صحيفة المثقف

هل من الممكن إعادة كتابة التاريخ

 ونستقي منها الدروس الرائعة وطرق التعامل والسلوك والحوار، فالتاريخ خزين معرفي أوعبت فيه الأمة كل خبراتها الحياتية ليساهم في تسريع النمو الثقافي والحضاري والعقائدي والتمدني للأجيال اللاحقة. وكرد للجميل على الأجيال اللاحقة أن لا تخذل أجيالها السابقة بأن تترك الإفادة والاستفادة من هذا الخزين، أو تصبح أدنى مما كان يأمله فيها الأقدمون .

 والأمم تمنح تاريخها عادة نوعا من القدسية والاحترام الذي يتناسب مع أهميته العمرية والموضوعية والعقائدية، أما نحن العرب والمسلمين فإن تعاملنا معه يختلف عن تعامل الأمم الأخرى بسبب طغيان روح الشك على علاقتنا به، بعد أن وجدنا أنواعا مختلفة من التلاعب الذي قام به الرواة والمدونون الأوائل محفوظة في طياته ومنتشرة في أصول عقائد بعض أهله، والتي قام بها الأوائل دون غيرهم، مما أوهى عقيدتنا به من دون أن ننظر إلى وجهه المشرق المملوء أملا وتفاؤلا .

إن أجمل ما في تاريخنا هو السيرة النبوية المطهرة، وأجمل ما في السيرة هي حوادثها وأقوالها وأحاديثها والحالة العامة لذلك الجيل العظيم من الصحابة الذين آمنوا بالنبي ونصروه وآزروه وهاجروا وقاتلوا معه لنشر الإسلام في أصقاع الدنيا وإخراج الأمم من جاهليتها إلى نور الإيمان والوحدانية، وتلك الروح التآلفية التوحدية التي كانت تجمع بين المسلمين حتى بدوا كجسد واحد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وكان المفروض بهذا السفر العظيم أن ينتقل للأجيال كما هو نظيفا صادقا يتناسب مع قدسية صاحبه الرسول الأكرم وصحابته النجباء الكرام، ولكن الحراكات السياسية والدوافع القرابية والولاءات المذهبية والطائفية والمجاميع التخريبية أبت إلا تقويض هذا البناء الشاهق والصرح العظيم بما أدخلته عليه من المستحدثات الهجينة والتحريفات الغريبة حتى بدلت ملامحه الأولى وأظهرته بحلة جديدة لا يليق به ارتدائها، وعلى مر الأجيال لم يكن لنا حول أو قوة لتصحيح هذه الطوارئ والقضاء على آثارها المدمرة بسبب مجموعة كبيرة من الموانع .

أما اليوم وبعد أن وصل العالم إلى ما هو عليه من التقدم والرقي، ووصل الفهم الفردي الشخصي والمجتمعي العام إلى مستوى عال من النضوج والتفتح فأجد أن إعادة النظر في بعض جزئيات السيرة النبوية وتصحيحها من رواسب فيضانات التشويه وهجمات التحريف بات من الضرورات الملحة التي يفرضها الواقع العالمي الحالي، هذا الواقع الذي لا يؤمن إلا بالماديات، ويتعامل مع الغيبيات واللاهوتيات بنفس الدرجة التي يتعامل بها مع عرض الأزياء ودعايات المشروبات. بل إن هذا الواقع نفسه بات من ميسرات عمل من يريد أن يرقى بهذا التاريخ إلى مكانته الحقيقية التي أنزله منها المسلمون أنفسهم.

إنه لمن المستحيل أن نعيد كتابة التاريخ ولكن من اليسير علينا أن نشخص مواطن الخطأ والدس والتحريف فيه. ومن المستحيل أن نعيد سرد قصص وقعت أحداثها قبل خمسة عشر قرنا ولكننا ممكن أن نعرف الصحيح والخطأ فيها. وهنا لا بأس أن نأخذ بالصحيح ونهمل الخطأ، لكن هل من المسموح لك أن تنتقي كيفيا أم أن ذلك يجب أن يتم وفق ضوابط علمية؟ وهل تسمح لك الجماعات التي تحجر فكرها على النص مهما كان نوعه حتى بات مجرد التفكير بشكل منفتح فيه يعد كفرا مفضيا للشرك ومخرجا من الملة؟

إن محاولات التصحيح ليست جديدة ومحاولات عرقلة التصحيح ليست جديدة أيضا حيث يروى في هذا الشأن أن أحد الجالسين في مجلس الخليفة العباسي هارون الرشيد روى حديث التقاء آدم وموسى وحديثهم معا وهو حديث أخرجه البخاري وغيره، فقال أحد الحضور متعجبا: وأين التقيا؟ فانتفض الرشيد غاضبا وقال: علي بالنطع والسيف، زنديق يشكك في حديث رسول الله (ص) فإذا كان مجرد استفسار بسيط وساذج يستوجب إحضار عدة القتل فماذا سيحدث لمن يريد أن يذهب أبعد من ذلك؟

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1135  الاثنين 10/08/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم