صحيفة المثقف

الرثاء في الشعر العراقي المعاصر: قصيدة "شاهدة قبر من رخام الكلمات" ليحيى السماوي أنموذجا (2)

يحاسب الإبن الشاعر الأم الفقيدة عن سبب خذلانها إياه، وباحتجاج طفلي هادر لا يرى الإبن المنهجر مبررا لوضعه المظلم هذا، حتى لو كان السبب بلوغ الأم الراحلة الفردوس بحاله. إن الإنهجار الذي يصحي القلق المكبوت القديم.. قلق الإنفصال علميا.. أو قلق الإنهجار فنّيا.. لا.. بل يفجّره كما هو الأمر مع يحيى.. تفجيرا يخلق غلالة غضب تحجب حتى أبسط الحقائق اللاهوتية عن عيني بصيرة الوعي، ولكن بصيرة اللاشعور اللعوب التي تعرف كيف ومن أين تأكل كتف اللذة حتى لو كانت في جحيم الثكلان تستعين بمآثر الفقيدة: (لم تكن أمي أنانية يوما... فلماذا ذهبت إلى الجنة وحدها ؟... وتركتني في جحيم الحياة ؟؟ - ص 22). إن هذه التساؤلات شبه الإنكارية تحيلنا إلى أمر مهم يتعلق بما قلناه عن إنكار اللاشعور لفنائه الشخصي واعترافه بفناء الآخرين، والذي عبر عنه معلم فيينا بدقة قائلا: (إن الإنسان منذ القدم اتخذ موقفا متميزا للغاية إزاء الموت. فهو من ناحية كان يأخذ الموت مأخذ الجد ويدركه باعتباره ختاما للحياة وكان يستخدمه لهذه الغاية، ومن ناحية أخرى فإنه كان ينكر الموت ويرده إلى عدم. وقد نشأ هذا التناقض عن الظرف الذي جعله يتخذ موقفا تجاه موت إنسان آخر، أي موت إنسان غريب، يختلف اختلافا جذريا عن موقفه إزاء موته هو نفسه. لم يكن لديه اعتراض على موت الإنسان الآخر: فقد كان يعني فناء مخلوق مكروه، ولم يكن لديه أي تردد في إحداث هذا الموت. فقد كان – في الحقيقة – كائنا بالغ العنف، أشد قسوة وأكثر إيذاء من الحيوانات الأخرى. كان يجب أن يقتل، وقد كان يقتل بطبيعة الحال، ولا حاجة بنا لأن ننسب إليه تلك الغريزة التي يُقال أنها تكبح جماح الحيوانات الأخرى عن قتل وافتراس الحيوانات من نوعها (...) لقد كان موت الإنسان القديم بالنسبة إليه هو نفسه أمرا لا يمكن تخيّله وغير حقيقي تماما، كما هو بالنسبة لأي منا اليوم. ولكن كانت هناك بالنسبة إليه حالة يتصارع فيها الموقفان المتعارضان تجاه الموت، وكانت هذه الحالة بالغة الخطورة وتسفر عن نتائج بعيدة الأثر، وكانت تحدث حينما يرى الإنسان البدائي شخصا يمت إليه بصلة – زوجته، ابنه، صديقه، وهم الذين كان يحبهم بالتأكيد كما نحب نحن ذوينا. ذلك لأن الحب لا يمكن أن يكون أصغر كثيرا من الشهوة إلى القتل. عندئذ فإنه – في لحظات ألمه – كان عليه أن يتعلم أن المرء نفسه يمكن أن يموت، وهو اعتراف كان كيانه كله يتمرد عليه، ذلك أن كل

واحد من أولئك الأحباء إليه كان – بكل صدق – جزءا من (أناه) المحبوب. ولكن – حتى رغم هذا – فإن حوادث الموت هذه – من ناحية أخرى – كانت لها مصداقية بالنسبة إليه، حيث أن شيئا ما من الغريب المعادي كان يقيم داخل كل من هؤلاء الأشخاص الأحباء) **. وهذا الإقتباس الطويل نسبيا في غاية الخطورة، لأنه يكشف الأسباب الخفية التي تجعلنا لا نفكر بموتنا الشخصي رغم أننا نشاهد الآلاف من البشر يموتون يوميا. هذا كان حال جلجامش الذي كان يقتل الكثيرين كل يوم حتى اشتكى منه العباد إلى الآلهة، ولم يكن يفكر بالمثكل لحظة واحدة. حالة استثنائية يصحو فيها اللاشعور من غيبوبة سكرة الخلود ليصدم بيقظة فكرة الفناء هي عندما يموت عزيز استدخله في لاشعوره، فعند موت هذا العزيز ينخلع جزء من اللاشعور الشخصي، هذا ما حصل لجلجامش بعد موت أنكيدو، وهي الهزة الوجودية المرعبة نفسها التي أصابت كيان يحيى السماوي برحيل أمه، مع فارق أن حال السماوي أشد مرارة وخيبة، فالأول مات خله وصاحبه بين يديه، والثاني ماتت أمه وهو في المنافي، وبعد فراق عقدين. هذا الانخلاع القسري الذي سببه موت محبوب، لا يمكن أن يسلم به اللاشعور فورا وبلا مقاومة، لأن هذا التسليم يعني الإقرار الفوري بهشاشته الوجودية وبقابليته على الإنجراح. ولذلك لابد من أن يتم هذا التسليم – كآلية نفسية دفاعية defence mechanism - على مراحل تبدأ أولا بالإنكار – denial القاطع: مستحيل لا يمكن أن تموت أمّي: (الطيبة أمّي لم تمت... لازالت... على قيد دموعي – ص 24). ثم – وحين يدرك الشاعر أنه أينما يولّي وجهه فثمة وجه الموت: الحي الذي لا يموت – يأتي الإقرار المُذعن الذي لا تنفع معه التزويقات التخديرية الشعرية السحرية. في البداية يبقى رجاء مختلج حيث يخاطب الإبن أمه على " أمل " بصحوة مستحيلة: (أرجوك استيقظي لحظة يا أمي.. لأقول لك... تُصبحين على جنّة – ص 33). وصيغة المخاطب – الضمير الثاني – تنطوي في مضامينها النفسية المخاتلة على معاني الديمومة والإنتصار على الموت، لأن اللغة بأكملها هي أعظم الأدوات التي اخترعها الإنسان في مقاومته المستميتة لقدر الفناء ومناجله الباشطة. هذا ما لم ينتبه إليه أحد سابقا. ولتوسيعه أقول إن كل ما أنجزه الإنسان ينبع أصلا من مخاوفنا

الطفلية تجاه محنة " التلاشي ".. أين تختفي الأشياء، وهي المحنة التي يتشارك فيها الطفل البشري في أي عصر مع الإنسان البدائي الذي حيّره " اختفاء " الأشياء وتلاشيها. فابتكر الحضارة كدفاع أصيل ضد محنة التلاشي، ولهذا حديث طويل ليس هنا مجاله. المهم أن ضمير المخاطب هو تعبير عن محاولة للإنتصار على الموت، من خلال السعي لاستحضار الغائب: (يا أمي.. طفلك الكهل... لم يجد مأوى أيتام... يودع فيه أحلامه – ص 32). ثم نتقدم خطوة انتقالية على طريق الإقرار المستخذي حين يبقى بصيص خطاب يوهم به الشاعر نفسه بما حصل بعد عملية الدفن الجائرة وفق كل المعايير النفسية المختزنة التي لا ينفع معها حتى تبرير إله. فقد " تآمر " الإخوة، وفق نظرة الإبن المنهجر على أن يغطوا جثمان الأم بطبقات هائلة من التراب وهي في قبرها، كي لا تسمع نداءات الإبن الجريحة، ذئب البوادي الإسترالي المطعون والمتروك في برية الوحدة واليأس، أي أن رجفة أمل لائبة مازالت تتحشرج في أعماقه المخربة في أن تسمع أمه نداءه وهي في غيابة القبر. وهو حين يحاول تبرير تساؤله أو تمريره، من خلال اللعب على حقيقة أن فصل البرد السنوي لم يكن قائما حين ارتحلت أمه في عربة قطار الموت السريع في السماوة، فلا حاجة لها بدثار خانق وثقيل من التراب، إلا إذا كان الإخوة القابيليون يبغون عدم إيصال نداءاته المفزعة إليها، فإنه يبقى لاعبا أصيلا داخل مضمار لعبة الإنكار وتعطيل الرضوخ النهائي: (الفصل ليس شتاء... فلماذا غطّاها أشقائي... بكل هذه الأغطية من التراب ؟.... ربما... كي لا تسمع نحيبي... وأنا أصرخ في براري الغربة – ص 15). لكن هذا القهّار الرافع الخافض المعز المذل المسمى الموت، صاحب الأسماء الحسنى، الذي هو آخر ملاذات الآلهة المحاصرة والتي يحاول شياطين العلم وأبالسة الاستنساخ الوراثي تجريدها من ورقة توت قبض الأرواح الأخيرة التي تتمترس بها، وهي فعليا آخر امتيازاتها في عصر أعاجيب الثورة العلمية الحاكم الآن، لا يوجد مصل تخديري يواجهه غير الشعر (ألهذا تحذّر الآلهة من الشعراء لأنهم يكشفون

أسرار الخديعة ؟)، ولهذا يوهمنا الشاعر وهو ينحدر بقساوة على منحدر التسليم المسنن لكي يستقر عند سفح التسليم الفاضح المنخذل، بأن من الممكن إسداء العون له من فرد عابر يلتقط له صورا متعددة، منها واحدة تظهر أمّه الغالية نائمة في قلبه، كطفل صغير يحتويها ببراءة كأنه يعيد – سحريا – كرّة الحمل المبارك به: (أيّها العابر... لحظة من فضلك.. هلّا التقطت لي... صورة تذكارية مع الهواء ؟.. وأخرى مع نفسي ؟.. وثالثة عائلية.. مع الحزن والوجع الوحشي... وأمي النائمة... في قلبي ؟ - ص 13). لكن هذه المحاولات كلها هي نقلات حييّة لكنها هائلة على مستوى الإنجراح الإنساني النفسي المستديم، وسوف تتكلل بالإذعان الراضخ الذي لا عودة منه. وستشهد أرض المنفى- بعد طول ممانعة - أول خطوة في هذا السبيل المستخذي، في المأتم الذي سيقيمه الأصدقاء الذين لابد أنهم يرون في انثكال الشاعر مصيرهم المقبل، فالمنفيون والمهاجرون هم " رفاق الزورق الواحد " كما يصفهم علماء نفس الهجرة، ورحيل أم يحيى في السماوة وابنها غريب في المنافي يعني رحيل أم كل واحد منهم بالطريقة نفسها، إن لم تكن أكثر سوءا وإيلاما. لكن هذا التشارك الشخصي في " شكل " الكارثة لا يغني عن الإختلاف المحتم في " مضمونها " بفعل الفروقات الفردية في التجربة. فقد أعد الأصدقاء في " أديليد " كل شيء للعزاء، ولم يستطيعوا الإعداد لشيء حاسم نسوه والشاعر بأمس الحاجة إليه وهو توفير الكمية المناسبة من الدمع: (في أسواق " أديليد "... وجد أصدقائي الطيبون.. كلّ مستلزمات مجلس العزاء: قماش أسود.. آيات قرآنية للجدران.. قهوة عربية.. دلال وفناجين...

بخور وماء ورد.. باستثناء شيء واحد: كأس من الدموع.. ولو بالإيجار... أعيد به الرطوبة.. إلى طين عينيّ.. الموشكتين... على الجفاف – ص 8 و9). إنه مرتبك بفعل الخسارة الجسيمة.. خسارة مزدوجة.. خسارة أم.. وخسارة وطن.. وكلاهما تابوتان يحملهما على ظهره المحني.. هما ثقلان هائلان يجعلان من أمر سقوطه تحت أي مؤثر مبتذل: ورقة أو قطرة ماء (وهما اللذان سيجمعهما في مقاطع مقبلة بتعبير رمزي بليغ: الورقة الموت قابلة للإحتراق والفناء، والماء الخلود قادر على الإطفاء والديمومة: أغيثوني: أريد أوراقا من ماء... لأكتب.. كلمات... من جمر) أمرا يسيرا لا غرابة منه. لكن المشكلة تتمثل في أن النظّارة باردي المشاعر.. من غير أهل السماوة.. أو من أهلها وقد بلّدت مشاعرهم المنافي المقيتة.. على أساس قاعدة أمهاتنا الحكيمات: "البعيد عن العين، تسلاه القلوب " لا يدركون سوى مظهر يحيى المتماسك، غافلين أو متغافلين عن فجيعته المهلكة التي لا تلتقطها غير عين الداخل المتعاطفة. لكن مقدرتها لا تتوفر لأي أحد. إنها هبة مفتقدة في المنافي.. تغطيها رمال اللاإكتراث التدريجي بفعل العادة وخمول المشاعر تمهيدا لتبليدها، ولذا فالشاعر المثكول يُظلم من قبل رفاقه فيظنون سقطته على الرصيف بفعل سكرة الخمرة المدوّخة، وليس بسبب لطمة المثكل المرعبة التي جردته من أمه بعد أن خلعته من وطنه / الأم، أي سلبته أمّين اثنتين: (لست سكرانا.. فلماذا نظرتم إليَّ بازدراء... حين سقطت على الرصيف؟.. من منكم لا ينزلق متدحرجا... حين تتعثر قدماه بورقة... أو بقطرة ماء.. إذا كان.. يحمل الوطن على ظهره... وعلى رأسه تابوت أمه؟ - ص 16).

ومن حركة المسامحة المعاتبة والمفترضة ذات الطابع الشفيف هذه، وهي أصلا تمت بصلة لسوء فهم داخلي أكثر مما هو تعبير عن ربكة دلالية خارجية تحتمها علاقات اجتماعية مفترضة نبتت في غير أوانها، ينكشف المسكوت عنه في شخصية وسلوك الشاعر، وهو المسكوت عنه الجمعي في شخصياتنا وسلوكنا، مسكوت عنه يعبر عن مرعوبية إرادتنا واندحارها: (مثل طفل خطفوا دميته... أريد أمي... فتبكي !! – ص 16). وبهذا النكوص الطفلي لم يعد لدى الشاعر ما يخفيه. كل شيء صار معدا للإنكشاف الفاضح.. وبعد أن كان يحيى منخذلا بعدم فهم من يشاهدون ارتباكه وهو ينزلق على قطرة ماء الخسران الرقيقة بحجمه الهائل، نجده الآن يطلب الرحمة منهم.. لكن أية رحمة ؟.. إنه لا يطلب منهم خبزا ولا كوثرا ولا عافية !!. إنه يطلب منهم – بل يتوسل إليهم – ن يمنحوه تجلّد بغل وبلادة خروف ولامبالاة حمار.. فهذه السمات المهينة / العطايا هي الكفيلة بلحم أبضاعه الممزقة، وبعد هجمة الاحتجاج بفعل سوء تفسير سقطته، من قبل أحبائه الطيبين، يتوسل بالأحباء أنفسهم بأن يعينوه على امتلاك طاقات تعينه على مواجهة المثكل: (يا أحبائي الطيبين... أرجوكم.. لا تسألوا الله أن يملأ: صحني خبزا... وكوزي كوثرا... وجسدي عافية... وروحي حبورا... فأنا بحاجة الآن إلى: صبر رمال الصحراء على العطش... وتجلّد بغل جبلي... وبلادة خروف... ولا مبالاة حمار.. وإلى خيط من جنون... أرتق به عقلي – 21و22). وهو لا يكتفي بطلب العون من إخوته وأحبائه الذين أساءوا فهمه قبل قليل حين تعثر

وهو الذي ينوء كاهله بتابوت مزدوج، لكنه – وبفعل ضغط مشاعر التقصير الملتهبة – لا يكتفي بتقديم براءات التكفير من أمه بصورة مباشرة، ولكنه يعمّم حالة التكفير الحارقة هذه على كل من ارتبط بعلاقة وثيقة بهم من أصدقاء وطلبة ورفاق معتقلات و.. و.. ومجانين.. ليطلب الصفح منهم عن شيء لم يقترف ذنبا منه، لكنها توريات اللاشعور الآثم المحصّن – بخديعة الشعر – والمنطلق نحو حضن موضوع الحب / الأم.إنه " يودّع " في الواقع فقد صار ما لا يُتخيّل حقيقة، معنى موت أمي هو أنني قابل للموت أيضا: (يا كلّ الذين أغضبتهم يوما... من أصدقاء طيبين... ومجانين... وباعة خضروات... وزملاء طباشير... وطلبة رائعين أبعدتني الحكومة عنهم... ورفاق معتقلات ومعسكرات لجوء... وأرصفة منافي: إبعثوا إلي بعناوينكم... وأرقام هواتفكم... فأنا أريد أن أعتذر منكم... قبل ذهابي للنوم... في حضن أمّي – ص 17). وهذا التوديع هو المرحلة النفسية اللاحقة من عملية استقبال فكرة رحيل عزيز، وتتمثل في الوقوع في شرك الإكتئاب والمزاج السوداوي، حيث النظرة الفارغة إلى الحياة، وفقدان الرغبة في الأشياء والموجودات. هنا الجلسة المنكسرة المنطوية على ذاتها، في محطة الحياة الأخيرة، منتظرا " غودو " الحياة الوفي العظيم الذي لم يخذل أحدا أبدا: الموت. هنا حالة تصالح مع غربان المصير الأسود التي لم تعد أصواتها أو مجرد حضورها تثير التشاؤم. هنا يأتي القاتل الأزلي (والموت نوع من القتل كما يصفه المتنبي) فيجد كلّ شيء مهيأً، لا احتجاج، ولا رفض ولا إنكار ولا مقاومة.. بل على العكس مما يتوقعه، قد يّصاب بالخيبة لأن الهدف / الضحية مات قبل أوان قبض روحه، وقد يتضاعف إحباطه حين يجد الأخير ينتظره بفارغ الصبر، ومرتديا كفنه !!: (يوم رحلت أمّي:

جفّ حليب الطفولة في فمي... والزَبَد في مفرقي.. لم يعد ملح السنين.. صار أولى خيوط كفني... مذ رحلت أمّي... وأنا: جثة... تمشي على قدمين... في مقبرة... اسمها الحياة – ص 33و34). إنها حالة من اليأس القاتم الخانق التي تجعل الفرد يعيد مراجعة حسابات قلقه وهواجس مخاوفه التي كانت قبلا ترعبه وتقض مضجعه. فبعد أن يستخف الإنسان بالموت وينتظره بنفاد صبر، لا يعود لأي مصدر من مصادر القلق الأخرى أي معنى مهدّد. فما الذي سيعنيه المرض أو الإنفصال أو العوز أو المنفى لشخص يشعر أنه جثة تمشي على قدمين ؟ حتى العمى الذي يمثل أقسى درجات الإنخصاء الوجودي والنفسي الرمزي (لهذا عاقب أوديب نفسه بفقء عينيه بأسياخ الحديد) والذي كان مجرد التفكير فيه يفزع الشاعر يوم كانت لعينيه قيمة مستلهمة من " إنطباقهما " على صورة موضوع حبّه، لم يعد مصدر ذعر، فوق ذلك نجد الشاعر يتحدى العمى في عقر وظيفته: (أيها العمى... لن أخافك بعد اليوم... عيناي أصبحتا... فائضتين عن الحاجة... تماما كالزائدة الدودية... مادمت لن أطبق بهما... على وجه أمي – ص 28). لكن الشاعر يبقى في دوامة مصيره المؤكد – وقد تأكد منه تماما الآن – " يخطط " للكيفية التي يلتحم بها بالأم الحبيبة الراحلة. هنا يوقظ اليوم الخيارات الإلحادية – نفض اليد من لعبة الحياة والموت ومن رحمة السماء ودورها نهائيا – والإيمانية – التقرّب الذي قد يكون مبالغا فيه من السماء، والغرق في الممارسات الدينية الطقوسية – على حدّ سواء. كلّ هذا يعتمد على المآل النهائي الذي نتصوره لفقيدنا

الغالي، هل سيأكله الدود وينتهي كل شيء في حياة مادية متهالكة فيها النمل الأسود أعظم فعلا من الإنسان - بناء الله وخليفته والمخلوق على صورته والذي يمزمز به دود القبور !! -، أم أنه سيحيا مكرما في حياة ثانية تخيلناها كرد فعل دفاعي خلودي وكثأر من مهانة أننا – في نهاية مصائرنا عبارة عن كيس لحم وعظام تافه قد يلعب بها الأطفال في المقابر الدارسة أو يضحك على نوعها الآثاريون في بحوثهم بعد مائة عام !!. اختار الشاعر الخيار الإيماني، وهاهو يهيئ نفسه بعد ما يبدو أنه حياة لذائذ عاصفة، فيبدأ بخلع صاحباته الخطايا باحتقار كما يخلع قميصه الوسخ، ليضمن الدخول إلى الفردوس.. فهناك سيرى الأمومة آلهة متوجة: (أيتها الحماقات.. اللذائذ.. النزق.. الطيش.. البطر.. الخطيئة... الجنوح... المعصية: ها أنا أخلعكن من حياتي... كما أخلع قميصا وسخا... عليّ منذ الآن... التوضؤ بالكوثر... كي يسمح لي الله.. بدخول فردوسه... لرؤية أمّي – ص 14و15). وقد تركت له أمه ما يوحي له بالطريق السديدة التي يجب عليه أن يسلكها كي يلحق بها ويلتقيها في المكان الأخروي المطلوب.. تركت له – بخلاف إبيه، " هدهد الآخرة " الذي لن يحضر أبدا، والذي ترك له فاتورة كهرباء إرثا هزيلا مضنيا – تركت له عباءتها التي فوق أنها رمز الإحتضان والتثبيت على حب الأم الذي لا خلاص منه، فهي إشارة فسّرها بأنها تحديد للخيار الإيماني ؛ سيتخذها سجادة للصلاة.. وهو يكاد يكون أكثر انكسارا من أبيه.. فقد ورث بدلة ابنه الفقيد.. وسيورث أبناءه قائمة آماله المجهضة، فإذا كانت أمه قد تركت له عباءة ورمزا وخيارا ودفنت في أرض وطنها، فإنه لن يترك لأبنائه سوى غصات أمان لم ولن

تتحقق، فقد صارت في هذا الزمن مستحيلة على العراقي رغم بساطتها: وطن آمن وقبر سعيد: (حين مات أبي... ترك لي فاتورة كهرباء.. حين مات ولدي... ترك لي... بدلة العيد الذي لم يعشه.. أمي ؟.. تركت لي عباءتها... سأتخذ منها سجادة للصلاة... أما أنا... فسأترك لأطفالي... قائمة طويلة... بأمنياتي التي لم تتحقق.. منها مثلا: أن يكون لي وطن آمن و... قبر – ص 23 و 24). والآن هل نتوقف عند هذا الحد ؟ ألم نشبع نص السماوي درسا وتحليلا وكشوفا ؟. كلا.. لن نتوقف.. أو بالأحرى أن النص الكبير هو الذي يمسك بتلابيب قدراتك التحليلية ويهزك ولا يتيح لك التوقف. إن وقوفنا عند هذا الحد من التحليل رغم ثرائه سيغفل الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية عن مضامين ودلالات رثاء الأم المباشر. إن الجانب الذي سوف نتناوله هو الذي يضفي قيمة كبرى على هذا النص. وهو يتعلق بالتأملات الفلسفية والوجودية التي أثارها رحيل الأم. هذه التأملات هي التي ينطلق فيها الشاعر مما هو شخصي، ومحدود التأثير في دائرة الكينونة الفردية، إلى ما هو عام وكوني يلامس صميم معضلات وجودنا كبشر. وهذه الوقفات (المقاطع في هذه القصيدة) تقابل ما أسميته بـ " الفسح السردية التأملية " في الرواية، التي من دونها – ومن دون الحوارات - لن يبقى من الرواية سوى الحكاية المجردة. وليس شرطا أن الإنثكال بعزيز يرحل مثل الأم يؤدي إلى تحطيم أحبائه الأحياء. لقد كشف الشاعر بلا لبس مقدار الألم الساحق الذي يعتصر روحه بفعل موت أمّه، وما تعنيه تلك الخسارة لفقرائها وعصافيرها، ورسم صورة الأم الحنون المعطاء المتصالحة مع ذاتها ومع الطبيعة والكون الصغير المحيط بها، الأمر الذي يضاعف من شعورنا

بجسامة الخسارة، كما صور الشاعر بصدق موجع الزلزلة التي صعقت وجوده بفعل هذا الرحيل، وكيف تعاونت صدمة الفقدان مع ضغوط المنفى على تمزيق إرادته وإيقاعه في فخ الإكتئاب واللامبالاة. لكن الموت يمكن أن يكون فرصة لا تعوّض لإنضاج الشخصية وتطورها. يتم ذلك عبر الوقوف عند المضامين العميقة للغز الموت، ولمعنى هذه اللعبة المسماة الحياة والموت في حركتها التي لا تهدأ والتي تطحننا بين فكي الزمان: (أيها الناعور.. هلّا كففت عن دورانك... المطر جمر.. والأرض ورق – ص 32). حرائق وجودنا، نحن الورق الهش لن يتوقف دخانها أبدا، تحت الوابل الأزلي لجمر مطر الأقدار. وهي فعلا لعبة، لعبة مسمومة، مادمنا نعرف اللعب بأنه أي نشاط يهدف إلى الحصول على المتعة. لعبة نحن موادها وأدواتها، أحياء وأموات.. وما الفرق بين الأموات والأحياء ؟: (الأحياء ينامون فوق الأرض... الموتى ينامون تحتها.. الفرق بينهم: مكان السرير.. ونوع الوسائد.. والأغطية ! – ص 12). إنها لعبة حقا تتلاعب بخيوط مصائرنا السوداء الآلهة مستمتعة، في موتنا وفي حياتنا، وقد أدرك سرّها الشاعر: (يا للحياة من تابوت مفتوح.. أشعر أحيانا.. أن الحيّ.. ميت يتنفس.. والميت حي لا يتنفس – ص 11 و 12). ومن الشعور العابر إلى القناعة الراسخة بأن الحقيقة الوحيدة في حياتنا هي موتنا، هذه القناعة التي ألهبت العملية الإبداعية، كطريق دفاعية توفر الإحساس بالإمتداد والخلود، فجعلت الشاعر يبدع نصه الباهر هذا: (وحده فأس الموت...

يقتلع الأشجار من جذورها... بضربة واحدة – ص 7). وبقصدية عالية يخصص الشاعر المقطع الثالث والثلاثين من القصيدة ليقدّم ثلاثة أبيات من الشعر العمودي تكشف ما قلناه عن الإنفعالية المباشرة التي توفرها إيقاعية العمود والتفجع الحاد: (لو أن من شيّعت يُفدى – أبدلت بالدارين لحدا أو أن شق الثوب يجدي – قد شققت عليك جلدا وأذبت شحم المقلتين – تفجعا ولطمت خدّا – ص 29).

وحين نراجع البناء الصوري في هذه القصيدة، وقصائد المجموعة الأخرى، فسنجد أنها صور سرديّة.. صور ممتدة إذا جاز التعبير، تعتمد على المشهدية الحركية، على العين السينمائية، وليست مثلما اعتدنا عليه في صور قصيدة النثر التي تأتي كومضات أو ضربات حادة. وسيكون لنا مع هذه السمة الأسلوبية وقفة مقبلة.

 

حسين سرمك حسن – ناقد عراقي مقيم في دمشق

 

....................

هوامش:

* شاهدة قبر من رخام الكلمات – نصوص نثرية – يحيى السماوي – دار التكوين – دمشق – 2009.

** أفكار لأزمنة الحرب والموت – سجموند فرويد – ترجمة سمير كرم – دار الطليعة – ط/3 – 1986.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1154 الاثنين 31/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم