صحيفة المثقف

كتابة (الكاتوب) في زمن الحاسوب

أولئك كتاب مبدعون يكتبون في صحف ومجلات تحترم الابداع ولا تسمح بالتالي لكل من مارس (الكتابة) وأظهر عقده النفسية على الملأ مدحاً وذماً بالفاظ لاتنتمي الى عالم الكتابة، التي هي بخلاصتها فعل معرفي يتطلب الكثير من التهيئة النفسية والقدرة على استنباط الفكرة واستقراء المعنى من ركام الوقائع حتى المغبرة منها ، ذلك لأن قاريء النص المعرفي، وان اختلف مع الكاتب رأياً أو منهجاً، لكنه لابد يقيم حواراً فكرياً يتبادل فيه مع الكاتب جوهر الفكرة وماهية الخطاب ليتطور من ثم عالم الفكر بعموميته نحو رؤى وآفاق معرفية جديدة أو متجددة، وفي هكذا نوع من الكتابة وفعل القراءة، لارابح سوى المعرفة ذاتها حيث التبادل المعرفي يعود بالنفع على الكاتب والمتلقي معاً، فالخطاب انما يتجه للعقل وأدواته التي تتمحور بعوامل الزمان والمكان والنسبية والإحتمال والاستنباط والقياس والربط بين الأسباب وحيثياتها والمعطيات ونتائجها .

ذلك كان مقياساً ومازال لبعض الصحف والمجلات التي حافظت على مستوى معقول من الكتابة وبالتالي غربلت نصوص الكتاب لتسمح من ثم بالمرور لمن يستحق القراءة معرفياً وان خالف توجهات الصحيفة المعنية .

لكن تلك المعايير أفلتت من ضوابطها، اذ انبرى للكتابة كل من اراد شتم جهة أو ثلب شخص، ومادامت المواقع الالكترونية من الكثرة بحيث لم تعد معنية ولا قادرة بالتصفية للنصوص من حيث اسلوبها ولغتها وسياقاتها، ذلك لأن بعض اصحاب المواقع انفسهم لم يكونوا كتاباً أصلاً، او انهم وجدوا أن انسب طريق للشهرة، هو افساح المجال لكل من يريد مهاجمة الآخر مستخدماً الألفاظ الفاحشة والاسلوب المتدني .

العوامل الاكثر جلباً ( للشهرة ) الرخيصة التي لاتكلف جهداً ولا تتطلب استعداداً خاصين، هي مهاجمة الحكومة العراقية على وجه التحديد، لم نسمع ان معارضاً سوريا اشتهر لأنه كتب عما يحدث من قمع وممارسات ذلك النظام، كذلك يعاني الكتاب المصريون والسعوديون والليبيون والسودانيون وسواهم ، المعارضون لانظمتهم، من التجاهل والإهمال رغم مايملكونه من مقدرة في التعبير وحقائق ايرادهم لما يحدث في بلدانهم، ورغم ان الكثير منهم يعد من الكتاب والمثقفين المرموقين .

أما في العراق، فكأنما تستمع الى جوقة سيئة الاداء، يكفيها انها تهاجم العراق وتمجد القتلة، أو تثلب الحكومة والتجربة الديمقراطية في العراق بحيث لاتجد متنفساً واحداً لقراءة يمكنها ان تستبطن ما خلف الواقع ربطاُ بالمستقبل .

أي من الشعوب المتطورة التي تقف في أعلى سلم التطور اليوم، لم يمر في ظروف اسوء مما يشهده العراق، وعلى إمتداد ازمنة طويلة من تاريخها ؟ لقد شهد الفرنسيون والبريطانيون والالمان والامريكيون، جميع انواع الحروب الأهلية والمجازروالسياسيين الفاسدين والمرتشين والمتعاملين، وشهدوا كذلك من اثرى على حساب شعبه حيث أطلق عليهم (أثرياء الحرب)، لذا فالموضوعية تقتضي النظر الى النقطة التي بدأت منها تلك الشعوب لا التي انتهت اليها، كي يمكن المقارنة بالتجربة العراقية .

هذا لايعني السكوت عن المثالب والجرائم والخطايا والاخطاء التي ترتكب في العراق، لكن هناك من لايرى سوى الاسوداد متناسياً ماحققه العراقيون على رغم كل ظروفهم بالغة الاستحالة .

 احتاج الامريكيون الى 15 عاماً كي يكتبوا دستورا ويقروه، ومائتا الف ضحية ذبحت في شفرة المقصلة الفرنسية، ومثلهم في محرقة البارثليميو بين البروتستانت والكاثوليك ، قبل ان تعلن دولة الرفاه والعقد الاجتماعي، والأمثلة لاتحصى، فأي منطق يقول أن العراقيين قادرون على تجاوز كل ازمنة الاستبداد وما خلفته من دمار وخراب، والتغلب على كل العداء الذي تعلنه دون الجوار مجتمعة، مع طراوة التجربة وحداثة العهد بهذا النوع من الحكم - الديمقراطية - لينتج من ثم تجربة لايأتيها الباطل وكانما تقيمها الملائكة ويرعاها مجمع آلهة الأولمب ؟

بلد بحجم العراق وبكل اشكالاته التاريخية عميقة الغور، يحاول ان يقطع مع تاريخه الدامي وماضيه العنيف، وهوكمن يتظلل بشجرة تحترق، فهل من المعقول ان تكون كل الأمور ممهدة وسليمة؟

لقد أنجزأكثر من دورة إنتخابية بنجاح، وكتب دستوراً صوت عليه شعبه للمرة الاولى في تاريخه الممتد عبرالاف السنين، وفوق ذلك فالمواطن العراقي يعتبر الاكثر تمتعاً بالحرية التي لم يكن تصورها ممكناً – ناهيك بممارستها – أما اليوم، فبإمكان اي كان، أن يقف في اي ساحة في بغداد أو في ايما مدينة اخرى، ويرفع لافتة مكتوبة بالخط العريض يقول فيها ( تسقط الحكومة – ويسقط المالكي ) فيقف قدرمايشاء ومن ثم يعود الى بيته آمناً مطمئنا من الاعتقال .

أما الخدمات، فقد طلب من شركة يابانية أن تقوم بإصلاح البنية التحتية في بغداد، فقدمت الشركة المذكورة توصية للحكومة تبدي فيها استعدادها لبناء مدينة جديدة بنفس الكلفة، على ان تترك بغداد كما هي أوأن تجرف بالكامل وتبنى مدينة أخرى مكانها.

افتتحت محطة مياه في احد احياء بغداد بعد عمل استغرق عاماً، فدمرها انتحاري في لحظات، وتم بناء شبكات للكهرباء، فنسفت وأحرقت، تلك امثلة توضح بعض ما يعانيه العراقيون الذين كانوا يقتلون لمجرد كنسهم للشوارع او زراعة عود أخضر.

فاذا اضيف الى ذلك، ضعاف النفوس من السياسيين الفاسدين والتابعين لأجندات خارجية والساعين لتامين مصالحهم على حساب الوطن – وأمثالهم موجودون في كل مكان وليس في العراق وحده – نرى مقدار المعاناة العراقية، وبالتالي فالحديث عنها لا يتطلب كل ذلك الجهد، انما الجهد يتطلبه البحث عن حلول موضوعية وتقديم البواعث الاساسية للحدث وبالتالي معرفة اتجاهات المستقبل الذي تشير على ان العراق لن يغرق بما تقوله أوتفعله تلك الجموع الحاقدة والاصوات الرادحة الباحثة عن افراغ عقد ها في (كتابات) لايصح فيها سوى كلمة اخرى لاترتبطها علائق بعلم الكتابة  .

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1164 الخميس 10/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم