صحيفة المثقف

تجاعيد حقيقية

جعلت صدره ينفخ زفرات الوجع العمر، الذي مزق وريقاته تساقطاً دون أن يلتفت له وعجلة الحياة، تذكر حين كان يأخذ من الوقت ليتأنق، ويمشط نفسه مزهوا بحيويته وتلك الأيام، وما أن أدرك ذلك حتى ضرب المرآة بيده.

وخرج مسرعا.. لم يكمل ارتداء ربطة عنقه ولا جاكيته، صافقا الباب ورائه، ركب سيارته.. قادها بسرعة، وهناك تأمل نفسه بمرآة السيارة، خفف من ضغط قدمه على دواسة السرعة، سرح مع نفسه وكأن الزمن قد توقف، مرت من أمامه وعلى جانبي سيارته تلك السنين والأيام، التي مضت وعمره، لابد من النظر إلى الوراء وما قضمت السنين من ساعات ولحظات منها، أين أنا من كل ذلك؟! قالها: بعد أن أخذ نفس دخان وأخرجه، كأنه وَلّدَ عالم ضبابي أدخل فيه، محاولا إيجاد تلك المسارات لأيام قضاها وعمره، يوم  كان فتيا وطموحات الشباب، بأن يمتلك هذه وتلك، ويكون مرموقا بالمجتمع، وصاحب نفوذ ومال، يسكن في أفضل قصر، ولديهِ من يشاركه في كل ذلك، زوجة يتخذها بارعة الجمال، وقصة حب يعيشها قبل الارتباط، واستمرارها لما بعد ذلك، رحلات ورؤية عالم آخر في بلدان مختلفة، مرت تلك اللويحظات وكأنها طرفة عين، أنتبه! على صوت بوق سيارة، وسائقها يقول له: (هية أنت نايم أو تمشي على بيض )، عاد لنفسه فرأى السيارة تكاد أن تتوقف، بل شبه متوقفة بسبب سرحانه وتلك اللويحظات، فمد يده معتذرا، واخذ يقود بالسرعة المعتادة، وهناك... عاد ذلك الزمن ليدخل مرحلة ما بعد الطموحات، وحيز الحياة وصعوبتها، ومساجلة الزمن بين أخذ ورد، وبين ضربة حظ، وقدرة على الإقناع في الحصول على الشيء، هكذا ارتقى في عمله وسلمه الوظيفي، فوصل إلى ما هو عليه الآن، وكيف التقى برفيقة حياته، وذلك الحب مع لحظات الود والانتظار الطويل الجميل، برفقة ضربات القلب دافعة تدفق الدم، حتى تنتفخ الأوداج، ويترقص القلب على إيقاع دقاته، وكم  يتأنق ويلبس أفضل ما عنده، ليحظى بإطراء منها، فحين يتلمس يديها، تهزه رعشة كهربائية تشحذ كل مسامات وشرايين جسمه، لهفة ووجدا، إن سعادة تلك اللويحظات كانت بمثابة عُمر، يسجل كل نبضات وحيوية الأيام، التي عاشها في سنينه تلك، وفجأة! توقف بعد أن ضغط على دواسة إيقاف السيارة، كان هناك شخصا يضع يديه على مقدمة السيارة، صارخا!!! ( أنت أعمى ما تشوف.. تقود ومخك في مكان ثاني وَلَه أنت سكران )، همهم ببعض الكلمات، معتذرا مترجلا من سيارته مصافحا الرجل، حامدا الله على سلامته، وانتهت المسألة بحجة الشرود وكثرة العمل، مع العلم إنها لم تكن حجة، بل حقيقة، ركب السيارة وقادها لمسافة قصيرة، ثم أخذ جانب الطريق، متوقفا ليستعيد تلك السنين في هذه اللويحظات، أشعل سيجارة أخرى، وكأنه أشعل فتيل ذكريات مؤلمة حاول تفجيرها ونسيانها، لكنها دخلت في عالمه الضبابي رغما عنه، سنين من المعاناة والصراع من أجل البقاء، والارتقاء، حاول ألا يتذكرها، لما فيها من أيام مُرّة، وفقر، وسحق، والصعود فوق أكتاف الغير من الناس،  نعم يقول هاجسه.. انك من عائلة لم يكن حالها ميسورا، وكنت تسكن شقة صغيرة مع العديد من إخوتك وأمك وأبيك ولم تكن الولد المفضل، ولا المدلل، بل الأناني، الذي يقتات ويعيش على الفرص، هكذا تعود منذ طفولتك وتربت معه تلك العادة طويلا، حتى بعد أن فارقت أهلك وأخوتك، ونسيت من نسي ودرت في فلك الحياة والصعود إلى القمة، رد صوت ذاكرته فقال: في يوم ما تذكرهم، وعاد ليرتق جرحا قديما، فوجد نفسه قد بُتر، بسبب إصابة ذلك العضو بالغنغري، هكذا كان مصيره مع أهله، عضوا مصاب، بتره كان اسلم لذلك الجسد، وحين أراد العلاج، وقبل أن يدرك بتره، كان والداه قد فارقا الحياة، وإخوته كل في مكان، الود وصلة الإخوة ليست على ما يرام، وفوق ذلك زحمة السعي من اجل لقمة العيش، في شوارع وأزقة الحياة الصعبة المظلمة، حينها أحس انه عاش صراعا مريرا وطويلا مع نفسه، فكانت معاقبتها بشتى الطرق، باللهو والسكر، الخروج عن المألوف، لا لشيء فقط.. سوى النسيان، يا لها من نعمة، دائما يتذكرها، ولولاها لعاش ومات في دهليز تأنيب الضمير، أيام أراد محوها من سنين عمره، ولكن كيف؟؟  وبها يكتمل عمر السنين، أستيقظ من لويحظات الألم على رنين هاتفه النقال، أجاب.. نعم صباح الخير.. نعم.. نعم.. سأكون هناك بعد عشرة دقائق، قام بتشغيل السيارة، قادها متوجها إلى مكان عمله، فالعملاء ينتظرونه، إن شركته من اكبر الشركات والمهمة في البلد، وهو من رجال الأعمال المؤثرين في اقتصاده، أخذ يقود سيارته محاولا عدم النظر إلى مرآتها، والابتعاد عن تلك الشاشة، التي عرضت مسيرة حياته رغما عنه، إن بصمات الزمن، تجبره نحو الالتفات والنظر إلى ما وراء السنين، أغمض عينيه لِلَحظة متجاوزا الدخول في عالم الذكريات، دَمعت عيناه، وغرق في بحر دموعه، بعد أن علق في وسط تلك اللويحظات التي ما انفكت تراوده، فقد ظهر أمامه من جديد عالمه السحيق بالمراهنات ورياء المداولات الحياتية والعملية، وكم حطم من البشر أثناء تسلقه سلم القمة؟ نعم.. قالها على مضض، جمعت ثروتي بمعاناة وتدمير الآخرين، ونسيت صفاء الروح وراحة البال، كم يا ترى ادفع للحصول عليهما؟ سؤال بات يرن في داخله، محاولا إيجاد الإجابة عليه، قام بمسح عينيه، راميا بالدمعات التي تعلقت بأصابعه من نافذة السيارة، كأنه رمى بكل صفات الإنسان بداخله، وبعدها أخذ المنديل ليزيل كل أثر وبصمة، لضعفه في لويحظات السؤال والبحث عن راحة البال واسترجاع ذكريات الماضي، سحقا للزمن.. كم تسابقت معه لكسر حواجز الفقر الكافر؟ وكم تعريت؟؟ وكم تنازلت؟ وكم أنخت؟؟ وكم؟؟؟ لقد ضحيت بكل شيء، للوصول لما أنا عليه الآن، لقد اقتصصت من الدهر وسنينه العجاف، رفاهية الحياة بآلامي، ومعاناة الآخرين، سأحيا سنيني رغم تجاعيدها على وجهي، وسأعيش وزوجتي سعادة العمر المتبقي رغم مخالب الأيام فيه، وسأضحك ملئ شدقي على الزمن، ليعلم أني لم أحيا محروما من شيء، وليحذر مني، كما أحذر منه، فلكل سلاح وطريقة دفاع وهجوم، نستخدمها عند اللزوم، توقفت سيارته، ترجل فرحا كعادته كل يوم، رمى خلفه كل تلك المعاناة التي أستيقظ وصباحه بها على كابوس الماضي، قائلا في نفسه: لا يمكن أن اُهزَمَ سأبقى ونفسي يافعا رغم السنين، ولكل نهاية، أدرك ذلك جيدا، إنها الموت، لأتمتع الآن، ومن ثم الحساب هين، وبينما هو كذلك يحدث نفسه عن التفاؤل والحياة السعيدة، اصطدم بامرأة تحمل طفلا، كأن الزمن لم يدنو منه، وضحك الطفل ببراءة الحياة من مغبتها وشوارعها الصخبة المزدحمة، رغم عناد الزمن وجبروته، أحس بفرح غامر.. بعد اعتذاره، وقَبَلَ الطفل، ووضع يده على رأسه ملامسا شعره، سعيدا بضحكة ذلك الطفل، والذي وما أن غاب عنه أحس بوخزة في قلبه، لقد أدرك أن السنين والزمن سرقوا منه رحيق الحياة ومعنى الأبوة، انه لا يعلم ولا يحس بذلك الطعم، لأنه لا يستطيع الإنجاب بسبب عقمه، فتهشمت كل ابتسامات الحياة في لويحظات مميتة، وأدرك أن ذلك العقم، هو التجعيد الحقيقي في حياته، التي سحقتها الأيام.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1602 الجمعة 10/12 /2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم