صحيفة المثقف

(بطولات) الصورالمتحركة

ثم في مورد آخر من الملحمة ذاتها (والتزم أبطال اوروك بيوتهم).

البطولة ضمن ذلك الإيراد، كانت تعني قوة الجسد وجرأة القلب التي تتجسد تجلياً في ساحات الوغى ومواقع القتال، لذا لم تكن تطلق على كل من حمل سيفاً أو شارك في معركة .

ولما كانت تلك الصفة لا تمنح الا لمستحقيها ولا تتوفر من ثم لغيرهم، لذا فأنها تضع  صاحبها في موقع متسام  بين أقرانه حيث التميز والرفعة .

طوال حضارة وادي الرافدين وماجاورها من حضارات، إرتبطت تلك المفردة بالحروب ومقتضياتها، لكن ومع الحضارة اليونانية لاحقاً، أدخل مفهوم آخر للمعنى، فصارت تطلق على المجلين في الألعاب الرياضية، وإن لم تغادر مضمونها السابق، إذ انها بإختصار جهد إستثنائي وقدرة كبيرة في مجال التفوق  الجسدي.

في كل تلك المراحل من التاريخ، كانت البطولة ذات طابع فردي، ولم تظهر إرهاصات البطولة الجمعية، الا مع تفوق إسبارطة اليونانية التي جعلت من الشجاعة  في الحرب شرطاً ملازماً للرجل الذي ينبغي ان يكون محارباً باسلاً حيث تخاطبه والدته أو إمرأته قائلة: (عد بدرعك او محمولاً عليه) بمعنى منتصراً أو شهيداً يحمله رفاقه على درعه كما في التقليد الإسبارطي، لذا كان من المعيب للرجل الإسبارطي  أن يكون بطيناً أو مترهلاً، لأن الرشاقة صنو الحركة وبالتالي فهي من صفات المقاتل الجيد .

 في المقابل، ولما كانت أثينا مدينة العلم والفلاسفة، فقد انتجت بطولة من نوع آخر مواز، حيث توجت المجلين في الألعاب الرياضية أبطالاً ترفع على هاماتهم اكأليل الغار،  والبطل  الرياضي رشيق بدوره كما المقاتل الاسبارطي وان اختلفت المهمة، لذا كانت الرشاقة  الجسدية  صفة مطلوبة مازالت متبعة في كل جيوش العالم ورياضييه على مر الأزمنة  والعصور. 

في الحضارات القديمة التي عرفت معنى الدولة والقتال بنسق الجيوش،كانت هناك صورة أخرى للبطل الحربي، فهو إضافة الى قدراته الخاصة وشجاعته، يمتاز كذلك بذكائه وقدراته العقلية التي تجعله يجيد قيادة الجيوش نحو النصر باتقانه فنون القتال ومتغيرات ظروف المعركة وما تتطلبه من وضع الخطط والقيام بالمناورات والسيطرة و الإدارة وسواها مما اشتهر به قادة الحروب على مر التاريخ .  

أما العرب، فقد مجدوا البطولة في أولات أيامهم، وترسخت لديهم صورة البطل الفرد بإعتباره الفارس الشجاع الذائد عن حياض القبيلة والمدافع عن كرامتها، لكن ومع ظهور الإسلام، تغير ذلك المفهوم النمطي ليتحول من ثم البطل الى ذلك القائد المحنك الذي يستطيع قيادة جيوش المسلمين نحو الفتوحات بدارية ومعرفة بفنون القتال ودراسة متغيرات المعركة، فظهر الأبطال القادة الذين لم يكتفوا بالصورة القديمة للبطل التقليدي بقدراته الفردية وفروسيته، فاضفوا على البطولة معان كانت جديدة بالنسبة للعرب على وجه الخصوص،بعد أن دخلوا للمرة الأولى طور الأمة الناجزة أسوة بمن سبقهم  .

الى جانب ذلك، إخترع حكماء الهند لعبة ذات طابع حربي يتنافس فيها لاعبان في المهارة الحربية بإستخدام ادوات الحرب القديمة ذاتها من دون حاجة لإراقة الدماء، فكان الشطرنج الذي وضعت له قوانين ونظم لاحقة واقيمت له بطولات خاصة توج البارعون فيها ابطالاً للعالم .

في كل تلك العصور، كان الأبطال أشخاصاً حقيقيين يؤدون مهمات حقيقة فيتجلون فيها وينالون اللقب تبعاً لما أنجزوه،لكن ومع الثورة الصناعية الكبرى في الغرب، وإندلاع حروب دامية بين الدول الصناعية التي شهدت إنبثاق أدوات قتل جديدة جعلت مستوى البطولة الفردية يتدنى الى مراتب متأخرة، ظهرت حركات وشخصيات سخرت من مفهوم البطولة القديم في محاولة لكسر ذلك التابو المقدس، فظهر البطل / الصورة، الساخر والرشيق .

حدث ذلك في بدايات ظهور السينما الصامتة، فكان شارلي شابلن بطل تلك المرحلة بلا منازع، ثم تلته سلسلة من الابطال الساخرين بأفلامهم الناطقة – نورمان وزدم -  لويل وهاردي – وغيرهم، والملفت ان هؤلاء جميعاً كانوا بمواصفات جسدية لا تتلائم ابداً مع مواصفات الأبطال كما ترسخت في المخيال الشعبي والموروث التاريخي على حدّ سواء .

لكن البطولة الصورية، سرعان ما انتقمت لنفسها، فأعادت نمطية البطل هائل الجسم مفتول العضلات، فكانت سلسلة افلام ستيف ريفز وريك بارك وجوني ويسلموث، في هرقل وماشيستي وطرزان على التوالي، ثم افلام البطل بقامته الفارعه  ومسدسه سريع الطلقات، فظهر جون واين وكلينت إيستوود وإنتوني ستيفن وسواهم .

ثم دخلت بطولة الصورة طوراً آخر مع عصر التكنولوجيا المتطورة، فكان البطل الوسيم معشوق النساء في جيمس بوند، أوالبطل الثائرفي روبن هود، او الشرطي الصالح أو البرىء المطارد كما في رامبو ليسلفستر ستالون أو أفلام آرنولد شوارزينغر وهكذا .

في مقابل ذلك،تنافس أبطال الرياضة – وهم أبطال حقيقيون – مع نجوم السينما، وهم ممثلون حقيقيون  لبطولات وهمية، فتوزع اعجاب الناس على الإثنين معاً جالباً لهم الشهرة والمال والنفوذ.

هذان النوعان من البطولة – الرياضة والتمثيل - يتطلب مواهب خاصة وتدريب متواصل وشاق، لكي يصل ابطالهما الى درجة الإتقان، سواء في الإداء التمثيلي أو السبق الرياضي على حدّ سواء، ولما يكن ذلك متاحاً للجميع، فيما نيل البطولة مطمح الجميع، فقد ابتكرت الأمم طرقاً أخرى للبطولة، فكانت مباريات شرب البيرة وصنع النبيذ، كذلك أطول قبلة او أطول رقصة أو أطول ضحكة، وهكذا تبعثرت البطولة بمعناها التقليدي وفقدت هالتها المتوارثة بعد ان  أصبحت بالمتناول على هذه الشاكلة او تلك .

لكن ولما كانت أزمنة العرب قد تجمدت في أروقة التاريخ، فيما عجزالحاضر عن إنتاج أبطال بمستوى ما عرفه تاريخهم، ومع كثرة الفواصل والأحداث المريرة بهزائمها وانكساراتها وخيباتها المتوالية، إستنجدت الأمة بمخيالها لينتج ابطالاً في الصورة غير المجسدة واقعاً، حتى لو كانوا ابطالاً وهميين .

وكما يتفاعل مشاهدوا الأفلام مع ابطال الصورة رغم معرفتهم بزيف تلك المشاهد وفبركتها لمعنى البطولة، كذلك تفاعل العرب مع كل من أدى أو إفتعل مشهداً شّموا  فيه رائحة (بطولة) مزعومة .

وعلى ذلك علقوا كرامتهم وكبريائهم الجريح بشارب دكتاتور إسمه صدام حسين متوهمين فيه بطولة مفتقدة، ولما أزيح ذلك الوهم من دون مقاومة تليق بأنصاف الأبطال أو أرباعهم، إزدادت الكبرياء جرحاً والعقل افتعالاً، فكثر الزعيق ودبجت المقالات والمقولات التي تبني مزاعم وتطلق خيالات عن (بطولة) ذلك المهزوم شر هزيمة .

لكن الصورة احترقت، ولم يبق فيها مايغري بالمتابعة،لذا بحثت الأنظار عن شيء ما، يخرج من مصباح سحري ليعيد الإعتبار لكرامة الأمة  .

الحذاء في الموروث العربي صاحب إعتبار، فقد دخل في إطار القص الشعبي عن ابي القاسم الطنبوري الذي ماكان يشتهر ويخلد في ذاكرة الموروث،  لولا حذاءه الشهير، وقيل بأن البطولة لو صح اطلاقها في الجماد، لكان ذلك الحذاء المرقع، هو البطل وليس صاحبه،كذلك دخل الحذاء في شعر العرب فقيل (------ صرخ الحذاء بأي ذنب أضرب) .

كانت غيوم الحظ والفرصة المؤاتية  تتراكم بسرعة كبيرة، فقد اجتمع من أسقط شارب البطولة في الأمة (صدام حسين) مع مغتصب الحكم من أهله الشرعيين كما بنته فتاوى فقهاء الأمة (المالكي)، ولايهم حقيقة الملايين العراقية التي ذهبت للانتخاب للمرة الأولى من تاريخها، فالأمة  تعلقت بشارب (صدام) وارث تاريخها وحافظ أشلاء مجدها، فيما المالكي جاء من شعب كان دائما خارج تاريخ تلك الأمة، التي وجب عليها ان تدخل في ذلك التاريخ من يعمل وفق ما تصوره مخيلتها .

كانت الحسابات مذهلة في بساطتها، لحظة قدرية لن تتكرر، ستجسد مستغلها بطلاً أبدياً تنهال عليه الشهرة والمجد والمال، في مقابل تضحية تساوي صفراً، فهو قطعاً لن يُقتل او يعدم، فالزمن ليس زمن صدام حسين، اذاك سيفنى هو وكل من يمت اليه بصلة، ولا يمكن التفكير بعمل مثلها ولو كان الضيف شارون أو نتنياهو أو حتى أبو جهل أو الشمر بن ذي الجوشن أو عبد الرحمن إبن ملجم، عندها كان منتظر سيكتفي بالنظر والتحسر وهو يهتف بحياة القائد وضيفه .

لكنه اليوم و بقذفة واحدة لن  تستغرق سوى لحظة واحدة، سينتقل بعدها من مراسل مغمورفي فضائية تجهد للحاق بركب الإعلام وتلهث وراء المشاهد، الى بطل صورة تتناقل اسمه وصورته واسم فضائيته وسائل الاعلام في مشارق الدنيا ومغاربها، لا من اجل الحذاء وقاذفه، ولا من اجل العراق ورئيس وزرائه، بل من اجل رئيس امريكي موشك على الذهاب الى سطور التاريخ، اذاً فليرافقه منتظرولو على متن حذاء  .

وهكذا انتقل كبرياء الأمة، من شارب صدام الى حذاء منتظر، فتساوى المعنيان في مشهد بالغ السخرية .

لكن ذلك لم يكن كافياً، فقد انطلقت الأصوات وانبحتّ الاقلام وهي تمجد ذلك الفعل الخارق، في وقت كانت بطولات حقيقية تحدث على بعد مسافة قليلة، فقد قام جندي عراقي بمأثرة بطولية في الموصل، قتل خلالها أربعة جنود أمريكيين وجرح ثلاثة آخرين قبل ان يسقط شهيداً، وقبلها قام شابان من أهالي العمارة بخوض معركة حاسمة مع دورية بريطانية  قتل فيها ثمانية جنود بريطانيين، لأن احدهم تحرش بفتاة عراقية .

لم يشر احد الى تلك المآثر، ولم تجرد الأقلام للكتابة عنها، لكن كاتباً ما في موقع الكتروني، اشاد (ببطولة) المحطة الفضائية إياها، لأنها لم تتخلى عن البطل الحذائي، بل وقفت الى جانبه ومنحته منزلاً بطابقين .

لابد ان ذلك (الكاتوب) أراد ان يعمق في السخرية، فكيف يمكن توقع أن تقوم فضائية بالتخلي عن (ديك) يبيض ذهباً؟ وهي التي انتظرت تلك اللحظات بفارغ الصبر وقد شحنتها باقصى مايمكنها من الدعاية  صوتاً وسماعاً وصورة وكتابة ؟

اذاً هي صورة اخرى للبطولات المتوهمة مادامت الضوابط قد أفلتت من عقالها، لمً لا مادمنا أمة (ضحكت من جهلها الأمم) .

في فيلم لعادل امام، يذهب (البطل) لجلب المال المصروف لرواتب الموظفين، فيخفيه، ويأتي لتسليم نفسه الى الشرطة قائلا : انا أخذت المبلغ، والمادة كذا من قانون العقوبات تقول: يسجن لمدة كذا كل من قام بكذا، وانا قمت بكذا، فاسجنوني وخلصوني، ثم يقول لخطيبته وهو خلف القضبان: يامجنونة، كلها كام سنة وأخرج من السجن واناغني أوي، حيجرا  ايه يعني؟

ويبدو ان الزيدي قد حسبها كما فعل عادل امام  تماماً، فهو ضامن للسلامة الشخصية مع سجن لايتجاوز بضعة اشهر، مرفوقة بكل تلك الشهرة والثروة والجاه، ومضافاً اليها لقب متمنى بط )، و ماكان ليحصل على كل ذلك ولو عاش سبعة أعمار أخرى .

أليس كذلك ؟

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1169 الثلاثاء 15/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم