صحيفة المثقف

الأمازيغية: ثقافة منسية أم ثقافة مضطهدة؟

 لا تزال ناقصة وضعيفة جدا وليست بعد في المستوى العلمي الذي يؤهلها إلى مستوى فكر أمازيغي مواكب للتطور الحضاري الذي بلغته الإنسانية اليوم. حيث ظلت أغلب الدراسات نابعة وفقط من الحاجة إلى تبرير شرعية وعدالة القضية. وهو الموقف الذي بلغ ذروته في التطرف الشوفيني والدوغمائي الذي يقابل الحضارة الأمازيغية بالحضارات الأخرى وعلى الأخص بالحضارة العربية - الإسلامية، حيث يرسم خططه وبرامج عمله بناء على خطط وبرامج هذه الحضارة، مما يعني أنه يأخذها كنموذج أساسي لحضارته.

إن الموقف اليوم من المسألة الأمازيغية متجاوز، فبعد ثلاثة عقود من الصراع مع دعاة القومية العربية ومع السلطات الرجعية بشمال إفريقيا، بات من المؤكد اليوم أن الأمازيغية ليست بحاجة إلى إعادة التأسيس لخطاب الشرعية التاريخية وعدالتها، بقدر ما هي بحاجة إلى جهد علمي يؤهلها للرقي إلى مستوى حضارة لها مقومات الحضارات الأخرى. وإذا كان المدخل يتم تصوره من خلال اللغة والمؤسسات الاجتماعية فإن لا أحد ينكر ذلك، لكن اختزال القضية بأكملها في اللغة لهو إقبار للنقاش وحصر له في الحدود الأكثر ضيقا، فالقضية الأمازيغية لا تختزل في اللغة وإن كانت هذه الأخيرة أساس الحضارة والثقافة، بقدر ما تختزل في كل مكونات الثقافة التي تعتبر اللغة جزء منها، وفي جل عناصر الحضارة.

إن الورش الحقيقي للأمازيغية اليوم ينتمي إلى دائرة البحث الانثروبولوجي والسوسيولوجي، أي إلى دائرة اللامفكر فيه، والذي يمكن التفكير فيه إذا ما كان هناك وعي "علمي" وليس "اثني - عرقي"، بهكذا ضرورة ما بعدها ضرورة.

وهكذا فالتراث الأمازيغي هو تراث متعدد ومتنوع يحتاج إلى تقصي دقيق وإلى فحص لكل مكوناته التعبيرية، وهو ما ليس ممكنا إلا بتوفر العدة المنهجية، أي إذا كانت هناك خطوط نظرية قادرة على استجلاء الحقائق وراء ركام هائل من الثقافة الشفاهية الموزعة على طول خريطة الشمال والساحل الإفريقي.

لذا أمكننا تقسيم الفروع الكبرى لهذا التراث إلى:

التراث الثقافي: ويختزن عشرات بل مئات المجالات الأخرى تخترق الميادين التالية: اللغة، التدين (كي لا نقول الدين، لأن التدين أعمق حيث الإيمان بوجود معتقدات متعددة وغير موحدة)، الفن، الشعر، الأهازيج والفلكلور، المعمار، ومختلف أشكال التعبيرات الأخرى: المسرح، الخزف، الحياكة...

التراث السياسي: ويتعلق الأمر بأشكال المماليك، والتنظيمات السياسية الموازية لها من دول وحكومات وطرق التسيير والتنظيم الاجتماعي لكل العلاقات الاجتماعية: البنيات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية الموازية...

التراث المعرفي: ذلك أن الثقافة الأمازيغية لم تترك لنا إلا القليل من الإرث الثقافي المكتوب، مما يضع موضع سؤال الحديث عن معرفة أمازيغية. إلا أن المعرفة هنا ليست طبعا معرفة تأملية مصاغة سلفا، بل يتعلق الأمر بما يمكن استخراجه من الموروث الثقافي المتراكم والذي في مكنة الباحثين اليوم. فالتراث الأمازيغي بحاجة إلى استقصاء، بحاجة إلى قراءة وإعادة القراءة لبناء معرفة حقيقية كامنة فيه، ففي الشعر كما في الغناء والفن والحكايات الشعبية الأمازيغية، ما يشكل أساس تصور الأمازيغ للعالم، وصراعهم مع الطبيعة، فالحكاية وإن كانت تتعلق بالماضي في أغلب الحالات إلا أنها تحمل تمثلات وتصورات عن الأحداث والوقائع وتتضمن مواقف لا يستهان بها. لذلك ففي اعتقادنا أن هذا التراث بحاجة إلى الكشف عن خباياه ومخزونه المعرفي المسكوت عنه.

إن النبش في التراث ليس بالأمر السهل، فلا يمكن للفرد الواحد كيفما كانت نواياه ولا قدراته ولا تكوينه العلمي والمعرفي أن يقرأه وأن يكشف عن خباياه، بل إنه بحاجة إلى تراكم الجهود والتجربة التاريخية في مجال التأريخ والنبش في الذاكرة، لذا يحتاج الأمر استقصاء علمي دقيق لأعقد مجالات المعرفة: مجال الثقافة الشفوية.

الثقافة الشفوية:

شكل ظهور علم التاريخ في القرن التاسع عشر ركيزة لتطور العلوم الإنسانية في الغرب (أوروبا تحديدا وأمريكا)، ولعل نمو الأبحاث الثقافية والأنثروبولوجية والتاريخية والسوسيولوجية ترافق مع اكتشاف هام في تاريخ الإنسانية، وهو اكتشاف لا يتعلق هذه المرة بقارة مجهولة كما هو الأمر في عهد كريستوف كولومبوس، وإنما يتعلق باكتشاف "البشر الآخر"، و"الثقافة الأخرى"، و"العادات والتقاليد المجهولة"، أي اكتشاف مجتمعات بأكملها ظلت مجهولة ومنسية في التاريخ الرسمي والمدون، وهي مجتمعات فضل البعض تسميتها ب"البدائية" أو "البربرية"، أو "المتوحشة"، وهي تسميات تحمل في طياتها فهما إيديولوجيا وحكما تنفح منه رائحة التعصب العرقي والإثني والتشدد الثقافي والانتصار لنمط من التفكير لا يمل من رفض "الآخر".

لقد بدأت الدراسات الانثروبولوجية الثقافية مزدهرة في أمريكا أساسا نظرا لوجود مجتمعات مجهولة كليا، فأبحاث كلود ليفي ستروس و مارسيل موس وفريزر و دوركهايم ورالف لنتون... وفرت قاعدة معطيات علمية ومناهج أساسية للكشف عن هذه "القارات المعرفية" المهمشة، وتركت لنا عدة مفاهيمية ومنهاجية كفيلة بالنبش في تراثنا الأمازيغي.

قبل هذا النمو الملحوظ للعلوم الإنسانية التي ازدهرت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين لم يكن من الممكن الحديث بتاتا عن الثقافة الشفاهية أو الثقافة غير المكتوبة، اعتقادا أن كل ما ينتمي إلى هذا المجال، هو "لا مفكر فيه" ولا يمكن التفكير فيه، لأنه لا يمثل الإبداع، فالإبداع مرتبط بالكتابة وبالمكتوب، لأن الكلام المنطوق والملفوظ، هو كلام متلاشي، كلام لا يعتد به في التأريخ.

إن الثقافة الشفاهية هي ثقافة غير مكتوبة، ولكنها موجودة، ولم تتح لها الإمكانية لتكتب أو على الأقل لم يفضي تطورها التاريخي إلى أن تحتل مكانتها أمام الثقافات المكتوبة، وانعدام الكتابة في المجتمعات التي تحفل بالثقافة الشفاهية لا يعني أنها غير موجودة، أو أنه يمكن إقصاءها من تاريخ البشرية، بل إن تشبث الأقوام بثقافتهم عزز الحضور القوي لهذه الثقافات، ولم يكن من الممكن الحفاظ عليها لولا إيمانهم المطلق بها. فالثقافة تفقد وجودها، بفقدانها التداول، وتفقد التداول بفقدانها لأناس يؤمنون بها.

والثقافة الشفاهية هي ثقافة متعددة ومتنوعة تتلون بأنماط عدة من أشكال التعبير تحتاج إلى جهد لا نظير له للكشف عنها ولفك طلاسمها، و هي بحاجة أيضا إلى أن تنصف، وإنصافها غير ممكن دون الاقتناع بمكانتها ودورها في المتخيل الشعبي الحامل لها. هذا هو حال الأمازيغية كما هو حال مئات بل آلاف الثقافات المضطهدة والمنسية على طول خريطة العالم.

إن إستراتيجية الامبريالية العالمية اليوم  تتجه صوب محو ما يمكن محوه من الثقافات الهامشية، والتي لا تفيد الرأسمال في شيء يذكر، وذلك لصالح ثقافات تخدم السوق وتشجع الاستهلاك، هكذا أصبحت اللغة في نظر منظري البورجوازية العالمية رهينة نظام السوق، و مفهوم "الاقتصاد اللغوي" أصبح متداولا في الإعلام والدراسات والبحوث والمدارس وحتى منابر الأحزاب المعادية للرأسمالية، دون فحص دقيق لمعناه ولخلفياته، فاللغة وفق هذا المنظور تتحكم في السوق، والاستهلاك، لذا ينبغي تشجيع لغة على لغات أخرى وتمرير ثقافات على أخرى لخدمة مصالح السوق، لذا أصبحنا أمام منافسة شرسة لجعل لغة معينة تسود وتكتسح العالم على حساب لغات أخرى، وتعزز اتجاه البحث عن وسائل لتسييد  ثقافة الاستهلاك والربح والخسارة محل الثقافات النابعة من عمق التعبير الشعبي. إن مسلسل العولمة الجاري اليوم ليس بقدر كما أن سلطته بقدر ما تبدو محكمة فهي هشة، ونقطة ضعفه تكمن في كونه يعتقد أنه النظام الأقوى والأشد والقادر على الصمود كأنموذج صالح لكل زمان ومكان. في حين أنه ليس كما يعتقد، فإرادة الشعوب لا تقهر، ونمط التراكمي التاريخي والتطور الحضاري لا يضعه الرأسماليون في الحسبان.

ثقافة منسية، أم ثقافة مضطهدة؟

كلا التعبيرين يفيان بالغرض: فجعل ثقافة معينة ثقافة منسية لا يعني غير وجه من أوجه اضطهادها. ولا يمكن أن ينسى الشعب ثقافته إلا باضطهاده سياسيا كما ثقافيا، مما يعني أن جعل الثقافة منسية بحاجة إلى وجود ثقافة مهيمنة تستحوذ على المتخيل الشعبي عبر إقرارها ثقافة رسمية وجعلها هي السائدة، وهو ما ليس ممكنا أيضا إلا بتبرير الفروق الممكنة بين هذين النمطين من الثقافات.

هكذا كان حال الثقافة الأمازيغية التي همشت طوال قرون، فجعلها ثقافة هامشية ومنسية يفترض وجود ثقافة جديدة هي التي حملها العرب خلال فتوحاتهم، وبفضل الصراع السياسي الذي امتد قرون استطاعت الثقافة العربية أن تهيمن، فهي لا تشبه بحال الأمازيغية، إنها متفوقة من حيث كونها مكتوبة، وصاحبة حضارة مجيدة، وحاملة لدين توحيدي.

صحيح أن تسييد الثقافة العربية لم يكن من قبيل الصدفة، وإنما ترافق مع الاستيلاء على الحكم، وتعزز بمصالح حاشية السلطة. إلا أن ما يستعصى على الفهم هو بقاء الأمازيغية ثقافة حية في وجدان الشعب المغربي، فطوال قرون من تعاقب الحضارات على المغرب استطاعت الأمازيغية الحفاظ على ذاتها. والأمازيغية اليوم بحاجة إلى قفزة علمية وهو ما ليس ممكنا إلا بتعزيز البحث العلمي واستعارة المناهج العلمية والنظريات التي ستفيد في إعادة تملك الأمازيغ لتراثهم ولثقافتهم الأصيلة. فالعربية لم تكن يوما في الوضع الذي هي عليه إبان النهضة العربية الأولى، وإنما تم خلق أوضاع وشروط تلك النهضة، فالنهضة بحاجة إلى ثورة على كافة المستويات، أي إلى خلق لتلك الشروط، ومن يعتقد أن عدوه سينصفه فهو واهم.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1176 الثلاثاء 22/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم