صحيفة المثقف

ذكريات من بيت الصحافة (2) قنبلة العرب النووية

بيروت عاصمة (السموم) الإعلامية التي ترسل نحو العراق، وقد أوشك مدين الموسوي سابقاً،وجابر الجابري وكيل أقدم وزارة الثقافة العراقية حالياً، أن يأكل (بسطة) مضبوطة بالمعنى العراقي، من قبل فلسطينيين مهووسين بحب صدام، لأن الجابري وصف (قائد الأمة) بالجزار .

أما معن بشور (صديقي كما يقول): فقد رفض أن أجري معه لقاءاً تلفزيونياً اذا كان يبث على الهواء مباشرة، ووافق فقط على لقاء مسجل، لقد كان حذراً من أن يستلمه العراقيون عبر الهاتف، لأتهامه بوطي علاقته برأس النظام السابق، يومها سألته: كيف لم تروا أو تشعروا بأبناء المقابر الجماعية وانتم تذهبون للتضامن مع صدام؟ فإعترف على مضض: لقد اخطأنا في عدم إيلاء الديمقراطية في العراق اهتماماً كافياً .

 ولكم ان تصدقوا او لا تصدقوا أيها العراقيون، لقد دمعت عيناه حينما كنت أحدثه عن آلام العراقيين ومصائبهم أيام عهد صديقه البائد – ولا أعرف لحظتها كم من التماسيح المخفية قفزت من عينيه – ثم أراد تزكيتي أمام حارث الضاري قبل أن يجمعني مع الأخير، لقاء تلفزيوني على الجزيرة – ماغيرها – واصفاً إياي بالوطني الشريف، يومها طقت الحماوة العراقية برأسي وإنفلتت مشاعري من (عذارها) فسطرت كلاماً خرج سريعاً، لذا لم ألحق سوى ببعض مضمونه وبفحوى تقريبية: إنا عراقي لم تتلوث يدي بدم عراقي، ولا لساني بالتحريض على عراقي، ولا تسرب لقلبي كره لعراقي، لذا لا ارضى بتزكية من أحد أمام أحد .

أذكر اني رأيت يومها نظرة رضى في عيني المرحوم الدكتور عصام الرواي، ونظرة خجل في عيني معن بشور، اما الشيخ الضاري، فلم استطع ان أحدد موقفه، كان جامداً كالحجر، لذا سارع المرحوم الرواي بإستدراك الموقف: لاتعتب على الشيخ، فقد أرسل له الزرقاوي تهديداً بالقتل .

على العرب أن يمتلكوا اسلحة دمار شامل، ذلك ضروري لوجودهم، قالها احدهم بحماسة كحماسة حماس بعد إنقلاب غزة، فرد أحد آخر: لكن العرب يمتلكون فعلاً عدداً هائلاً من اسلحة الدمارالشامل .

 فسأل الأول مندهشاً: هل تتكلم جدياً؟؟

- نعم: قال مثقف حاضر البديهة: يمتلكون سلاح الكراهية .

كانت إجابة غير متوقعة على سؤال (الأحدهم)، وعلى الرغم مما رافقها من سخرية، الإ انها واقعة جديرة بالتأمل، لما تحمله من دلالات يزخر بها واقعنا المعاصر.

فحتى سنوات خلت، لم تكن المنطقة العربية قد إستقرت على صورتها النمطية الراهنة، بإعتبارها خزاناً هائلاً لتصدير الكراهية أو استجلابها، وبالتالي لم يكن العرب عندئذ قد حشروا بعد في " مكانتهم " البارزة لإنتاج هذا النوع من" الأسلحة " الفتاكة، إذ لم تكن تلك المفردة حكراً على العرب دون غيرهم من سائر الشعوب، فهي قد وجدت طريقها الى السلوك البشري منذ وجوده الأول، بكونها شعوراً فردياً يتولد في النفس حينما يكتشف الإنسان مقدار عجزه عن قهر الآخر المنافس له على طريدة أو فريسة .

ومع تحول الجماعات الى مجتمعات، ومن ثم نشوء الدول والكيانات السياسية، تطور مفهوم الكراهية تبعاً لذلك، ليصبح جزءاً أساسياً من مركبّ جمعي تعاد صياغته أو إحياؤه ليأخذ أشكالاً متعددة حسبما تقتضيه طبيعة المرحلة التي تمرّ بها هذه الأمة او تلك، كالإدعاء بتفوق روحي أو عرقي مثلا، أو امتياز ديني أو حضاري ينتج عنه حقّ حصري بالسيادة والملك وهكذا، أي أنها – الكراهية – تحولت من حالة شعورية فردية، إلى سلاح يشهر دوما بوجه الآخر المختلف، وقد شهد التاريخ حضارات بأكملها تحولت فيها الكراهية إلى أيديولوجيا لدول وشعوب بقيت تعتاش عليها زمناً طويلاُ، حيث اعتبرتها واحدة من أهم مصادر قوتها ومن مرتكزات وجودها وحركيتها في الزمن والمكان .

 وعلى الرغم من ان علم السياسة جاء لينظم تلك الكراهيات باتجاه أولويات المصالح، التي غالباً ما تكون مشتركة إذا قامت بين قوى متكافئة على درجة ما، وبعكسها إذا فقد هذا التكافؤ، لتتحول من ثم المصالح الى تبعية لطرف وهيمنة للآخر، الإ ان الكراهية ظلت حاضرة على الدوام، يرتفع منسوبها بتناسب عكسي مع ضعف الأمة أو قوتها، فالأمم الأكثر إستحضاراَ للكراهية، هي الأقل قدرة على التفاعل أو التناظر مع غيرها، من هنا يظهر ذلك التشابك المثير بين مجموعة من العوامل المتناقضة التي تتكون منها الكراهية، لتنشط في المحصلة كمعادل موضوعي يدخل في منظومة التشكل النفسي أو الغرائزي الذي يجنح بإتجاه مصادرة العقل بشكل تام، لأن العقل بحساباته الدقيقة التي لا تقبل الإ بما هو متحقق فعلاً، أوما يمكن توفيره من العوامل الموضوعية لضمان تحقيقه، يتحول عندها الى رقيب يذكّر دائماً بالفشل، لذا يفقد العقل وظيفته المعرفية، محدثاً فجوة لايمكن ردمها الإ على أنقاض ما بنته الكراهية من سلوكيات .

ويمر العرب اليوم بحالة تكاد تكون نموذجية في إنتاج كراهية تبدو طاغية الى درجة تلغي معها كل ماعداها، وقد انتقلت من حالتها السوية كخط دفاع لأمة تشعر انها تواجه وضعاً مصيريا، الى مايشبه سلاحاً للتدمير الشامل للذات، بمعادلة بسيطة ومركبة معاً: مادمنا عاجزين عن تدمير الآخر، فلندمر انفسنا إذاً .

وكان يمكن أن نترك لندمر انفسنا بكراهيتنا من دون ان ينشغل العالم بالتدخل كما حدث في الكثير من البلدان الأفريقية وغيرها، لكننا – لسوء او لحسن حظنا - نشغل منطقة حساسة موقعياً وحيوية للعالم، فلدينا نصف المخزون العالمي من الطاقة البترولية (نجلس عليه ولا نملكه، كماعبرّ جيمس بيكر)، ونشكل في الجغرافياً، اما عائقاً فاصلاً، أوجسراً بين عالمين لابد أن يتواصلا – الشرق والغرب – لذا نبدو في نقطة حرجة لايملك الآخرون حيالها الإ أحد خيارين، اما إدخالنا في التاريخ، أو إخراجنا من الجغرافيا .

في فيلم " الحديقة الجوراسية " الذي قيل ان من اسباب نجاحه الساحق، هو ما حمله من إيحاءات تستهدف العرب، فالديناصورات التي توفرت لها أمكنة نموذجية للعيش، وإهتمامات إستثنائية من خبراء لامعين، إنقلبت فجأة الى وحوش مفترسة لم تكتف بمهاجمة المشرفين عليها، بل إنتقلت لإفتراس بعضها البعض مهددة بالزحف نحوالمدينة، ولما لم يستطع العلماء إيجاد تفسير منطقي لسلوكياتها الغريبة يمكن من خلاله إيجاد العلاج الملائم لها، قرروا تدميرها .

لا شك ان إيحاءات من هذا النوع، ما كانت لتجد صدى يقبل لدى الآخرين على علاّته، لو لم تقدم نماذج وشواهد كثيرة، أظهرت بمجملها أن بعض تلك الإيحاءات لم يكن مخطئاً بالكامل، فما الذي يدفع مهندساً يشغل وظيفة مرموقة في بلد غني كقطرمثلاُ، عاش فيها سنوات طويلة بأمن وسلام، ثم يفجر نفسه في رواد للمسرح، بل ما الذي دفع " رائد البنا " الى قطع آلاف الأميال تاركاً دراسته وعمله في أمريكا، ليرتكب مجزرة مدينة " الحلة" بحق عراقيين أبرياء، ثم تتجسد الكراهية بالإحتفال بما قام به، هل يمكن لأيما نظرية ان تفسر سلوكيات من هذا النوع؟ وهل يمكن لأيما " آخر " أن يكرهنا بأكثر من ذلك؟

لقد تجاوزت الكراهية كونها أيديولوجيا أو أحدى مكونات الهوية، لتدخل من ثم في مناطق مجهولة قد يتولد فيها " دين " جديد، ليصبح البحث عن إيجاد توصيف لهذه الكراهية، - في نظريات العلم كما في إجتهادات الفقه أو مقولات الموروث - ضرباً من المستحيل، فالأيديولوجيا في المحصلة، بناء فكري يبحث عن تحقيق هدف ما، أما الهوية فتثبيت في المعنى، أوتشخيص لخصوصية حضارية – أيّاً يكن شكلها وأحقيتها – أما ما نمّر به اليوم، فينبغي إستخراجه من مرويات الف ليلة وليلة، بعد تجريدها من كل أبعادها الأدبية والجمالية .

 لقد بذلت أوربا جهودا ًجبارة لتنفض عن كاهلها " كراهية " محاكم التفتيش والحروب الصليبية وكوارث النازية والفاشية، لتضع مكانها القدرات الكامنة في مقولة ديكارت عن ربط الوجود الإنساني بإنتصارالعقل " أنا افكر، إذاً أنا موجود" كذلك حولت اليابان كراهيتها للأمريكي،الى طاقة منتجة هائلة العطاء بعد أن أعادت صهرها بمصاهرالعقل .

 لكن،لا تقدم الأمثلة المذكورة شيئاً لواقعنا كعرب، إذ سنجد على الدوام أعداد لاتحصى من كتابنا ومرجعياتنا الفقهية أوالسياسية، تؤمرنا بأن نلتزم بمقولة " أنا أكره، إذاً انا موجود" فهي قد تكون المرةّ الأولى التي تجتمع فيها " أمة " خلف كراهيتها، لتطرح جانباُ حتى أسئلة " فضولية " عن ماهية الآخر، واي جانب فيه، هو الأجدر بكراهيتنا اولاً: سياسته، ام إقتصاده؟ تفوقه المادي، أم قوته العسكرية؟ وكيف نتعامل مع منجزاته الحضارية التي دخلت في أدق مفردات حياتنا؟ ثم ماهو الإستثمار المتوقع لهذه الكراهية؟؟ هل بالإمكان تحويلها الى فعل خلاق؟ أم ستبقى " سلاحا " للتدمير الذاتي كما تبدوعليه اليوم؟ خاصة بعد أن إختلقنا " الآخر " حتى من داخلنا .

ليس من المفترض ان تقاس عطاءات الشعوب بمخزون عواطفها، بل بمنتوج عقولها، والأمة التي تعجز عن تقديم مساهماتها على هذا الصعيد، لابد ان تصل الى مرحلة تجد نفسها وقد تحولت أوحولت، الى مجرد" حديقة ديناصورات " تهدد المدنية .

أما الكراهية ضد العراق، فلها حديث آخر

يتبع ----

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1184 الاربعاء 30/09/2009)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم