صحيفة المثقف

السياسة والحداثة السياسية / علي السعدي

ان لاسياسة دون ممارسة الحكم أو السعي نحو الوصول اليه .

ولكي تسير السياسة وفق انساقها المعروفة، لابد ان تفرز تفرعاتها من وسائل وأساليب كي تستطيع من ثم التعبير عن نفسها، لكن تلك الأنساق تتمظهر في وجهين رئيسين : داخلي وخارجي .

في الداخل الوطني، تكون المؤسسات والأحزاب والتيارات والتكتلات، هي المظهر الأبرز للمارسة السياسية، أما خارجياً، فيتخصص في التعبير عن ذلك مصطلح آخر يطلق عليه (الديبلوماسية)، حيث اللغة الناعمة المصاغة بمفردات أقل ومضامين أكثر تعبيراً، حتى أصبحت

 (الديبلوماسية) تعني في السلوك الفردي: الليونة في القول والدقة في المواقف .

لكن المحتوى الحقيقي للديبلوماسية، انما يكمن في اختيار أنسب الممارسات للتعبير عن أهم المصالح، ذلك مايتطلب رسمه عبر حسابات سياسية تستنبط المهام وتحدد الأولويات التي تجدول المصالح الوطنية ومقدار أهميتها وكيفية التعبير عنها .

في السياسة كما في غيرها، يعتبرإمتلاك المعلومة بمثابة القدرة على رسم الاستراتيجيات وتأطير التوجهات ضمن مسالك سليمة عموماً، ذلك ماهو متعارف عليه، لكنه في تجارب (الحداثة السياسية) يبدو حالة عامة ليست ملزمة، بل وقد يكون الإلتزام بها خاطئاً أو غير مثمر على أقل تقدير.

مامعنى الحداثة السياسية؟ هل هو مصطلح مشتق من الحداثات الأخرى؟ أم ان له خصوصياته وأسسه؟

منهجيات التفكير السياسي، هي أولى متطلبات الحداثة، وترجمة ذلك تأتي عبر تغيير جوهري في انماط رسم السياسيات، فلا تعود هناك من قواعد ثابتة تستلزم التقيد بها، بل يجري استبدالها بمايمكن تسميته (الركائز)،فإذا كانت القاعدة تمثل المحورالذي ينبغي ان تدور حوله السياسات وبالتالي يتحكم في مساراتها واتجاه حركتها، فان الركيزة هي بمثابة نقطة تجميع لإعادة التقويم وجمع الحيثيات وحساب المعطيات تهيئة لانطلاقات أخرى، قد تكون مختلفة عما سبقها، أو مكملة لها بأساليب مختلفة أو زيادة زخم في الأساليب السابقة – الخ، نستنج من ذلك ان الحداثة السياسية تسير وفق معادلة : لاقواعد، بل ركائز .

ذلك لايعني ان على السياسة ان تتخلى عن (قواعدها) لتتحول من ثم الى انتقائية مناسباتية تتغير حسبما يرتئيه القائمون عليها، لكن يقصد بذلك ان العلاقة بين القواعد والركائز تتعلق بالتكتيكات السياسية، إذ تبقى القواعد بصورة عامة على صلة وثيقة بالاستراتيجيات الوطنية  وهو مايعبر عنه بمقولة (المصالح العليا) التي تنضوي تحت رايتها جميع الأحزاب والحركات والقوى السياسية في البلد المعني كما يفترض .

أما الركائز،فتتمثل بالمقتربات الأكثر صلاحية للتكتيكات التطبيقية التي تمنح الاستراتيجيات مرونة الإستجابة لما قد يحصل من تغيرات قد تطرأ في المسارات العامة لتحقيق المصالح العليا، وبالتالي فهي قد تكون منتجاً حزبياً أومنهجاً لقوى سياسية معينة أو ماشابه، وليست بالضرورة ذات طابع رسمي محصور بالدولة  .

الجانب الآخر في الحداثة السياسية، يمكن صياغته ضمن معادلة : مرحلية المعلومة، جوهرية التحليل .

في التجارب الحيّة المدعمة بالأدلة والشواهد، ان المعلومة السياسية قد لاتكون مهمة بذاتها، وبالتالي يمكن تجاوزها أوعدم الاكتفاء بها لصياغة  المواقف وبناء الركائز، سواء فيما يتعلق بالقوى السياسية داخل البلد الواحد، أوفي العلاقة بين دولتين، أو بين دولة قائمة، وقوى سياسية في بلد آخر .

لكن المعلومة السياسية  ليست على أهمية واحدة أو أنها تأتي ضمن أنساق تراتبية محددة، إذ انها قد تأخذ أطواراً متعددة ينبغي التعامل معها حسب مصدرها والطور الذي بلغته، وفي هذا الجانب، يمكن تقسيم المعلومة السياسية بشكل إجمالي الى مراحل أربعة هي على التوالي :

المحتملة :يطلق على تلك التي ماتزال في طور التوجهات، ومن مؤشراتها، انها تأتي مثلاً، بعد الزيارات التي تقوم بها جهة رسمية في دولة ما، الى دولة أخرى تسمع خلالها كلاماً عن توجه جدي من قبل مسؤولي الدولة الزائرة أو الدولة المضيفة، لتعميق العلاقات بينهما .

المرجحة - حين تدخل التوجهات مرحلة اتخاذ القرار: و يتجسد ذلك بعد توقيع بروتوكولات أو اتفاقيات تعاون ثنائية بصيغة أولية .

المنظورة – حين تتم المصادقة على الاتفاقات وترفق بخطط تنفيذية تفصيلية قبل ان يبدأ الشروع بالإعداد الفعلي للتنفيذ  .

المؤكدة : بعد ان تقطع الاتفاقيات مراحلها الفعلية في التنفيذ، تصبح المعلومة واقعاً،وبالتالي تنتقل من كونها معلومة الى اعتبارها خبراً .

ذلك يرتبط في العلاقات بين الدول حيث الاتفاقات تأخذ طابعاً قانونياً، من دون ان يعني  الألتزام الحرفي ببنود الإتفاقية – جزئياً أو كلياً -  إذ ما استجدت ظروف تمنع تنفيذها أو تعرقله .

 أما بالنسبة لقوى سياسية في علاقتها مع دولة أخرى، ففي العادة تقف المعلومة السياسية عند حدود الوعد أو التوجهات غير الملزمة لأى من الطرفين، وكلّ بمقدار قوته وقدرته على التاثير في الآخر إستمراراً أو تبدلاً في الحاجة اليه، وهي لاتتعدى ذلك المستوى الا في حال وجدت الدولة صاحبة الوعد، مصلحة لها في تحويله الى مرحلة أعلى من الدعم للقوى الحليفة في دولة أخرى، لكن ذلك النوع من العلاقة يبقى قلقاً وعرضة للتبدلات المفاجئة أوالمتسارعة أحياناً كما قد تبدو في ظاهرها، لكنها في الحقيقة قد تكون مستندة الى معلومة أخرى مختلفة المصدر والتأثيرفي الطرف المتلقي  .

من خصائص المعلومة السياسية انها تنحو في الغالب باتجاه العلنية عبرمعادلة طردية : ظهور أكثر / استثمارأكبر، وبالتالي فهي بالضد من المعلومة  ذات الطابع الأمني أو الاستخباري أو العسكري، التي يتوقف نجاحها على مقدار مافيها من التشدد في السرّية  والكتمان .

قد تأتي المعلومة الأمنية كتفرع عن العلاقات السياسية، لكن التعاون الإستخباري لايكون نتيجة حتمية لمتانة علاقات سياسية، إذ قد تحتم مواجهة عدو مشترك سرّي التحرك، ضرورة تعاون إستخباري بين بلدين لاتربطهما بالضرورة علاقات سياسية عالية المستوى – أو ربما على خلاف سياسي - .

-     تراكم الجزئيات / تحول الكليات :لاتستقيم  السياسة على مبدأ كلّ شيء أو لاشيء، انها تهتم بالجزئيات من دون ان تغرق فيها، وتهتم بالكليات من دون الإنشداد اليها، انها والحالة هذه كمن يحرص ان يرى كلّ شجرة في الغابة، لكنه يحرص كذلك على رؤية الغابة كلها (قيل ان نابليون  سئل بعد معركة واترلو عن سبب هزيمته وهو القائد البارع، فأجاب : (لقد رأيت كلّ شجرة في الغابة، لكني لم أر الغابة نفسها) ويقصد بذلك انه غرق بالتفاصيل الجزئية للمعركة من دون ان يولي الكليات إهتماماً مماثلاً .

-     الإبداع والإبتكار : يظهر الإبداع في السياسة كما يتجلى في الأعمال الأدبية او الفنية، ابتكار آني بنتائج مستقبلية، إذ لايكتفي السياسي المبدع بالحسابات المتوفرة أو العوامل المنظورة ليبني عليها مواقفه، بل منهم من يرى بعين خياله، وقوعات لم تكن الظروف القائمة تشي بإمكانية حصولها .

 لقد تحدث جان جاك روسو عن دولة الرفاه والعقد الاجتماعي في وقت كانت أوروبا – وفرنسا خصوصاً – غارقة في الحروب الاهلية والاضطرابات السياسية والانشقاقات الدينية، ولم يكن في الأفق الأوروبي مايشير الى امكانية حصول مايتحدث عنه روسو أو المفكرون الآخرون، كذلك حينما اعلن ابراهام لنكولن عن تحرير العبيد في امريكا وخاض حرباً أهلية أودت بحياة مئات الآلاف من الأمريكيين، لم تكن مناظر الحرائق والدمار والمجاعة والجثث الممزقة مايمكن ان يشير الى ان أمريكا ستصبح في المستقبل هي الدولة الأعظم في الكون .

في العراق، مازالت السياسة تفتقد ابداعاتها، كما تفتقدالكثيرمن العوامل  الواردة أعلاه، فمعظم سياسيو المرحلة، يرفعون المعلومة السياسية الى مستويات يقينية، ويشتغلون بالمنهجيات القديمة التي تنشدّ للمطلقات الموجودة على حساب المرتكزات التي ينبغي العمل على ايجادها، وللمناورات بدل السلوكيات والتشاطر بدل المهارة والتقليد بدل الإبداع، لكنهم ولأول مرة امام فرصة تعديل التليد للانطلاق من ثم الى الجديد فكراً وممارسة  .

    

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1592 الثلاثاء 30 /11 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم