صحيفة المثقف

الذكرى المئوية الثانية لميلاده .. ديكنز الأول والأخير / أحمد فاضل

بعد أن تناولها تشارلز ديكنز بكتاباته التي قال عنها عام 1851 أنها مستنقع من الطين ومكملة للقذارة، وعلى الرغم من القلق الإقتصادي الذي جعلنا نشعر بأننا أقرب الى عصر مسكون بالتناقضات بين الثروة والفقر المدقع، إلا اننا شهدنا إعمارا رائعا لهذه المحطة واصبحت اكثر عصرية في السنوات الأخيرة والملايين يشاهدون التلفزيون ويمكن العثور بسهولة على اليزابيث تايلور أو ميشال فابر والكثير من الروايات المفضلة من القرن التاسع عشر ونماذج خصبة من العهد الفيكتوري تناولت كتبهم واصداراتهم الشاشتين الكبيرة والفضية وخضعت بالوقت نفسه للتحليل الأكاديمي لتشكل الآن حقولا متميزة للدراسة، ومع اننا على أعتاب عام جديد هو 2012 تبدو هذه الأنشطة فيه أكثر من أي شيئ آخر ونحن نتهيأ للإحتفال بالذكرى المئوية الثانية لميلاد ديكنز، والبرنامج المخطط له يبدو ضخما وسوف يصل الى ما هو أبعد من عالم الأدب ليشمل إقامة المعارض والمناقشات والبرامج الوثائقية الاذاعية والتلفزيونية والعروض المسرحية الكبرى الجديدة، هذا التنوع يعكس مدى محبتنا لديكنز الرجل الذي كان محاميا ومراسلا برلمانيا وصحفي وفنان، وعندما كان شابا كان كثير التفكير في صياغة حياته المهنية بفاعلية كبيرة، كما وأنه امضى شهورا كثيرة بائسا يعمل وهو طفل في مستودع للدهانات شديد الظلمة وهذه الفترة بالذات اصبحت الأكثر شهرة في طفولته أو ربما في حياته التي قادها بعزيمة لاتلين لتحقيق النجاح، وكان طوال سنوات شهرته كروائي استثنائيا حتى وهو يشغل رئيس تحرير مجلات عديدة كان قد أصدرها ومسرحيات أعدها للهواة، مع سفره الدائم للإلتقاء بجموع غفيرة من الناس للإستماع له لما كان يطلعهم من قراءات، وكتابة أرقام مهولة من الرسائل والخطب وتنظيم ودعم لحملات الإصلاح الاجتماعي .

كان نشاط ديكنز ملحوظا نظرا لما يتمتع به من عقلية وجسدية جعلت منه رمزا ثقافيا له حضور دائم في كل المحافل الأدبية التي كانت تعقد في لندن، فتشارلز ديكنز يعني انكلترا انه واحد من عدد قليل من الكتاب الذين يقفون جنبا الى جنب مع تشوسر وشكسبير وربما صمويل جونسون، أما الذين جاءوا لتمثيل عصره كروبرت دوغلاس الذي نراه متحمسا لسنوات ديكنز المبكرة، وكلير تومالين التي انخرطت بعمق في سيرته الذاتية لتأخذ التباساته الابداعية باعتبارها نقطة هامة في حياته أو علامة على عظمته لأنه لايوجد شيئ تقريبا يمكن للمرء أن يقول عنه عكس ما يتصوره، دوغلاس مع ما يقوله أن طاقة ديكنز وتململه يجعله موضوعا غير مرتب ومتناقضا أحيانا، لكنه هو ما أعطى لكتاباته قوتها الدائمة، مع ان هذه التناقضات اصبحت جزءا لايتجزأ من الثقافة الفيكتورية كما يقول دوغلاس خصوصا على توترات الطبقة الإجتماعية التي هزت الحياة الحضرية في إنكلترا والتي نشأت في مرحلة انتقلت فيها من الهرمية التي كانت ثابتة الى حد كبير واصبحت ذات قدرة على المنافسة حيث تم تحديد الوضع حسب الدخل والإحترام .

تشارلز ديكنز عاش هذه المرحلة التي اتسمت بالمأساوية حيث وجد جده يعمل خادما لدى عائلة كرو الثرية، أما جدته فكانت تعمل نادلة في أحد البارات واضطروا في النهاية الى الفرار من البلاد عام 1810 عندما اكتشف أن الأب ديكنز قد سرق أموالا من مكتب الدفع البحري الذي كان يعمل فيه والذي برره قائلا لعائلته أنه سرق للإرتقاء الى مكانة اجتماعية تليق بهم، وبين الظروف غير المستقرة في مرحلة الطفولة والجوع لاحقا نراه يشق طريقه في الحياة حيث اضطر للعمل والقراءة معا بعد تركه المدرسة لكنه وفي خلال سنوات قليلة امتلك قاعدة متينة في اللغة الإنكليزية والرياضيات وبعد عودته للدراسة حصل في السنة الأخيرة على جائزة اللاتينية فقد كان حظه جيدا وهو أمر مفروغ منه طالما سعى بعزيمة وتصميم .

حدد ديكنز مساراته في تعلم القراءة والكتابة بالرجوع الى الماضي من خلال ما كان يقرأه للكتب الموجودة في مكتبة والده بدلا من تعليمه الرسمي، فهو لم ينس أبدا القصص التي قرأها وهو صبي لتوم جونز، مول فلاندرز، روبنسون كروزو، ألف ليلة وليلة، حكايات الجن، دون كيشوت، النائب ويكفيلد، وقد لعبت هذه الشخصيات بما عاشته من تناقضات دورا رئيسا في أغلب ما كتبه من روايات لكنه بداية ساهم بكتابة مجلة مكتوبة بخط اليد وزعها بين أصدقائه الصغار وقد استمتع ديكنز بها خاصة بعد تكييفها بقصصه الأولى التي اختارها بعناية، وبعد أن جعل من نفسه رجلا غنيا بعد كل ذلك التشرد وتجارب الربح والخسارة، ديكنز لم يفقد تعاطفه مع الفقراء ولا احتقاره للثراء فكان أول من كتب عن الفقر والأطفال الذين يتعرصون للإساءة والخادمات والعاهرات والكادحات المعنفات، هذه الأصناف من البشر بدت من اكثر الشعارات السلبية التي تشكوا المعاناة بقسوة في قصصه كما كانت حياته، وأيا كان اختلاط الغضب والحزن والضحك في سطورها فإنه كان يستهلك بشغف انصهارها داخل نفسه الواثقة بكل ما حملته من عنف وكوميديا وشفقة ومشاعر وتآمر بتوصيفات قوية وبلفظيات اخترعها لايمكن وقفها، وكان يقف بتناغم عجيب مع مخاوفه من بعض قرائه، لكنه عرف كيف يتغلب على استيائهم مع الوقت حينما يطلعون على أعماله القادمة وأنهم سيدفعون به الى الشهرة والثروة بسرعة وهذا ما حدث فعلا بعد نشره أعماله خلال اعوام 1836 - 1837 وحتى نهاية حياته .

في سيرة حياته الفذة التي تناولتها الكاتبة كلير تومالين تقدم كشفا مذهلا وتفسيرات معقولة لحياة ديكنز تساعدنا على فهمها لأنها تسير بمحاذاة أحاسيستا ونحن نعيش قرننا ال21 متناولة فيها صفحات مجهولة من عديد مشاكله المتجذرة خاصة في علاقاته التي اتسمت بالحدة مع النساء، وقد لاحظ النقاد من خلال علاقاته غير المستقرة تلك انه لاتوجد إمرأة يمكن لها أن تكون سببا في سعادته بسبب معاناته في طفولته التي دفعته الى ان يتوق لأن تكون المرأة تحت سيطرته بالكامل، فالصفات التي كان يطلبها والتي تقرب بسببها من النساء أن يكونن تحت تبعيته وطاعته زادت في نفس الوقت من محنته خاصة عند سقوطه في حب الممثلة إلين ما أسفر عن نهاية حياته المشتركة مع زوجته كاترين غارث وإخراجها من بيت الأسرة الذي خيمت عليه سنوات مظلمة وصفتها إبنته كاتي بالعاصفة وقالت عنه أنه لم يعد يهتم بأحد منا ولاشيئ يمكن أن يتجاوز هذا البؤس والتعاسة حيث بلغت معاناة كاترين المنفية من بيتها أن منعت من رؤية أطفالها التسعة ومعظمهم فشلوا في تحقيق الكثير من حياتهم بسبب إهمال ديكنز لهم مما تسبب سلوكه هذا لهم بالقدر الكبير من الألم، وهو تذكير غير مريح لسلوك ديكنزمع أن توماس كارليل كان يثني عليه ويقول عنه : " إنه رجل صادق في كل شبر فيه "، ومع تدهور صحته في السنوات الأخيرة إلا أنه كان قادرا في كثير من الأحيان على العمل ولم يتوقف أبدا عنه واستطاع أن يقمع كل ما مر به من صعوبات على نحو مدهش .

تومالين في سيرتها عن ديكنز كتبت أن سنواته الأخيرة كانت مثقلة وحساسة والسيرة بحد ذاتها لاتشبه أي سيرة أخرى كتبت عنه، لكنها تحرص على عدم تقديمها بأنها قصة مأساة وهزيمة مع أنها حفلت بتناقضات داخلية مدمرة وتصف لقاؤه في مكان آخر من السيرة بالملكة فيكتوريا أنه أثارها فكريا خاصة في تناوله القضايا الإجتماعية متحدثين معا حتى عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية، تومالين خرجت بهذه السيرة ببنية سردية قوية سلطت الضوء مرارا وتكرارا على الدور الداعم له للكثير من الصحفيين والموسيقيين والروائيين والممثلين والرسامين .

 

.................

- عن / ملحق التايمز الأدبي

* دينة بيرش / استاذة الأدب الإنكليزي بجامعة ليفربول ومحررة لطبعة أوكسفورد الأدبية حتى عام 2010 ومؤلفة للعديد من الكتب .

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2001 السبت 14 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم