صحيفة المثقف

عراق شكلي – عراق فعلي .. إنطباعات كردية بمشاعر عربية / علي السعدي

بعدها  أتيحت لي زيارة أخرى، بدأتها بمدينة الرئيس (الأول هنا) وأنهيتها بعاصمة الرئيس (الأول هناك) .

  الخارطة الرسمية للعراق، تمتد من أقصى جنوب البصرة، الى أقصى منطقة في زاخو، ذلك يعني ان مظاهر تلك (الرسمية) ينبغي ان تلاحظ في كافة أنحاء تلك البقعة الجغرافية ذات السيادة، ومن أهمها رفع العلم العراقي على الدوائروالمؤسسات الحكومية.

ذلك في الجانب النظري، اما في المشهد  المنظور، فمعالم  السيادة العراقية تختفي  بعد مغادرة كركوك ببضعة أميال نحو السليمانية، لاشىء يوحي بأنك في العراق، يافطات الإستدلال على مفارق الطرق كتبت باللغتين الكردية والانكليزية، لاوجود للعربية ولا للعلم العراقي، ابتداءاً من السليمانية مدينة رئيس البلاد (الكّلي) رمز سيادتها وحافظ دستورها، وليس انتهاءاً بأية قرية أو ناحية هناك .

اللغة الكردية هي اللغة الرسمية الثانية في العراق ومن الطبيعي ان تكون لها الأولوية في مدن إقليم كردستان، لكن مايثير الإنتباه ذلك الإبعاد الشامل للعربية الذي لايتفق وتحقيق المنفعة بمعنييها العام والفردي، مايؤدي الى التساؤل فيما اذا كان ذلك موقفاً رسمياً أو ردود فعل شعبية أو مزيج من الاثنين معاً ؟

الفارق في إجراءت الدخول الى كلّ من المدينتين ظاهر بجلاء، فهو أيسر في السليمانية منها في أربيل، في الأولى تنتهي معاملتك في غرفة واحدة، لايسألك أحد عن مدة بقائك، ولاتؤخذ صورتك أو يفتش بين ملابسك عن شىء متوقع إكتشافه، يكتفون بأخذ صورة لصاحب السيارة دون مرافقيه .

 الدخول الى أربيل يحمل تعقيداً لاتجد مثيله بين الكثير من الدول المتجاورة التي أخذت بمبدأ تسهيل المرور والإكتفاء من الاجراءات بأكثرها ضرورة، أما هنا، فعليك القيام بـ(ماراثون) يقطع الأنفاس، يبدأ من إنحراف المركبات الى ساحة جانبية تحوي سلسلة من القاعات الفرعية، ثم المرور بأربع منها، في الأولى يصورونك ويسألونك، وفي الثانية يكررون سؤالك، وفي الثالثة يدققون، وفي الرابعة يوافقون بعد ان  يحددوا مدة إقامتك ويزودونك بورقة الزيارة (الفيزا) ثم تذهب الى السيطرة القريبة لتنزل من مقعدك ويعاد تفتيشك (من كتفيك حتى قدميك)، اما صاحب السيارة، فيحتفظون بهويته الشخصية الى حين عودته، لابأس بذلك مادام  الثمن أمان وطمائنينة، وان لم نستطع الوقوف على عقوبة المخالفين – أي الذين يضطرون الى التأخر عن مدة الإقامة المحددة، هل يسجنون أم يلاحقون أم يكتفى بترحيلهم خارج المدينة ؟؟ . 

لايعاب على الشعب الكردي إن كان ينظر الى العربية وحامليها بنوع من القلق والخشية، فقد كانت تأتي على شكل عسكري يحمل أداة قتل، أو مخبر سرّي لايؤتمن جانبه، أو أوامر صارمة لاتجوز مخالفتها، أنها باختصار تحمل ضرراً وتهديداً دائمين، ذلك ماعاشه الإنسان الكردي طوال عقود من الحكم الدكتاتوري (العربي)  وتوارثته أجيال الكرد، انه لم ير من العربية سوى وجهها المتجهم، وبالتالي فلا غرابة ان يواجهها بتجهم مماثل.

لكن تغيّرالأزمنة، أنتج بدوره تغيرّاً جوهرياً، لم تعد (العربية) مخلوقاً معادياً يحمل للكرد تهديداً أو ضغينة، انها اليوم لغة شاعر جاء يزور ذلك الشعب ليراه بصورة قصيدة طال انتظار كتاباتها، أو كاتب يبحث عن حقيقة إختفت طويلاً تحت سحب الدخان وأنين الضحايا، أو زائر يبحث عن لحظات هدوء يفتقدها في مدنه المضطربة، أو تاجر يريد تبادل منفعة تجعل الحياة أكثر سلاسة – ذلك لايشمل تجّار الموت من الإرهابيين وانصارهم -  تلك هي العربية وحاملوها، فبماذا يقابلها المواطن الكردي(1) ؟. 

حول مقام السيدة زينب في دمشق، تلاحظ قدرة الباعة وأصحاب البسطات، على التعامل مع الزوار الإيرانيين باللغة الفارسية، لم يأت ذلك بقرار سياسي ولاحبّاً بتعلم تلك اللغة الغريبة عن لغة وثقافة أولئك الباعة، لكنها طبيعة الحياة التي أملاها التعامل اليومي مع واقع المنفعة بجانبها الإنساني  .

الآف من الزوار  يدخلون الإقليم يومياً قادمين من بقية مدن العراق، وهم الأكثر من نوعهم،  تعامل السكاّن الكرد معهم يبدو ودوداً– بل وفيه الكثير من الإنسيابية – تسأل أيما عابر سبيل، فيحاول إجابتك ومساعدتك بما تسعفه به لغته العربية، وهي مقبولة  عموماً عند من هم في الثلاثينات من العمر، وجيدة عند من تجاوز سنّ الأربعين ومابعدها، لكنها تكاد تنعدم بصورة شبه تامة  بين الشباب في العشرينات، ذلك أمر متوقع في ظلّ الظروف التي مروا بها حيث عاشت مدن كردستان عزلة قسرية بعد تسعينات القرن الماضي وبالتالي انقطاع التواصل أو الإتصال مع بقية العراق .

جيل الشباب في كردستان ليس مختلفاً عن غيره، قد لاتعنيه السياسة كثيراً، لكنه ليس بعيداً عن أجوائها، إهتماماته لاتختلف عن مثيلاتها في الدول الأخرى، انه يحرص على التحدث بالكردية، لكن لايبدو عليه توتراً أو نفوراً من (العربية)  يعلن عما يستطيعه في كلمات قليلة وبنوع من الحرج،  ثم يرفع يديه عجزاً أو يستعين بغيره .

الكثير من الشباب العرب في الخليج ومصرولبنان وتونس والجزائر، يستخدمون لغة أجنبية  في أحاديثهم اليومية، وفي بعض المناطق الرئيسة في أكثر من بلد عربي - لبنان ومصروسواهما -، تغيب (العربية) عن يافطات المحال التجارية  لتحلّ محلها الانكليزية أو الفرنسية، كذلك الحديث اليومي الذي ان كان بالعربية، فهو يغصّ بالكثير من كلمات تينك اللغتين فلا تكاد ان تتعرف على (العربية)  فيه، ذلك يحصل في مدن عربية سكانها عرباً ينتمون الى دول تتخذ من (العربية)  لغة رسمية، فما بالك بمدن لها لغتها القومية الخاصّة المعترف بها رسمياً ؟

لاشك ان رفع اليافطات باللغة الكردية وتغييب (العربية) قد تدفع الزائر من مدن العراق الأخرى الى تعلمّ بعض الكردية، وهو أمر طالما اتخذه الكرد مبعثاً لنوع من الشكوى الممزوجة بالعتب في أن نسبة عالية من الشعب الكردي يجيد العربية أو يستطيع التفاهم بواسطتها، كذلك هناك العشرات من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، تصدر باللغة العربية عن مؤسسات كردية، فيما لاتجد مثيلاً مقابلاً عن أية وسيلة إعلام تصدر بالكردية من قبل أحزاب أو مؤسسات عراقية، كما لاحضور للكردية في أي مكان آخر في العراق ولا إهتمام بتعلمّها، فهل من ضير إذا تم فعل ذلك في مدن كردستان وان بحدّ أدنى ؟   .

أربيل مدينة عصرية بطابع شرقي، شوارعها واسعة نظيفة، لاتعاني من اختناقات مرورية، ولامظاهر عسكرية لافتة، انها تعيش متصالحة مع نفسها بدرجة أساس، لكن استعدادها للتصالح مع غيرها يبدو جلياًً، الناس فيها تعيش رائقة المزاج بل ومتفائلة، تغيب عنها الأصوات الضاجّة وأبواق السيارات، نستعيد بإعجاب قصة ذلك السائق السويدي الذي التزم بإشارة السير رغم خلو الشارع في ساعة متأخرة من الليل، في أربيل، ذلك يحدث كتصرف طبيعي من قبل السائقين  إلتزاماً وسلوكاً - عند الكرد والعرب على السواء-  .

لاتجد عناءاً في ملاحظة ان أربيل محافظة بإعتدال، إرتداء الحجاب منتشر بين النساء، لكن من دون تزمت،  فيما السليمانية منفتحة برصانة، لايشكوا مواطنو المدينتين سوى من غلاء المعيشة وقلة المورد، بل ولايتوانى بعضهم عن توجيه انتقادات لاذعة الى حكومة الإقليم  ويتهمونها بالفساد والمحسوبية، لكن وفرة الخدمات والتطور فيها يجعل من تذمرهم أقل حدّة، المعامل النشطة تمتص الكثير من البطالة، ومنها معمل الحديد والصلب في أربيل الذي يأخذ أكوام (الخردة) من بقية المدن، ليحولها مواداً معدنية عالية الجودة تسهم في بناء العراق  .

تحرص أربيل على الإيفاء بما التزمت به دستورياً، الدوائر الفيدرالية تحمل العلمين

(الكردي والعراقي)  ويافطات الشوارع  باللغتين الكردية والعربية، كما تجد أحياءاً مزدهرة، تخطّ يافطاتها باللغة العربية، انها بإختصار مدينة تعيش حاضرها وتخطط لمستقبلها، مدينة قد يحمل أناسها ذاكرة مريرة عن أزمنة مضت، لكنهم ليسوا متشنجين ولاغارقين في السواد، لقد وضعوا المأساة خلف ظهورهم ولم تعد بالنسبة لهم سوى ماض لن يعود الى الظهور، لابصورة متشدد  يخرج من تحت الرمل، ولا تعصب يتسلل من بين الصخور.

تلك ليست مقولة مبعثها التفاؤل، بل هي قراءة لما تعكسه  العملية الديمقراطية التي أقامت تناسباً عكسياً مع مفردات الخطاب السياسي الذي هيمن عليه التعصب والأنغلاق، فقد أظهر المشهد العراقي ان ثبات الديمقراطية وتقدمها، يعني انفتاحاً مجتمعياً يزحزح متكأت التعصب حيث يعتبر الخوف على المصير واحداً من أهم البواعث النفسية  اللاشعورية الكامنة في الفرد كما في الجماعة  .

المفارقة ان المجتمعية العراقية في مكونها العربي،على الرغم من ان العنف بكلّ أشكاله مازال يضرب خواصرها، الا انها سبقت المجتمعية الكردية  في إنحسار خطاب التعصب بنسبة ملحوظة، ما انعكس بدوره على سلوكيات القوى السياسية التي اعتقدت بداية انها قادرة على جرّ مكون بعينه، الى تبني خطابها بمحموله الطائفي المغلّف بالوطنية  وبالتالي الإستعداد لترجمة ذلك عنفاً كما كان عليه الحال بعد  2005، لكنها اضطرت للتساوق مع مجريات العملية السياسية حينما أدركت ان المجتمعية المذكورة بإمكانها التعبير عن نفسها بطرائق أخرى لايكون التعصب من أولى ركائزها ومنطلقاتها .

الخطاب السياسي الكردي، كان يعبرّ عن نفسه بشكل صاخب وبمنسوب مرتفع من المطالب والإشتراطات التي يدخل من ضمنها التهديد بالعودة الى حمل السلاح (قاتلنا خمسين عاماً، ونحن مستعدون للقتال خمسين عاماً  أخرى إذا لم نحصل على كركوك) ذلك ماصرح به أحد السياسيين الكرد في لقاء تلفزيوني، كما تردد في خطوطه العامة على لسان قادة آخرين.

هذا النوع من الخطاب يفترض سلفاً ان المجتمعية الكردية مازالت على تعصبها وتوترها السابقين الذين أملتهما عوامل الدفاع عن النفس بوجه محاولات الإلغاء –السياسي والإجتماعي - التي اتبعتها الأنظمة السابقة ضدهم، وبالتالي فقد لايدرك حجم التغيرات التي طرأت على المجتمعية الكردية التي من الصعب تصور انها مازالت على استعداد للدخول في متاهات المواجهة مع المكونات العراقية الأخرى من أجل البحث عن  اسئلة لم تحسم إجاباتها .

ينعم الكرد بكلّ مايمكن تصوره لشعب حرّ، فهو يمارس السلطة على  نفسه بواسطة حكومة ينتخبها وفق آليات دستورية معينة، ولغته معمول بها في كل مؤسساته الرسمية والمدنية، كما بدأ ببناء مدنه وفقاً لأحدث الخرائط، وتذوق حلاوة العيش وسط ظروف طبيعية قابلة للتطور، كما ان علاقاته مع الشريك الوطني، تتعزز بإستمرار، فيما تأخذ الخلافات جانبها السياسي وأطرها الدستورية القابلة للأخذ والعطاء .

 ان تطور الخطاب الوطني في المكون العربي،لاشك  يسهم في تراجع التشدد القومي عند الكرد، ذلك لأنهم -  الكرد- لايجدون والحالة هذه، موانع مفصلية تحول دون الإنشداد نحو (الوطنية العراقية) التي لاتلغي خصوصيتهم القومية ولا تحاول التصادم معها، على عكس ما اختبروه من  الخطاب القومي (العروبي)، الذي ساهم في ارتفاع منسوب  التشدد في  خطاب قومي مماثل  يكون في العادة أكثر حدّة بإعتبارمايحمله من قلق في مواجهة أكثرية تشهر قوميتها  .  .

ذلك في السياسة، أما المجتمعية الكردية، فعلاقاتها مع العراقيين الآخرين، بدأت تأخذ مسارات دينامية  متصاعدة تتخللها صداقات وعلاقات تجارية وثقافية ومصاهرات وماشابه، وهي كلها  عوامل لابد ان تزيل الكثير من التوترات القلقة التي يخلقها التعصب أو التي تقود اليه .

أمام تلك المعطيات وغيرها ، لايبدو في الإحتمالات مايشير بأن المواطن الكردي على استعداد للتخلي عما وصل اليه، لينقاد من ثم وراء شعارات سياسية، وان كانت قد أدت دورها فيما مضى، فإنها اليوم  جديرة بأن  تدخله في مسارب مجهولة تهدد بؤاد تجربته الحاضرة وحرفها عن مسارها، ذلك لأن الكرد  لن يحصلوا في أفضل التوقعات، على أحسن مما وصلوا اليه ضمن  مرحلة قابلة للثبات والتقدم (فمن يبيع كله في بعضه ؟) على حدّ قول الشاعر العراقي عبد الغفار الأخرس حين  عُرض عليه ان يجري عملية للسانه قد يستطيع الكلام بعدها ان نجحت، وقد يموت ان فشلت، فرد عليهم بقوله الشهير المثبت أعلاه .

الخلاصة، انه عراق فعلي يبنى هناك، فيما عراق شكلي مازال يبحث هنا عن ملامحه المفقودة ، ذلك هو الفارق .

 

......................

(1) يرغب الكرد في كتابة الكلمة هكذا (كوردي) المقتبسة من السومرية (كور) وتعني الجبل، حيث الكلمة منسّبة (كوردي) أي الجبلي كما أطلقها السومريون على سكان تلك المناطق منذ عصور ماقبل الميلاد، مايعني لهم تأكيداً لجذور راسخة ووجود تليد .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1593 الاربعاء 01 /12 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم