صحيفة المثقف

سيكولوجيا الفوضى بين بغداد وبيروت

ولقد وجدت بينها وبغداد شبها كبيرا، بعكس ما وجدته في دبي التي أخشى عليها أن يأتي يوم تفقد فيه لغتها العربية!.

 ولأنّ قدري النحس أقحمني في التنقيب عن أسباب الظواهر الاجتماعية والنفسية، فقد لفت انتباهي أن الفوضى المرورية موجودة في كل من شوارع بغداد وبيروت غير أن أسلوب تعامل الناس معها يختلف بشكل مدهش. فالفوضى المرورية في شوارع بغداد تؤدي الى توقف السير لربع ساعة او أكثر من ساعة، فيما السير في شوارع بيروت يكاد لا يتوقف رغم أن ازدحام السيارات في شوارع المدينتين هو نفسه.

 واللافت أن الاشارات الضوئية المرورية في شوارع بيروت قليلة ولا وجود لها في تقاطعات كثيرة. ومع أن معظم شوارعها ضيقة ومزدحمة بالسيارات فان السير فيها لا يتوقف رغم عدم وجود رجل مرور ايضا! ولو أن مثل هذا الحال حصل في شوارع بغداد لتوقف السير لساعات.

 وفكرت في الأمر فاكتشفت (!) نظرية اجتماعية في الفوضى، خلاصتها: «اذا طال أمد الفوضى لسنوات، وتولّد لدى الناس يقين بأن الحكومة عاجزة عن فرض النظام، تولّى هؤلاء الناس أمر تنظيم الفوضى بمسؤولية تضامنية، فيما تستمر الفوضى في المجتمع الذي يوكل أمر حلها للحكومة وحدها».

  فاللبنانيون حين يئسوا من حكومتهم في معالجة الفوضى المرورية، عمدوا هم بعقلهم الجمعي ومستوى وعيهم الحضاري الى معالجتها بما يسهّل الأمر عليهم. فلقد لاحظت أن السائق اللبناني يستغل مسافة العشرة سنتمترات في تغالبه مع الآخر من دون أن يتضايق أحد أو يعدّه تجاوزا، وكأن شعارهم: «استغل أقصر مسافة في أسرع زمن واحرص على أن لا تجعل السير يتوقف»، بعكس السـائق العراقي في تغالبه مع الآخر، فهو أناني لا يفسح المجال لغيره حتى لو أدى سلوكه الى انغلاق السير، فضلا عن أنه عدواني وانفعالي ولا صبر لديه، فاذا ما توقف السير، كفر بالدنيا وسبّ وشتم واتهم الآخرين بالتخلف مع أنه سبب فيه.

  ومع أن لهذه الفوضى غير العقلانية، عندنا، أسبابا كثيرة (الحروب، الاحتلال، الاحباطات المتراكمة) الا أن واحدا من أسبابها هو أن الشخصية العراقية، اعتمادية.. تريد من الحكومة أن تحلّ لها كل مشاكلها، وأنها لم تتعلم، كالشخصية اللبنانية، كيف تتعامل مع الأزمات بالاعتماد على نفسها، وأنها اذا انعدمت ثقتها بالحكومة لجأت الى الثقة بالآخرين لتسيير أمور حياتها. فنحن العراقيين، تشيع لدينا في أوقات الأزمات نزعة الشك، ليس بالحكومة فقط بل وبالآخرين ايضا، لسبب نفسي هو يقين العراقي بأن كل الأزمات من صنع الحكومات، فيعاقبها بترك حلّ الأزمة لها، بدليل أن الأسابيع الأولى بعد التغيير في 9-4-2003، حيث لم تكن هنالك حكومة، تولّى الناس من السواق والمارّة أمر تنظيم المرور والسيطرة على الفوضى. ذلك أن مزاج العراقي في حالات فرحه يعود به الى أصالته في سلوك الايثار والتعاون وتغليب المصلحة العامة.

 وما نخشاه أن أصالة القيم والذوق العام تتآكل مع استمرار الفوضى. وعندها نكون أمام احتمالين: اما أن يستغني الناس عن الحكومة ويتدبروا أمورهم بأنفسهم، واما أن تنشغل الحكومة بأمر نفسها وتترك الناس. وهذا ما هو حاصل.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1161 الاثنين 07/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم