صحيفة المثقف

رقصة على عَتبَة الخمسين*

من الأسئلة المحرجة والتي تخص العمر والديانة والدخل المادي وغيرها، بوصفها أسئلة شخصية محضة لا يجوز تداولها بشكل عام، وإذا كان واقع الحال كاشفا عن دخل الإنسان المادي غالبا، والديانة مظهر لا يمكن إخفاءه، بل إن إعتزاز الإنسان بدينه يصل أحيانا حدّ تجريم الآخرين المختلفين معه، ولكن العمر يبقى هو الطرف القلق في معادلة الناس نساءً ورجالا مع حساسية نسائية عالية!

رغم إن الزمن فضّاح ولا يصلح العطار ما أفسدَ الدهر كما يقول المثل، ولكن الإنسان يبقى متشبثا في رغبته للعيش في مرحلة عمرية محددة، يبقى باحثا عن خلوده المفترض في الشكل قبل المضمون.

فإذا كانت أولى ملامح الزمن على الكائن تبدأ من الشعر الذي يغطي الرأس والرأس فيه الجمجمة وفي الجمجمة الدماغ وهو المركز الرئيسي لكل تصرفات الإنسان ومستودع وعيه ولا وعيه معا..

فما الذي يفكر فيه الإنسان أزاء ظهور " الشيب" على فروة الرأس؟

سيفكر طبعا وبشكل تلقائي في إستخدام الأصباغ دون الإلتفاف غالبا الى تجميل ما بداخل الجمجمة!

ولكن ماذا لو كان التهديد على مستوى التصحّر في فروة الرأس " الصلع" فسيكون هلع الإنسان عاليا وسوف يشغل دماغه المسكين للبحث عن أنجح الوسائل لدرأ هذا الخطر الكبير.. وسوف يستجيب الدماغ " ولا حول ولا قوة له" بإرشاد الإنسان الى حلول تتفق مع مزاجه وعمره ودخله المادي.. فمن جراحة التجميل الى إستخدام الأعشاب وصولا الى أرخص الحلول المتوفرة بإرتداء " الباروكة" أو الذهاب الى الدين لإيجاد وسيلة غيبية للتخلص من عقدة الصلع الوراثية التي جاد بها الله على معتنق هذا الدين أو ذاك مجانا!

رأس بلا فروة بداية جريئة لتدوين الإعترافات!!

 

وكلما بالغ الإنسان في تحدي سطوة الزمن سيجد أن طريقة معالجته قاصرة وترقيعية..منذ ملحمة جلجامش والفشل الذريع يرافق الإنسان في رحلتة للبحث عن الخلود.

فهل حقا أن الزمن هو المارد العظيم لإختراق خوالج النفس الإنسانية وخصوصا فيما يخص موتها الحتمي؟

هل العمر مفتاح للبداية البشرية أم منشار يأكل جسد الإنسان ويتركه كخشبةَ موقد أو كرسي زائل لحاكم يريد البقاء الأبدي

 

لقد بلغتُ الخمسين.. وهو سر أعلنه لكم..

أهو سر إذن؟؟

جئت الى الحياة بصورة طبيعية على يد القابلة " غير المأذونة، أم سعدون" بعد الولادة القيصرية للجمهورية العراقية بثلاث سنوات..

خمسون عاما.. ترى َمنْ شاب منّا ومنْ تصابى؟

أريد أن أنشر أوراق عمري كبستاني ُيقلب التربة ويُسمّدها لزرع جديد.

خمسون جرحا على جسدي الباسل وأنا أُبعث من جديد..

خمسون وشاية على ظلي وأنا أتنفس الشمس قلقا.

خمسون راية على حلمي وأنا أحتفي بقوامي.

 

العراق يتجعّد ويتصابى وأنا شاهد على المحنة والإمتحان.

خمسون محطة وقطارك المديد يحبو على عرائش السؤال،

خمسون عاما وأنت طفل لا تريد الرشد.

خمسون عاما وأنت تنطُّ على شجرة الحكمة رافضا الوصايا وثمراتها الصالحات،

تصرخ منذ رحم أمك..الى الساعة بوجه الأرحام والحاضانات والسبابات والأصنام..

خمسون حلما وأنت كما أنت، تلهو بأيامك، تصنع أشكَالا للحياة التي تشتهي، تُصيّرها خلائق، تشاكسها، وتصنع الأضداد..

أيّةُ لعبةٍ أدمنتها.. أسمها الحياة

 

خمسون عاما وأنا أحمل خطوتي الأولى الى "مدرسة الإنتفاضة الإبتدائية للبنين" في البصرة، أتذكر أول دمعة حارة نزلت مني، وأخي الكبير يُسلّمني الى عالم جديد.. أنتظم فيه بلافوضى، كان ذلك أول درس لتقليم أظافر عبثي وطفولتي.. أتذكر أول صفعة من معلمي الجليل، وأول نجاح وأول صديق وشهادة حملتها بفخر متفوقا على أقراني..

أتذكر "متوسطة جرير" والأصدقاء الجدد والعمر الذي يجري مسرعا الى النضج.. أتذكر "مكتبة الجمهورية العامة" لإستعارة الكتب وأنا ادخلها حاملا دينارا عراقيا "أزرق باشط" بعافية السبعينيات.

أتذكر.. وهل أنسى أول حب لإبنة الجيران وهي تطبع على خدي قُبلة وأنا أرتجف هلعا.

كيف أنسى " ‘إعدادية الأصمعي" التي إنتصب فيها عمودي الفقري وبانت ملامح الرجولة تغزو عقلي قبل جسدي.

أمسك مرآة الزمن وأتجول في طرقات ما مضى.

 

أمتعة هي أم حفلة لجلد الذات؟؟

آه يا " كلية الإدارة والإقتصاد" في البصرة.. يا مشوار الحياة الناضجة والتجربة العملية وبداية الدخول الى عالم الأنثى.. أتذكر بحب أول عينين إخترقتا حياتي، أول زلزال عاطفي أطاح بكبريائي وعلّمني درس الإنحناء للنسيم والمشاعر والنساء.

أتذكر أخطائي وحماقاتي التي أدمنتُ بعضها وغادرتُ الكثير منها.. أتذكر عنادي وشكي.. وكبريائي وتواضعي، زهوي وقنوطي.

أتفحص أيامي وأقلّبها كصائغ ينقي الذهب بالنار .

أتذكر كذبتي الأولى وأندم..

كثير هو مشوار الندم في حياتي لانني غالبا ما كنت أنزع بسلوكي الى نداء روحي وعقلي معا، وتلك محنة السائر في الحياة بجبة المُحب وعقل الشكّاك.

أتذكر الجلسات والحوارات المليئة بالمشاكسة والنديّة وإبراز العضلات الثقافية، حميمية وبغضاء معا، تبادل معارف ونصب شراك، أصدقاء على موائد الخمرة وآخرين على موائد الروح.. كانت تلك أحدى المحطات التي لم تغادر الذاكرة بسهولة.

 

لن أنسى أول صافرة إنذار لحروب العراقيين التي لم تخمد نهارها الى الآن .

وما مر عام " والعراق ليس فيه خوف"...

أتذكر أولَ موتٍ خطف أرواح أصدقائي في زمن رعونة الديكتاتورية..

اليوم أتممّتُ لكم الخمسين من عمر لايريد سماع صراخي.

عمر يمضي وأنا أرقص كما " زوربا"

سأمسك " آلة الزمن" وأغترف من معين ذاكرتي للبوح القادم..

 

.......................................

*- مشروع رواية ذاتية. هذه الحلقة الأولى منه

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1775 الأربعاء 01/ 06 /2011)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم