صحيفة المثقف

محسن اطيمش ... الدهشة والحلم / سامي فارس

نحتفظ بأوهامنا، كفاحنا اللامجدي"

"بيرسي شيلي"

 

فقدت الأوساط الثقافية يوم 6/6/1994 أحد ابرز اسماء المشهد الثقافي العراقي، والعربي حيث رحل الشاعر والناقد الكبير الاستاذ الدكتور محسن اطيمش عن عمر لم يبلغ الخمسين، اذ غادر عالمنا وهو في قمة عطائه الأبداعي بعد صراع طويل مع المرض والدكتور محسن اطيمش من الأسماء المهمة وعلامة بارزة في الادب العراقي والعربي الحديث تميز بمنهجه النقدي العملي وثباته على مبادئه وافكاره ويعتبر مؤلفيه " الشاعر العربي الحديث مسرحيا " الذي نال عنه رسالة الماجستير في بغداد و" دير الملاك دراسة نقدية للظواهر الفنية في الشعر العراقي المعاصر" الذي نال عنه رسالة الدكتوراة في القاهرة، من الدراسات المهمة التي كتبت بموسوعية وتقنية عالية المستوى بأسلوب أكاديمي رصين تدل على ثقافته المعرفية، فهو الشاعر المجدد والتجريبي المتمرد على الشكل التقليدي والمرهف الشفاف الغارق بالرمز الدلالي، والناقد الفطن المقتدر المحترف الذي، يمسك بالنص الشعري بوعي وذكاء، فلديه طاقة ابداعية متفردة في النقد اذ يكتب بطريقة الكتاب الغربيين الكبار،بفقدانه فقد الأدب العربي أحد أركان مدرسة نقدية حديثة ذات قيمة ابداعية متجددة، بعد ان ترك بصماته الابداعية ومحبته على امتداد الوطن العربي وقد كتبت عن الدكتور محسن اطيمش العديد من المقالات الوداعية والمراثي والشهادات الرائعة، من قبل العديد من الأدباء والنقاد وابرز رموز الثقافة العربية والعراقية اذ أول من رثاه الدكتور عبد العزيز المقالح من اليمن، وصديقه الاثير وزميله الاستاذ الدكتور الناقد عبد الرضا علي، وصديقه الدكتور علي جعفر العلاق وصديقه القاص والروائي المبدع عبد الستار ناصر ومسرحية "مرايا محسن اطيمش " للمسرحي العراقي الرائع المرحوم كريم جثير، واخيرا كان حاضرا من ضمن شخصيات رواية " نحيب الرافدين " لصديقه العتيق الحميم القاص والروئي الاستاذ عبد الرحمن مجيد الربييعي.

تعرفت على محسن اطيمش من خلال ماينشر له في الصحف والدوريات الثقافية، وكذلك من خلال كتابه النقدي الشاعر العربي الحديث مسرحيا، وكتابه دير الملاك في اول طبعة عام 1982 وتعرفت عليه شخصيا في عام 1984 عندما كنت طالبا في قسم اللغة العربية في الجامعة المستنصرية اذ كان يدرسنا النقد التطبيقي في السنة المنتهية. وكان كتابه دير الملاك هو الكتاب المقرر مما اتاح لي التعرف على محسن اطيمش الاستاذ والشاعر والانسان والصديق عن قرب.

فهو الاستاذ الاكاديمي الملتزم الذي يحترم مهنته ويحرص على توصيل المادة العلمية الى طلابه بأسلوب أكاديمي يميزه عن غيره من الاساتذة التقليديين، اذ كان في قاعة الدرس متواضعا سخيا يبعث روح النقاش والبحث، هو القادر على تحويل قاعة الدرس الى جلسة ادبية.

 . كان درس " البحث الخاص " من الدروس المقررة، ويعتبر في تلك الفترة هو بحث التطبيق فكان المشرف علينا محسن اطيمش فطلب مني ان اكتب عن القصة العراقية القصيرة في المعركة .في تلك الفترة كان هذا الموضوع نقديا حساس وصعب للغاية اذ يتفق الجميع أن القصة التي كانت تنشر هي القصة التعبوية الانفعالية التي لم تنضج تجربة الحرب فيها بعد ولاتمثل الواقع العراقي المأزوم الرافض للحرب، بأستثناء بعض المحاولات الناضجة الجريئة وهي قليلة جدا، لذلك اعتذرت وطلبت منه ان اغير الموضوع لكنه رفض ذلك، وشجعني قائلا لي اكتب ولاتخف، عرفت بعد ذلك ان الذي سيناقش البحث هو الاستاذ الدكتور علي جعفر العلاق الذي كان يدرسنا الادب المقارن والمذاهب الادبية والاستاذ خالد علي مصطفى الذي كان يدرسنا الأدب الحديث، وكنت اعرف علاقتهما العميقة والحميمة مع دكتور محسن مما شجعني ذلك على ان لا أتردد واكتب البحث بموضوعية نقدية صادقة، وكان سعيدا لماتوصلت اليه .

 لم يكن هم محسن اطيمش هما ذاتيا، بل هما وطنيا،هو الانسان والأديب المبدع القلق على مستقبل بلده، والرافض للزيف ولكل يتذكر ويشهد له موقفه العلني الشجاع عندما أعتلى منصة المربد في عام 1986 اذ كان نقده لاذعا الى الشعراء وهاجم جميع القصائد بلاستثناء، ورفض الانسياق وراء الأعلام الزائف، وكان تأثيره على طلابه ابعد من اجواء الجامعة بل كان يدفع بنا الى الوسط الثقافي لحضور امسيات اتحاد الادباء، ومتابعة الأعمال المسرحية الجادة . ويشجعنا لاكمال الدراسات العليا ليبعث فينا الأمل، وكان يألم كثيراعندما كان يعرف بأننا يجب ان نذهب الى الحرب بعد نهاية الفصل الدراسي وقد لانعود بعدها، فكان يطلب منا التواصل ليطمئن على سلامتنا .

 رغم الهم الذي يحمله فهو يمتلك القدرة الجاحظية والنكتة الجميلة اذ كان يبدأ الدرس بمقولة شكسبير الشهيرة " المصائب لاتأتي فرادى ". في يوم ما طرح علينا سؤال في بداية المحاضرة: ماهي فوائد الفصول الاربعة ؟ اختلفت اجابة الطلاب كل حسب تفسيره للسؤال، فكان جوابه : بالنسبه لي فصل الشتاء هذة السنة مختلف اذعثرت اليوم على دينار كان مختبئا في جيب سترتي من العام الماضي فكان بين الدهشة والفرحة، الدهشة كيف انفلت منه هذا الدينار ؟ والفرحة عندما عثر عليه، هذا هو محسن اطيمش الرائع الذي لايجامل، في زمن كان الزيف الادبي يبني قصورا ويعتلي اعلى المناصب، والمثقف الحقيقي يهمش كان عفيفا متواضعا كريما، وهو الذي لايملك سوى اسمه ومحبته في قلوب الجميع كان بهيبة العلماء والمفكرين وجيوب الكادحين. كانت علاقته طيبة ومميزة مع العمال في القسم مع " ابو طارق " الذي كان يعمل صباحا وفي المساء يبيع الكبة في ساحة الطيران لذلك كان ابو طارق يمشي وهو يتثائب او شبه نائم من شدة التعب ومع "ابو راضي " الذي يسكن مدينة الثورة ويعاني من مشكلة السكن والعائلة الكبيرة وخوفه وقلقه على ولده الكبير، في جبهات القتال، كان يتحدث معهم باستمرار، ويعرف تفاصيل حياتهم الاجتماعية ومعاناتهم، ورغم ذاكرته المتعبة فهو يحفظ حتى أسماء أولادهم .

غادرنا محسن أطيمش في زمن يطحن الشوان والحجر في زمن التسلط واللامعقول كانت الطبقة العالية من المثقفين تعيش ماكان يمر على العراقيين جميعا من التقشف ونقص العلاج، وفي رحيله المبكرعلامة استفهام ودهشة، ان هذا المبدع النقي كأنما دخل الى عالمنا بطريق الصدفة جاء لمهمة، عليه ان ينفذها على عجل من امره اعطانا مؤلفيه وأشعاره وكل قطرة حبر فيهما هي قطرة... قطرة من روحه وحاز على اعلى الشهادات العلمية بأمتياز من عالمنا اللامجدي ثم تركها زاهدا بها وذهب الى عالمه السرمدي الجميل بعد ان ترك في قلوبنا الم الفراق . تعلمنا منه المحبة والسلام والصدق الادبي اذ كيف يستخضر ويتقمص الناقد روح الشاعر ويعيش معه حالة العذاب والابداع، والموت ليذهب معه الى العالم الاخر فهي حالة صوفية صادقة فريدة من نوعها، فهو لم يذهب وحيدا بل ذهب مع كل احبائه الذين سبقوه كانوا ينظرون اليه من شباك وفيقة في غرفته الحزينة في المستشفى المطلة على نهر دجلة . موته يشبه حالات متعددة من الشعراء الذين تناول نصوصهم الابداعية، واقربهم صورة اليه السياب في غربته وصراعه مع المرض . لكن محسن المعذب بعد صراعه مع المرض في بلاد الغربة يموت في الوطن بين أهله ومحبيه، كيف امتزج الناقد والشاعر والوطن المعذب معا؟ ومن منهما المعذب ؟. ومن وفائه الجميل اتذكر عندما زرته في مستشفى مدينة الطب قبل وفاته بأيام كانت هنالك باقة ورد بعثها مجموعة من الاصدقاء، فكان غارقا بغيبوبة مسالمة يفتح عينيه بين حين وأخر بصعوبة ليعرف من القادم ثم ينظر الى باقة الورد ويبتسم، وكانما كان يعانق الجميع عناق الفراق الأبدي، ثم يغرق في غيبوبته الطفولية البريئة...

كنا معا.. محمد عفيفي مطر

كنا معا.. بيني وبينك خطوتان

كنت صراخ اللحم تحت السوط حينما

يقطع ما توصله الأرحام

وشهقة الرفض إذا انقطعت مسافة الكلام

بالسيف أو شعائر الإعدام

كنت أحتاج الضوء والظلام

وثغرة تنفذ منها الريح

لليائسين من أرغفة الولاة والقضاة

والخائفين من ملاحقات العسس الليلي

أو وشاية الآذان في الجدران !!

 

محسن اطيمش شهادة على العصر بكل مايحمله من محطات مهمه في تاريخ العراق المعاصر الذي ذاب فيه عشقا واعطاه كل ما يملكه، ذاق في سبيل ذلك الغربة والعذاب والمرض ولم يتنازل عن مبادئه وافكاره . اتمنى ان تتحول قصة حياته الى عمل درامي فهو بطل تراجيدي تتوفر في شخصيته وسيرة حياته الثرية كل المواصفات للعمل الدرامي فالاهتمام بملف الدكتور محسن أطيمش امانة في اعناق المبدعين والمهتمين بالابداع، فالذين رحلوا من عالمنا نحن بحاجة اليهم، وهم الذين زهدوا بعالمنا الفاني وكفاحنا اللامجدي، وهذا حال الشعوب المتحضرة التي تحترم تراثها ومبدعيها وعطائهم الانساني . ومحافظته الرائعة المميزة بالعطاء الايستحق هذا المبدع الأسطوري تكريما يذكر الاجيال بسيرته الابداعية .

 

سلاما استاذنا العزيز تقبل كلماتنا المتواضعة، ومراثينا اللامجدية في زمن الغربة

 

 سامي فارس

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1780 الاثنين: 06 / 06 /2011)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم