صحيفة المثقف

حكومة الولاية الثانية - فخّ كهرمانة ام مقصّ دليلة؟ .. حديث الراح والراحة / علي السعدي

أما الراح الآخر، فهو باطن الكفّ، تلك التي اتخذها شاعر آخر وسيلة لاثبات حبه كما تثبت الأصابع (مثل ماثبتت الخمسة على الراح)، كما يشار في الموضع ذاته الى: الراحة بعد عناء وتعب .

باطن الكفّ، هو مايعنينا في الحديث المشبه بماكان يحدث، فبعد طول عناء إستمر مايزيد عن ربع ألف من ليالي الف ليلة (مايقرب من تسعة أشهر) قضاها المالكي من دون راحة، في مواجهات بطولية لسلسلة من الخصوم (في الداخل والخارج) إستمات بعضهم في عرقلة وصوله الى ولاية ثانية، لكنه في النهاية رفع راح كفه الواحدة، لا استسلاماً، بل ليوجه صفعة معنوية لبعض اولئك الخصوم، ومصافحات فعلية زاد عددها حدّاً جعلت كفه ينوء بالتعب - والمصافحة في الأصل، حركة إستخدمت بين خصمين ليثبت أحدهما للآخر انه لايحمل خنجراً - .

في البداية ظهر المالكي محارباً، يحمل سيفا بيد وترساً باليد الأخرى، لكنه عاد من الميدان لامحمولاً على ترسه كمقاتل اسبارطي، ولا عائداً به، بل يحمل بين راحتيه الكثير من الهدايا التي عليه تقديمها الى خصوم الأمس وشركاء وليمة الغد ممن ينبغي إرضاءهم وهو يرتدي لباس اليوم الثاني، على ماقيل ان وفداً من المسلمين الأوائل ذهب لمقابلة ملك الصين : في اليوم الأول جاء الوفد وهم يرتدون الملابس المنزلية واغطية الرأس الخفيفة، وفي اليوم الثاني إرتدوا العمائم والجبب، اما في اليوم الثالث، فحضروا بكامل عدّتهم الحربية، وحين سألهم الملك عن مغزى ذلك أجاب كبيرهم :

في اليوم الأول جئناك بما نرتديه لأهلنا، وفي اليوم الثاني جئنا بما نزور به أصدقاءنا، وفي الثالث ما نظهر به لعدونا، فبأي موقف تريد أن نكون معكم؟

مرّ المالكي في المراحل معكوسة، إذ بدأها بلباس اليوم الثالث (الميدان) ثم إنتقل الى لباس اليوم الثاني (الديوان) على أمل الوصول الى لباس الخلاّن (الراحة بين أهل) لكن الناس فضلّته في لباس اليوم الثالث، مشهد المحارب، ذلك لأن ماينتظره، كان معارك أشد صعوبة، ففي المرحلة السابقة، حارب من أجل نفسه بدرجة أساس، لتثبيت موقعه في الوصول الى مايراه جديراً بخدمة شعبه، وفيها أيدته الناس وشدّت من عضده حيث وصلت شعبيته ذروتها، أما في مرحلة تشكيل الحكومة، فكان عليه ان يحارب من أجل الناس .

هذا ماينبغي ان يكون عليه أمره، لكن صورته دخلت مرحلة الغباش إن لم يكن الإهتزاز، لقد بدأ ت الأسئلة ترتسم في الأفق: هل كان المالكي مضطراً لإرضاء الجميع؟؟ وعلى حساب من ذلك الإرضاء؟ الا يكفي ان العراق دخل موسوعة (جينز) في أطول وقت لتشكيل حكومة، كي يدخل تلك الموسوعة مرة أخرى كأكبر حكومة في العالم؟ .

أربعون وزيراً ونيّف كانوا مرشحين لدخول الكابينة (وهو الإسم الملطف للمغارة)، ماذا يعني ذلك في الحسابات المتوقعة؟

يعني أربعين مزاجاً مختلفاً ومطامع وطموحات ورواتب وامتيازات ومرافقين ومداهنين ومستشارين، وفوق ذلك والأهم، يُدفع المالكي للإغراق بمقولة (يرضى عبد الله – يزعل شكر الله) وسيصرف على ذلك، الكثير من الوقت والجهد ناهيك بما يتخلله اجتماع لهذا العدد، الذي لو تكلم كلّ منهم دقائق معدودات، فلابد ان اجتماع الوزارة سيستغرق من الزمن مايفوق التصور، فكيف ستسير مركبة كابينتها مزدحمة على هذه الشاكلة؟

وضع كهذا يحول المالكي من لاعب رئيس الى ألعوبة رئيسة، وعندها تدخل البلاد في مخاض جديد، كأن يخشى فيه من ان يضطر لرفع راحتيه الإثنتين أمام هذه الجوقة الوزارية نافرة العزف .

المبدأ ان الوزارة فريق عمل يؤدي كلّ منهم وظيفة محددة، ويعتمد نجاح الفريق بمقدار رشاقته ومرونته الحركية، في المرحلة التفاوضية السابقة، كان فريق دولة القانون بمثابة (جيش فتي رشيق الحركة واضح الهدف، في مواجهة جيوش ثقيلة موزعة الأهداف متعددة الولاءات) – كما سبق وصفه - لذا كان توقع انتصاره منطقياً، أمابعدها، فقد اختلفت المعطيات كما تغيرالموقف، إذ لم تعد الجيوش متقابلة في الميدان ، بل هي تزدحم في الديوان، ولا ترتدي عدة الحرب المعهودة، بل ثياب الإستقبال، لكن من قتلوا القيصر كانوا كذلك يرتدون الأبيض رمز السياسة لا الأحمر رمز الحرب .

من ينصح المالكي بأن مايفعله لم يكن صواباً؟ قطعاً لا احد ممن حوله، فمعظمهم مشغول بمحاولة دسّ أنفه في هذه المغارة المليئة ذهباً، وعندها فلامانع لو تشكلت الحكومة من مئة وزير، مادامت الحصص محفوظة لأصحابها وكلما كثرت الوزارات زادت الفرص .

المعركة التي خاضها المالكي كانت واضحة المعالم، لذا انتهت الى إقرار برئاسته للحكومة – وان بثمن ليس قليلاً - .

هناك ماهو غير طبيعي، شىء مبهم أفرزته حسابات مرتبكة ، لقد صرخ خصوم المالكي قبله في معركة عضّ الأصابع، لكن صراخ المالكي تأجل وحسب، وهو قادم إذا استجاب الرجل لتكتيكات التطويق، انها جولة تم كسبها لكن المعركة لم تنته بعد، فلم يكن متوقعاً ان يستسلم الآخرون لأقدارهم ومن ثم يعترفون بخسارتهم، مادامت الفرص متوافرة بطرائق أخرى .

لم يكن الوقت مناسباً لتبادل الشكوك، لكن مادم المالكي ربان السفينة، كان عليه دراسة حالة الطقس والا غدرته الأنواء أيا تكن مهارته وقوة سفينته، كان عليه ان يحذرالإنقياد الى صخور حادة؟ لكن كيف يمكنه القيادة وسط الضجيج؟

في سلوك كهذا، انما يساهم في موت السياسة ليحيى السياسيين، وكان عليه ان يحسبها بالمقارنة بين وضعين :

- كان يقف على أرض صلبة صادقة ، لكنه اتجه نحو أنواء تحمل الخديعة .

- كان يحمل قوته في رأسه (1) وقد تجنب المقصّات التي حملتها أكثر من دليلة،لكنه وقف وسط (دليلات) تحمل كلّ منها مقصّاً جديداً .

- كان مرناً وكانوا مترهلين ، ثم أوشك ان يصبح مترهلاً وهم المرنون .

- لقد ربح علاوي معركة الإنتخابات لكنه خسر معركة التكليف، أما المالكي، فقد ربح معركة التكليف، لكنه بدا مهدداً بخسارة معركة التشكيل وان شكّلها ، أي ان تأتي حكومته على مالا يريد، فما تراه فاعلاً؟

كان عليه ان يستعين بكهرمانة، يستعيد قراءة مافعلته، يحضّر جراره، ويسقيهم من (راحه) براحته، فيدعهم ينتشون بخمر السلطة لكن بالمقدار الذي يحدده ، فقليل من السلطة ينعش النفس – اشتقاقاً من قول السيد المسيح – لكن كثيرها يفسد المشهد .

كان الحلّ يكمن اولاً في تحديد حاجة العراق من الوزارات، ثم قدرة كلّ كتلة بما لديها لتقديمه، الكرد بمثال تجربتهم، نجاحهم في الأعمار والتنظيم، والعراقية بعلاقاتها العربية، والتحالف بحركته الداخلية وهكذا .

 يحضرني هنا مثال ما اتبعه المرحوم ياسر عرفات، كان يحتفظ في قيادة منظمة التحرير بصديق لكل دولة: أبو ماهر غنيم واحمد جبريل لسوريا، خالد الحسن وأخوه هاني الحسن للسعودية ودول الخليج –، نمر صالح للصين، ماجد ابو شرار للاتحاد السوفييتي السابق، أبو اللطف وجورج حبش لمصر – وهكذا كان يحصل عمّا يريد لصالح القضية الفلسطينية بتكليف وفد برئاسة أحد هؤلاء القادة لكل دولة يعرف علاقته الوثيقة بها، الى درجة ان الإشتباكات كانت دائرة بين المقاتلين الفلسطينيين والجيش السوري في لبنان، فيما كان أبو ماهر غنيم يرسل سيارات التموين من داخل سوريا ذاتها وامام أعين السوريين وموافقتهم، وفيما كانت السعودية غاضبة من(أبي عمار) كان هاني الحسن يستلم المساعدات المالية من الخزينة السعودية لصالح صندوق المنظمة .

لاشك ان ظروف العراق مختلفة عمّا كانت تعيشه منظمة التحرير، لكن لاجدال في ان العراق بوضع أفضل، وبالتالي بإمكانه تطبيق مايلائمه من تكتيكات واستراتيجيات . 

ما الخلاصة من كلّ ذلك؟

كان على المالكي رفع سقف نقاط الوزارات بدل تخفيضها، وتخفيض عدد الوزرات بدل زيادتها، ثم إقناع الكتل بأن هذا هو الأصلح للعراق، والإقناع جزء مهم من نجاح القيادة، والا فالحديث يطول، وطريقنا كذلك .

 

...............

(1) دليلة، إمراة كنعانية إحتالت على شمشون خارق القوة بأن جعلته يكشف لها عن سرّ قوته المتمثله في شعره، فكان إن قصّت شعره ليفقد قوته  .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1598 الاثنين 06 /12 /2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم