمل وجوهاً، فإذا رُدت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً. انتهى. والبحث مطول من أراده فليراجع تفسير فتح القدير للشوكاني.

 

أما الفخر الرازي فقد جاء في آخر وجوه بحثه المطول ما نصه: إن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يتخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني وهو الذي يُكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات. انتهى.

 

وللطباطبائي رأي آخر حيث يقول: أما التشابه المذكور في هذه الآية أعني قوله: [وأخر متشابهات] فمقابلته لقوله [منه آيات محكمات هن أم الكتاب] وذكر الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل، كل ذلك يدل على أن المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعين هي معناها وتبينها بياناً، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، والآية المحكمة محكمة بنفسها، كما أن قوله: (الرحمن على العرش استوى) طه 5. يشتبه المراد منه على السامع أول ما يسمعه، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) الشورى 11. استقر الذهن على أن المراد به التسلط على الملك والاحاطة على الخلق دون التمكن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على الله سبحانه، وكذا قوله: (إلى ربها ناظرة) القيامة 23، إذا أرجع إلى مثل قوله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) الأنعام 103، علم به أن المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي، وكذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبين أن المراد بها حكم محدود بحد الحكم الناسخ وهكذا. انتهى. والبحث مطول من أراده فليراجع تفسير الميزان للطباطبائي.

 

          عبدالله بدر إسكندر المالكي

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1583 الأحد 21 /11 /2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم