صحيفة المثقف

سلوكات رمضانية

 وانشراح الصدر، ويخرجه من ضيق وكرب شدائد الحياة اليومية المعتادة الرتيبة، ويمده بسعة نفس وهدوء أعصاب، ليقبل على الحياة بروح فياضة لحب الخير والقول الحسن.

إلا أنه يبدو أن رمضان، في السنوات الأخيرة، أصبح الشهر الوحيد في العام الذي يُتخذ مبررا لفقدان الأعصاب بدعوى الصيام، حتى بات التوتر السمة الأساسية للتعامل بين الناس، ولم يعد مستغربا أن ترى المشاجرات والمشادات و تسمع التراشقات بأفظع الألفاظ وأحطها في الشارع العمومي بين أناس من كل الطبقات والمستويات، لا فرق بين المثقفين والأميين، الكل يرددون اللازمة المعهودة "اللهم إني صائم" والتي أفرغت من مدلولها الحقيقي، وجوهرها الروحي.

إنها ظاهرة غير صحية و لا تقتصر على المشاجرات والملاسنات بين الصائمين والتي نهى الله سبحانه عنها في قوله(( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل ))، فإذا شتم أحد أو قاتله فليقل: إني صائم. بل إن هناك سلوكات أخطر و أفظع من ذلك، حيث يُلاحظ - بالواضح لا المرموز- قبيل الإفطار، أي في الدقائق القليلة التي تسبق مدفع الإفطار، تصرفات طائشة لبعض السائقين فاقدي الصبر والتعقل، المصابون بداء التهور وعدم الانضباط لقوانين السير والتمرد على آدابها؛ حيث يتسببون في تفاقم التعقيدات المرورية في الشوارع التي يحولها تهورهم ومجنونهم ألا محسوب العواقب، إلى حلبات سباق وميادين للانطلاق الجنوني لسياراتهم التي يقودونها بسرعة مفرطة غير مبالين بما تحمله معها من أخطار الموت لهم ولغيرهم من المارة الذين يجدون في التجوال في هذه الأوقات بالذات تسلية رمضانية، حيث لا لهم إلا الوصول لمنازلهم للالتفاف حول مأدبة الإفطار التي لم يعد يراعى فيها آداب هذه الفريضة التي سنت للعبادة وليس للإكثار من الأكل الذي يرهق المعدة ويصيب الجسم والنفس بالعلل والأمراض، إلى جانب حكمة إحساس الغني بجوع الفقير أثناء صيامه.

 هيهات لقد انتفى الدافع الإيماني وولى المنطلق الروحاني وقل التعاضد والتراحم والتآزر واختفت مظاهر البساطة الرمضانية كما عرفناها أيام زمان، والتي كانت تضفي عليه قدسية وروحانية، فقد اختلف الأمر اليوم إلى حد كبير، حيث تمكنت العادات السيئة في الناس، وأصبح البذخ والصرف والإنفاق والتباهي بكثرة الطعام واللباس الفاخر، السمة العامة بين الناس في كل المدن والقرى المغربية غير آبهين لقوله عز وجل أصدق القائلين(( الذين أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)) الفرقان،  وقوله تعالى (( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين )) الأعراف31 ، صدق الله العظيم.  فتفاقمت التنافسية الحادة التي لا تتعرف للشعائر الدينية الصحيحة بقدرها ولا للقيم الأصيلة بمقدارها بين الناس، وانخرط الجميع في استهلاك آلي روبوتي محموم جندت له كل الإمكانيات المتوفرة وغير المتوفرة، ما رفع حدة الطلب فارتفعت أثمان السلع في هذا الشهر المبارك، حسب منطق السوق وزاد جشع التجار والمضاربين حتى صار رمضان يشكل عبئاً اقتصادياً، إضافياً، وثقيلاً، على البسطاء ودوي الدخل المحدود من الصائمين. 

الكل يدرك أن ما يجري في السوق المحلي من ارتفاع جنوني للأسعار شمل معظم المواد والسلع الاستهلاكية والتموينية المجلوبة والمنتجة محليا.. ليس إلا ردة فعل تلك الفئة الجشعة في التعاطي مع هذه الموجة العالمية والتخفي وراءها بهذه الفظاعة وهذه القسوة والوحشية في ظل مسعاها إلى زيادة ثروتها على حساب قوت المواطن الذي لاتنظر إليه إلا على اعتباره مجرد محطة (تجارية ) وفرصا سانحة لتضخيم حساباتها وسنداتها في المصارف والبنوك.

فكل الشواهد تؤكد عدم احترام أكثريتهم لمضامين الرسالة الرمضانية ومفاهيمها ومعانيها الإيمانية والإنسانية والأخلاقية، بما هي رحمة ومغفرة وبركة يسعى من خلالها العبد الى زيادة رصيده الإيماني والأخلاقي والإنساني، تقربا إلى الله ومراعاة لحرمة هذا الشهر الكريم وفضله وخيره من خلال الشعور بمعاناة الآخرين وتلمس احتياجات المعوزين منهم والوقوف الى جانبهم وتلبية هذه الاحتياجات ما أمكن، تجسيدا لمبدأ التضامن والتكافل بين الناس الذي حرص ديننا الحنيف على نشره وترسيخه.

 

حميد طولست

 [email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1150 الخميس 27/08/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم