صحيفة المثقف

قساوسة المالكي

 والشتائم والتخرصات التي قيلت ضد حكومة المالكي، فسوف يجد أنها الحكومة الأكثرتناولاً في التاريخ على هذا الصعيد، إذ لم تسبقها مجازر هتلروموسوليني، ولا أفعال ستالين، ولا مذابح بول بوت،بل ولا حتى الحكومات الصهيونية المتعاقبة، ولا كل مجازر الطغاة عبر التاريخ من طاغية سراكوزا مروراً بهولاكو وتيمور لنك وآتيلاً وصولاً حتى صدام حسين ونظامه عبر كل مامر به العرب في تاريخهم وماشهدوه من مجازر توجها السلاطين في سلخ جلود الأحياء وفقأ عيون المفكرين وقطع أيدي الفلاسفة المتصوفة .

المالكي هومن ورث كل القبح في كل مامرعلينا وما قرأناه أو عرفناه، وبالتالي، فسوريا والسعودية وكل الجوقات اليعربية بما فيها الإمارة الكويتية المتنمرة،، تقابلها ايران وافغانستان وتركيا، كلها معذورة بالعذر الشرعي اذا أرسلت جموع الإرهابيين كي تملأ دجلة والفرات بالدم بدل الماء، حتى يتخلص العراق من كل هذه الشرور التي يخلقها المالكي، ليعود العراق من ثم بلد الرفاه والسعادة، فيمد أذرعه لإحتضان الجيران وتقبيل لحى هؤلاء الكتاب والإعلاميين (المناضلين) الذين ساهموا بما كتبوه وقالوه، في إسقاط العراق وحكومته التي تحاول بناء ديمقراطية وطنية وسط صحارى الذئاب، والجديرذكره، ان كل هذا الهجوم، لايستهدف المالكي بشخصه، فلو كان هناك شخص آخر مكانه، لما اختلف الأمر، اذ ان المستهدف هو قيام العراق بنظام مختلف عما هو قائم في سلسة الانظمة القائمة، وعليه فلو أفرزت صناديق الاقتراع في الانتخابات القادمة، شخصية أخرى عدا المالكي، فسوف تجد الأقلام والاصوات ذاتها، مبررات مكررة أو معادة، لمواصلة عملها، ذلك لأنها تشبه راهب الحكاية، الذي حرص ان لايموت الشيطان كي يستمر الراهب في عمله بمكافحة الشيطان، تصوروا كم صحيفة ستغلق أبوابها، وكم موقع الكتروني سيهجرغير مأسوف عليه، وكم فضائية ستدور خاوية تستجدي مشاهدين، لو لم تكن التجربة العراقية تستجلب كل هذا الكم من الحاقدين أو الناقمين أو المتذمرين أو المخدوعين .

لابد سيقول أحدهم: لو لم تكن تجربة العراق خاطئة أو آثمة أو مجرمة، لما جلبت كل هذه السلاسل من العداوات .

طبعاً من يقول ذلك، سيكون واحداً من إثنين، اما جاهل أو مغرض، وليس من صعوبة في إزالة الجهل : هل كان محمد (ص) على خطأ حينما عادته قريش في بدء الرسالة وعملت على قتله كي لايهدد مصالحها بما جاءت به رسالته السماوية؟

وقبله ألم يصلب السيد المسيح للسبب ذاته؟

وكم من شعوب وامم غزتها جحافل الغزاة؟ لا لشيء الا لكي يحافظ الغزاة على مصالحهم أو يتوسعوا ويزادوا نفوذا على حساب الأمم المغزوة .

 ما يتعرض له العراق اليوم، لايقل خطورة واذى عن الغزو الأمريكي الذي بدأ بالانحسار عن واقع العراق، فيما الغزو الارهابي – قتلاُ وإعلاماُ – سيستمر زمناً آخر حتى ينهض العراق من كبواته، عندها سيخفت الارهاب القاتل وينهزم، أما الإرهاب الاعلامي، فسيستمر امداً طويلاً الى ان يتآكل .

هذا لايعني بالمطلق، ان كل من انتقد الحكومة وكشف عيوبها، يحسب تلقائيا على هذه الجوقات، فالحقيقة ان العيوب تكاد تغطي اجزاء كبيرة وواضحة من جسد الحكومة، وبالتالي فمن واجب الكتاب والمفكرين والباحثين والصحفيين على مختلف مشاربهم واتجاهاتهم، المساهمة في كشف العيوب وتقديم الحلول والمقترحات وملء الفراغات في الفكر السياسي العراقي،، فذلك من واجبهم الذي ينبغي عليهم القيام به، لكن هذا النوع من الكتاب، نستطيع معرفته بسهولة من خلال طريقة التناول ودقة الاسلوب وعمق التحليل وسلاسة العبارة وموضوعية الطرح والإبتعاد من ثم عن الإسفاف والشتائم واللغة السوقية والعبارة الركيكة، التي هي من ديدن الجوقات التي تناصب العراق العداء .  

 

لنقرأ أولاً ماذا يحدث .

كان أحد السياسيين البريطانيين، قد إبتكر وسيلة إعلامية يهاجم فيها نفسه من اجل لفت الإنتباه اليه، فصار يكتب بأسماء مستعارة متعددة، مقالات نارية تهاجم شخصة وتنتقده بشده، مما جعل الناخبين يتعاطفون معه لكثرة الهجوم عليه.

في ثمانيات القرن الماضي، وبعد خروج المقاومة الفلسطينة من بيروت، أنصب غضب النظام السوري على المرحوم ياسر عرفات الذي طرد من دمشق بواسطة ضابط برتبة عقيد، زيادة في الإهانة للرجل الذي لم تحترم شيبته وقضيته، أكثر من عام كامل، شن الإعلام السوري ومن يقف معه يومها، حملة شعواء على ياسر عرفات، وكانت الجملة الثابتة في أي خطاب أو مقال يثلب عرفات، تبدأ او تختم أو تتضمن مقولة (المؤامرة العرفاتية)، وقد ظن النظام السوري يومها أنه جعل من عرفات الشخص المنبوذ داخل سوريا وخارجها، لكن الطامة الكبرى حينما تحدى عرفات السلطات السورية ان تعمد بشكل ما الى إستفتاء الشعب السوري لترى نتيجة حملتها .

يومها وصلت الى حافظ الأسد ومن مصادر موثوقة عربية واجنبية وسورية، إن الحملة قادت الى عكس المطلوب، اذ ارتفعت شعبية عرفات بشكل كبير حتى بين السوريين، وأصبحت مفردة (مؤامرة عرفاتية) موضوعاً للنكتة والتندر .

مثال آخر حول ما فعلته قناة الجزيرة عام 2005، حين هاجم أحد ضيوفها المرجع السيستاني بحجة دعمه للإنتخابت، وكانت تلك الفضائية تعتقد ان ذلك الهجوم سينال من الرجل ومن شرعية الانتخابات وبالتالي تزيد من احجام الناخبين عن التصويت، لكن النتيجة كانت معكوسة، اذ ذهب الذين كانوا مترددين قبلها، وهم أكثر تصميماً على الإقتراع .

ليس الدهاء السياسي نافعاً في كل حال، بل غالباً ماكان وضوح الهدف وبساطة الخطاب وصلابة الموقف، هي الأسلحة الفعالة للفوز، ذلك يسمى في عالم الأدب (السهل الممتنع) وفي عالم السياسة يسمى (الشفافية) .

لاشيء في المالكي يميزه عن غيره، سوى انه وجد نفسه في موقع السلطة الأولى في بلد قيل عنه مرة (من يحكم العراق، بإمكانه ان يحكم العالم) ليس لعظمة العراق كما قد يوحي القول، بل لصعوبة تشكله الإجتماعي وكثرة أعدائه وصعوبة جغرافيته واستثنائية تاريخه .

هناك بلدان أصغر حجماً وأقل أهمية وإستثنائية جيو/سياسية، وهي لم تتحول بالكامل وتقطع مع تاريخها كما يحدث في العراق، لكنها تعيش إرهاصات أكثر مما يشهده العراق، وهي مرشحة للمزيد.

ان أية نظرة موضوعية للأمور ستجد أن كل مايحدث، يقع في حكم المتوقع، وبالتالي فليس مستغرباً أن يواجه أي شخص يحاول ان يطرح (عراقية العراق) حزمة من المشاكل الهائلة .

أذكر اني كتبت بداية عام 2006 مقالة بعنوان (الوطنية العراقية ومسلكية الحصار) نشرتها في جريدة الحياة اللندنية، تناولت فيها ضرورة تبلور الهوية العراقية بعيداً عن الشعارت القديمة، حيث اصبح ذلك يرتقي الى مستوى الضرورة للحفاظ على العراق كياناً وشعباً، يومها شنت الصحف القومجية هجوماً شرساً علّيّ شخصياً وبالإسم، شارك فيه أعضاء معروفون فيما يسمى (الجبهة القومية) في سوريا، فإذا كان مجرد مقال صحفي أثار كل تلك الردود لأنه طالب بعراقية العراق، فكيف بمشروع سياسي مكتمل المعالم أو يحاول أن يكون كذلك؟

لم يحظ العراق بكل تاريخه الحديث، بفرصة أن يبلور هويته الوطنية سوى مرة واحدة كانت أيام عبد الكريم قاسم، ويومها تكالبت كل القوى القومجية للنيل من الرجل كي لايكرس نهجاً عراقياً صافياً .

واليوم تتسع قائمة الأعداء لإتساع ما يمثله العراق من (أخطار) أولها نشر فايروس الديمقراطية وتبدل جذري في طبيعة المنظومة العربية الراكدة التي هزها بعنف التغيير العراقي، ومع كثرة وسائل النشر وتعدد مصادرها وانفتاح سيل المعلومات أمامها، كان من الطبيعي أن تكثر الألسن ويزداد الصراخ هستيريا .

الغريب ماكتبه أحدهم بأن مستشاراً للمالكي ارسل الى صاحب موقع الكتروني أتخذ من محاربة الحكومة نهجاً ثابتاً، يرجوه فيه إنصاف المالكي بإعتباره أفضل السيئين .

لاشك ان مطالبة كهذه تمثل قمة الغباء والسذاجة، فكيف يطلب من صاحب بضاعة رائجة لأسباب باتت معروفة، ان يكف عن بيع بضاعته ؟

أنه كمن يطالب السوريين بالكف عن دعم الإرهاب في العراق من دون أن يقبضوا الثمن أو يدفوه، او كمن يطالب بعض الفضائيات التي اقيمت اصلاً لمحاربة التجربة العراقية، أن تكف عن ذلك ؟ وكأنه يطالبها بالإنتحار أو إغلاق أبوابها لإنتهاء مهمتها .

قمة السذاجة ان يلجأ مستشاروا المالكي للإنهماك في الرد أو الدخول في الكمائن التي اعدتها تلك الجوقات الإعلامية ومن يؤيدها أو يباركها، فمن شأن ذلك ان يقوي من تلك الأصوات ويمنحها أهمية تفوق أهميتها الفعلية، فهذا الإعلام ساذج بدوره، وهو يعمل على الطريقة القديمة التي مفادها – إكذب ثم إكذب حتى يصدقك الاخرون – كما نادى (غوبلز) .

الكذب الإعلامي الآن، قد يقوي الخصم أكثر مما يضعفه، حتى لو اجتذب ذلك الكذاب الكثير ممن يعتبرون كذبه نوعاً من الترفيه، كما كان يفعل الرئيس الامريكي السابق بوش، حينما كان يترك الاجتماع للتفرج على مايقوله سعيد الصحاف وزير الإعلام في عهد صدام، ليس لأهمية مايقوله، بل من باب تغيير الأجواء وإدخال نوع من الطرافة على كآبة المشهد، ولا نذكر ان الاعلام الامريكي أو أي من موظفي البنتاغون او البيت الابيض حينها، صرف وقتاً للرد على مايورده الصحاف.

ثبات المالكي على مواقفه التي تتخلص ببساطة، في – وحدة العراق أرضاً وشعباً - دولة قوية تستطيع الحفاظ على تلك الوحدة - الكف عن التدخل في شؤونه كي تبنى دولة تستطيع القيام بهذه المهمة – تلك معادلة لا تنفصل معطياتها، وهذا يعني ان هناك الكثير من المصالح المحلية والاقليمية والدولية ستتعرض للمخاطر، لذا من الطبيعي ان يستنفر المتضررون كل قواهم من اجل العرقلة بل والإسقاط، وليس أسهل من تناول ماهو في المتناول .

لم يقل أحد أن العراق يخلو من الفاسدين والمرتشين – وزراء ونواباً وكبار موظفين وسياسيين – كذلك كثرة المرتبطين بأجندات خارجية لأن هناك اموالاً تصرف عليهم بغير حساب، وظروف كهذه تشكل بيئة مؤبوة لإستنبات كل هذه الموبقات التي تمتص جسد العراق بحكومته وادارته ومؤسساته وشعبه، وهي جزء من معسكرات الإعداء التي ينبغي محاربتها – حتى لو كانوا في جسد الدولة وبين ظهرانيها - .

نهاية الجزء الأول ويليه الجزء الثاني بعنوان (رهانات المالكي الأربع)

وفيه نستكمل ما بدأناه

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1181 الاحد 27/09/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم