صحيفة المثقف

ذكريات من بيت الصحافة .. طريق الشهرة وباشوات الكتابة

فربما قادتني خطى الحروف الى وضع مشابه، ليس الى سيبيريا وسجونها القيصرية كما حدث لعبقري الرواية الروسي، بل الى (سجون) الكتابة وشجونها وما أكثرها، خاصة اذا حفرت عميقاً في خزين الوجدان الذي إمتلأ الى حافته كما إمتلأت ذاكرة السندباد، لكن السندباد كان سعيد الحظ، فقد واجه رخاً واحداً استطاع التملص من مخالبه، وحمل شيطاناً واحداً أمسك بخناقه، لكنه وجد طريقة لتحرير نفسه، فكيف سنجد طريق الهرب من شيطان الذاكرة وهي تتجسد واقعاً كل لحظة؟ .

" يا الهي، أين الجمال في هذه الحيزبون " قالها أحد أساتذة السوربون وهي يحدق النظر في الموناليزا " ثم أردف: لو التقيت إمرأة مثلها في الشارع، لما التفّت اليها، لكن مادام الجميع يقولون انها تحفة، فلابد انها كذلك" .

الموناليزا تحفة الأزمنة وعبقرية الفن – هكذا توصف دائما- رسمها "دافنشي" الذي اكتسب شهرته من أعمال ومخترعات مبهرة وقتها، ولما كانت الموناليزا هي صورة لزوجة احد النبلاء أصحاب النفوذ الذي رتع دافتشي في خيراتهم لست سنوات، ولما كان "العظّامة" كثر في كل زمن ومكان، فقد سجلوا إعجابهم بعمل عبقري،ثم أصبح ماقالوه مقياساً للذوق لم يستطع أحد قطع شباكه بإعتباره تابو مقدس لايجوز المساس به .

في زمن لاحق،إستضاف حفيد الخديوي ووريث الباشوات "أحمد باشا شوقي " عدد من الشعراء العرب، فأكلوا وشربوا هنيئاً مريئاً ووزعت لهم الجوائز كما فعل بعدها صدام حسين في " هدايا القائد "، فكان ان منحوشوقي لقب " أمير الشعراء " في تقليد اريد له ان يكون سنوياً يتم فيه تبادل اللقب، لكن ذلك لم يحدث ولم يجتمع الشعراء بعدها لينتخبوا غير شوقي، فبقي اللقب ملتصقاً به موحياً بأنه كان " اشعر الشعراء " رغم انه لم يكن كذلك فعلاً حسب الكثير من النقاد .

يومها تأوه الصافي النجفي بعد ان رأى قصر الباشا شوقي وجيوش الخدم والحشم وهي ترفل بالثياب المقصبة، وقال قولته الشهيرة :" ولو نلتُ بما قد نال شوقي ---- لسال الشعر من تحتي وفوقي ".

في بيروت، كان طريق الشهرة شديد الوضوح وكلمة السر معروفة : إكتب بما يشيد بصدام و(المقاومة) ويهاجم امريكا والحكومة العراقية العملية، عندها ستفتح لك أبواب الصحف والفضائيات على مصراعيها، وتستدعيك المنتديات والجمعيات فتصبح نجماً، وليس مهماً عندها،جودة ما تكتب ولا أهمية ما تقول، إذ يكفي ان تردد كما ردد قاريء المجالس في الحكاية الشعبية العراقية "----- يا ما تفهمون الجواب – فاطمة تسلم عليكم - كيلو إذره بسطعش – الله اكبر يا سما"، يومها نصحني الكثير من الاصدقاء اللبنانيين أن اسلك مثل غيري، فالسباحة مع التيار سهلة ومضمونة الوصول، اما السباحة عكس التيار فصعبة ومنهكة .

 كنت انشرأعمالي في جريدة (السفير اللبنانية)، ومرّة جاء في صدر صفحتها الأولى، العنوان التالي: (عملية نوعية للمقاومة في قلب بغداد) وفي العدد نفسه مقال لصاحب (السفير) الاستاذ طلال سلمان، هاجم فيه الحكومة العراقية بعنف لأنها فرضت حالة الطواريء – كانت يومها حكومة علاوي – وبعنوان مثير (علاوي وعمامة الحجاج) تنبأ فيه الاستاذ سلمان بأن (المقاومة) ستنتصر، والحكومة العراقية أضعف من ان تتصدى لها .

(العملية النوعية) في قلب بغداد التي أبرزتها السفيربمانشيت عريض، كانت إطلاق النار من قبل مجموعة من الإرهابيين في سيارة مسرعة، على مسطر للعمال في ساحة الطيران فقتل اربعة منهم وجرح آخرون، أما الحكومة العراقية المؤقتة، فقد اعلنت حالة الطواريء بعد قيام الإرهابيون بخطف وقتل عدد كبير من المّارة في شارع حيفا .

بعدها جلست مع الاستاذ طلال سلمان مطولاً، ورجوته ان يقترب من حقيقة مايحدث في العراق، ليس إنصافاً للعراق ولا لدماء ضحاياه، بل احتراماً لقلمه ومصداق صحيفته، وقد نشر ردي على مقالته،ثم مقالتين آخريين – تغرد خارج السرب كالعادة – بعدها طلقت السفير وطلقتني وافترقنا على غير وفاق .

قبلها بأشهر، كنت قد غادرت إحدى الفصائل الفلسطينية التي إعتبرت من كوادرها، بعد ان طلبوا مني تغيير نوع كتاباتي أو الامتناع عن الكتابة أصلاً، لأنها تشكل لهم إحراجاً سياسياً كما قالوا، فلم امتنع ولم أغّير، ليس لأني بطل ولا فارس ميدان، بل لأن نفسي لم تستسغ ذلك ولا عقلي ارتضاه، فماذا تراني أقول عن صدام ياترى ؟ (بطل لم تظفر الحرب به – في الهوى تحت لواء الحب مات) ؟ كما جاء في مسرحية كليوباترا ؟ لاشك اني سأضرب نفسي (مئة قندرة) لوفعلتها، ولن انتظر واحداً مثل منتظر، لذا غادرت غير مأسوف عليّ، كيف لا أكون مع القائد صدام وأنا العراقي ؟ عجيب؟ هكذا كان منطقهم .

قبل وبعد اجراء انتخابات عام 2005، شنت معظم الصحافة العربية هجوماً هستيرياً على تلك الانتخابات جاء في بعض عناوينها " العراقيون يخذلون امتهم – يا عيب الشوم - المنتصر في هذه الانتخابات هما الجهادي والامريكان – انتخابات تحت حراب الاحتلال – المقاومة العراقية ستسقط انتخاباتهم المزيفة " وهكذا توالى العزف كانما يقوده المايستروذاته، في الوقت عينه، أشادت الصحف ذاتها والكتاب ذاتهم، بالانتخابات الفلسطينية وديمقراطيتها وعظمة ما حققه الفسطينيون في تلك الانتخابات – رغم انها ايضا جرت تحت حراب الاحتلال الإسرائيلي - وهو احتلال استيطاني اشد خطراً- وبمساعدة ودعم مالي أمريكي مباشرطلبته القيادة الفلسطينية علناً.

كانت المؤتمرات تعقد والندوات تقام، وكلها تشيد بذلك النوع من الإعلام الذي عليه ان يركز على " من هم معنا " كما جاء في مقولة احد الخبراء الاعلاميين كما جاء في تعريفه.

وفي احدى الفضائيات، استجلبوا عشرة (مفكرين) وكتاباً ومحللين سياسيين، ليتحدثوا عن العراق، والغريب في الأمر ان ليس بينهم عراقياً واحداً، ولا من يتبنى وجهة النظر العراقية، كانت الأسئلة واحدة والاجوبة على نسق مرسوم سلفاً فحواها وخلاصتها: الموت للعراقيين خونة الحسين .

لم يتغير شيء منذ الحين، ولم يستجد سوى إنضمام فضائيات وصحف وكواتيب عراقيين الى جوقات العازفين السابقين والجدد، ومع التخمة المالية والصرف بغير حساب، تحول كل شيء في العراق الى عكسه، فاصبح العراقيون ليسوا (خونة) وموالين للامريكان وحسب، بل

(كاذبين ومخادعين وكسالى ومتخاذلين ومرتشين ) وغيرها من النعوت التي تخرج فيها بنتيجة مفادها : انهم مخلوقات لاتستحق الحياة، جاء ذلك على لسان كاتوب عراقي اطلق على تلك الروائح تسمية (بحث اجتماعي)، كذلك ضّمن أحدهم مقالته بما جاء في مظاهرة لمجموعة من الارهابيين رددوا فيها " أحلف بالله والنبي، الجعفري مو عربي)، تصوروا ان ذابحي طفل في عمر الشهرالواحد – قطعت جمجمته من الجبين بسيف حاد في محافظة ديالى - يعرفون الله والنبي ويقسمون به، فيستشهد بأقوالهم كاتوب من طراز خاص، مشككاً بعروبة رجل يمتد وجود عائلته المؤكد في العراق الى أكثر من خمسة قرون.

يتبع --

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1183 الثلاثاء 29/09/2009)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم