صحيفة المثقف

القرصان

فكانت تسري كصدفية هشمت جلد وبدن خلوته .... رنة ... اثنتان ... ثلاث .. تكككك ... تككك ... ترككك..، انها الخامسة صباحا، وأجفان غمرتها أفكار تتطلع فيما لو كان هو سيد الموقف، يحاول ان يكون كذلك في تخيلات وهواجس، عكس ماهيته في يقظة الحياة، ترنحت الآهات بتقلب على جوانب تنحلت خدرا ساعات نوم بأرق متقطعة، فخرجت من باطن دماغه متسائلة!!؟ وفكرة مشيرة إلى شقوق في حوائط مملحة، بجفاف ايام عمره عن متابعة في طموحات مستقبلية، لِمَ تسكن بذور أحلام يقظةٍ أرض بور، فكل خيالاتك هي محض نسيج ليلي، تنتهي بدقات مقصلة الزمن، مد يده لتلمس حائط توطنت بداخله شرائط أحلام، عَرَضَها مئات المرات، مذ كان يراها ذات لونين أسود و ابيض، وهاهي نفسها لم تتغير مع تلون الحياة، عاش تلك الحياة بشكلها الكلاسيكي، خدشت أصابعه قشور منفوخة في جدار مريض، عِلَتهُ أن رفيق سكنه  يهوى ان يكون لديه مصباح علاء الدين السحري .

تجلت له خيالات في سنين جريا وراء سراب، حتى خمدت خنقا أمالا ميتة، تجرع أنفاس بقايا سيجارة من مطفأة صنعها، اكتظ ساكنيها، حتى فاضت بهم تشردا إلى الخارج، وتبعثرا في كل مكان، أزاح عنه غطاء قضمت الفئران منه سما، من بقايا إفرازات جسدية، ملتصقة وفتات حشرات ماتت بعد العيش بفراشه قرون بالية، مع رائحة دخان وعفونة بدن أحبها كونها تبقيه حيا كمومياء، نهض بعد أن فرك عينيه، يعيد مسح غرفته وما تحويه من طاولة أعارها لأرَضَة تشكلت بأحد أرجلها مع صندوق مُسجى على الأرض،عليه علب كلها مملوءة بخرق رطبة، فاحت من بللها بكاء على ضياع سنين، حتى سميت سرابيل بالية، وفرده حذاء نفقتها الأرض وباء، حين يطأ بقدمه عليها عازفة الحياة، قام متكئا ينظر إلى وجهه، في قطعة الزجاج تلك التي صلب فيها انعكاس صورته، والتي يكره أن يراها، لكن لِيُذكر نفسه أن عليه امرا يجب ان يعتاش الموت حياتا ليقضيه، أطلق زفيرا مخرجا عناكب سوداء، دخلت حال نفخه الهواء شقوقا ملئا بجثث أحلام لم تتحقق، فرك فروة رأس أيقظ فيه من كانت قابعة ممتصة أملاً بالحياة، تغوط قذارة هموم ابتلعها ذلة، لسد فاقة وجوع وأجرة سكن قبر دنيوي، تسلح بعكازه الذي أناب عن رجله المقطوعة تلك، التي طارت في حادث غريب بحياة تحمل رونقا، لبس ما كان ينام فيه جلبابا ممزقا، علق في رقبته كيسا يحمل بداخله سنين عجاف، وقبلها سمان، محتضنا إياه بقوة، سلك طريقه المعتاد خارجا من ذلك المنفى، الذي يسكنه وأشباه بشر اعتاد ان يسير بشكل ملفت للنظر، قافزا مخرجا صداً بضرب عكازه على شارع أو رصيف، يعلم أصحاب المَحال بمروره لحظة سماعهم نقر عكازه، ومن خلال ورائحته النتنه وقذارته، الى جانب هيئته، يطلقون عليه لقب القرصان ... يعجبه اللقب!! كان يشعره بالزهو حين ينادونه به، مع طموحات وأحلام يقظة في ساعات شبه نوم، توقف خلف ذلك الكشك، مستندا إلى سور عالٍ، تذوق ملوحة ورائحة جسده فمضغها وأعتادها، كما أعتاد على رائحة بقايا تبول الكلاب عليه ساعات ليل او نهار، وسكارى التسكع الليلي أيضا، كثيرٌ من المارة تشمئز منه، والبعض يترفق بنظرات يحسها هو حراب تطلق نحوه، لم يعبأ دوما إليهم، أو لما يلقونه من كلمات وجمل تذمر وتقزز، فهو قد تلبس هيئته سنين طوال  تاه العد فيها، منتظرا فرصة لانتقام،  لم يرى هيئة غريمه الجديدة، ولا اسمه القديم،  بل يسمع.. جاء السيد الوكيل، سافر السيد الوكيل، أقام السيد الوكيل ,, أفتتح السيد الوكيل، لم يعلم الكثير من الناس من هو الوكيل؟ وماذا فعل به والآخرين؟؟؟ ممن ماتوا حين كان الخيار له بين القضاء عليهم والفوز، او الموت معهم، لهذا قضى للموت أياماً تنهش بأرواح وثقت بالوكيل هذا...، أكثر من ثمانية عشر عاما، وهو يتربص بفرصة لفضح أمره وانتقام، كما شكا للقدر عزوف الموت عنه، وتركه طعاما لآفات الميتين، فكر كثيرا بتسلق السور، لكن رجله المقطوعة منعت سرعة الأخذ بالثأر، شاء القدر في يومه ذاك، أن تكون بوابة السور مفتوحة،  لم يصدق بعد كل هذه السنين! والتنقل من مكان إلى مكان، ومن قبر إلى آخر، أن يتيح له القدر فرصة بعد سنين عجاف، هرع إلى صاحب الكشك سائلا إياه، ألا يوجد أحد اليوم من الحراس؟؟؟ إن البوابة مفتوحة...، نظر صاحب الكشك نحوه وقال: لا عليك سيأتي أحد حراسها ليغلقها، وفي الحقيقة سيأتي أحدهم لأخذ جرائد الصباح مني كعادتهم،  فرد عليه، نعم.. هو كذلك كعادتهم... ثم رد صاحب الكشك اذهب من هنا، إن رائحتك نتنه، ألا تستحم!! لقد سكنت قربي سنين عدة لم اعلم بها انك تتكلم، إلا الآن، ما بك؟ ما هي قصتك؟؟ لا.. لاشيء، ليس لدي قصة، فأنا رجل ضعيف تعس كما ترى، استجدي الناس عون مساعدتي، وسحب نفسه، انتظر برهة ولم يأتي أحد!؟ فعاد وسأل صاحب الكشك، لم يأتي أحد منهم لأخذ الجرائد؟ ولا زال الباب مفتوحا!!

سئم منه صاحب الكشك فقال: لا عليك.. هناك كلاب تحرسه، لا يستطيع احد الدخول، فالكلاب والحراس في كل مكان ..

وفجأة!! قال: أيمكنني أن أأخذ الجرائد وأدخلها للحراس؟ وإذا لم أجدهم فللسيد الوكيل.. ضحك صاحب الجرائد وقال: بمنظرك هذا!!! سيتقيأ لا محالة حين يراك، بل لا يقرأ الجرائد، لأنك تكون قد وسختها بنتانتك هذه،  لم يعر أهميةً لكلامه، بل توسل له أن يعطيه الفرصة، عَلَ الوكيل يشفق عليه ويجعله يعمل في أي مكان عنده، فكر قليلا ثم قال له: حسنا خذها وادخل، وحذارِ من الكلاب فهي شرسة وقد تنقض عليك، سارع بحمل الجرائد وهو يقفز قفزاً، ونفساً وتحدثه، لقد سنحت فرصتك الآن.. هيا يا انتقام اقترب، هيا يا عذابات السنين قومي للأخذ بالثأر،  أسرعي ايتها القدم المقطوعة، سارعي بالخطى، كان القصر بعيدا، والمكان شاسع، والممر عبر هالة من الأشجار، والأرض مخضرة عبقا نديا بأزهار ملونة، لم يشم عبق طبيعيا كهذا، فقد أدارت رائحة الزهور وأشجار الفواكه رأسه،  رأى الكلاب قادمة نحوه جريا، تنبح بصوت عال، لم يعرها اهتمام، بقي سائرا، أما هي فقد عزفت الاقتراب منه لرائحته، فقد فاحت من تصبب مسامات جسدية, المسافة الطويلة، لم تقترب اكتفت بالنباح، لم يأتي احد من الحراس ليرى لماذا تنبح؟ أسرع في سيره، عادت الذكريات نفسها إلى باطن جوفه، لتضيف حموضة وامتعاض فوق ما يحمله من شراً للوكيل هذا، ها هو المدخل قد اقترب، لم يبقى سوى أمتار للصعود إليه، أتكئ على احد جوانب السلم العريض تعباً لاهثاً، أخرج الجرائد من تحت إبطه، ليرى أن الكتابة والصور قد سحقت، نتيجة بللها بعرق جسده، قَلَبها مد يده إلى ذلك الكيس المعلق في رقبته، والذي احتضنه مدة ثمانية عشر عاما،  وضع ما أخرجه بين جرائد وهو أخذٌ في صعود, وصل إلى الباب الكبير، هاله المنظر!!! طرق الباب مرة.. وأخرى، حتى فتح له، لم يرى من فتحه!! ولكن صوت قال: من الطارق؟؟... تلعثم .. وبعدها قال: الجرائد.. لقد أرسلها صاحب الكشك  للسيد الوكيل، وهلةً .. ثم .. أدخلها

رد الصوت من خلال الحاكية، دخل بقدمه المقطوعة، ثم رأسه، شهق لمنظر القصر وما يحويه من تحف وأثاث، وسجاد وأواني خزفية، وتلك النافورة الذهبية وأسماك الزينة، أما الأرض فهي ملساء كأفخاذ فتاة بكر، تذكر غرفته، بل القبر كما يسميه، الذي دفن نفسه بداخله، وهاهو غريمه يتمتع بكل هذا، صاح يا أهل الدار.. لقد جئت بالجرائد، رد عليه نفس الصوت ضعها عندك وارحل، ماذا ارحل؟!!  ولكني جئت طامعا بكرم السيد الوكيل، فأنت لم ترى حالي، وما أنا فيه من بؤس متقع،  لا يهم ضعها وستصلك حسنتك، ..لا .. لا أريد حسنة،  أريد ان ارى السيد الوكيل، أجابه الصوت، عليك الانتظار إذن لمدة طويلة، لقد خرج..، ماذا تقول .. خرج!!! كما سمعت لقد خرج الوكيل، مسافرا الى غير رجعة ... لقد مات فجرا هذا اليوم بأسباب غير معروفة.  

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1595 الجمعة 03 /12 /2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم