صحيفة المثقف

"السيدة الحديديّة" .. الفيلم السينمائي وذاكرة التاريخ / عامر هشام

جالسة بيننا في صالة سينما لا تبعد عن شقتها في لندن الاّ أميالا قليلة؟..ترى هل كان هذا الفيلم-سيرتها الذاتية- سيرضيها أم أنها ستظل تصيح بنفس اللاءات الثلاث المشهورة والتي صرخت بها بوجه أعضاء حزبها (المحافظين) عندما وقفت ضد توسع الأتحاد الأوربي؟..سياسة كانت لها فيها وجهة نظر لم يتجرأ الفيلم الذي نحن بصدده على مناقشتها.

والفيلم هو الثاني للمخرجة الفنانة فليدة لويد بعد أن أخرجت فيلم ماما ميا الذائع الصيت.

 وفيلم "السيدة الحديدية" يعتبر من أفلام السيرة أو التوثيق الشخصي (بايوبك) والتي بدأت في الثلاثينات من قرننا الماضي على يد شركة الأخوة وارنر حيث تم أنتاج أفلام السير التاريخية التي تناولت حيوات ثوار وعلماء ورجالات تاريخ مما تم عرضه في تلفزيون بغداد في السبعينات بما فيها فيلم وحيد عن "مدام كيوري".  وأذكر جيدا فيلم "المواطن كين" لمخرجه أورسون ويلز (أنتج في عام 1941) حيث عرض بتفصيل غير منظّم لحياة أمبراطور أعلام يدعى وليم هيرست، كان له تأثيره في مجتمعه حينذاك.

يدور فيلمنا "السيدة الحديدية" حول ذاكرة مشوّشة وعلى مدى يوم كامل في حياة رئيسة وزراء بريطانيا السابقة السيدة تي أو مارغريت تاتشر والتي مثلّت دورها بالأبداع كلّه الممثلة المعروفة ميريل ستريب والتي جاءت الأخبار قبل أيام قلائل لتشير الى تسلّمها الجائزة العالمية الذهبية للسينما على دورها في هذا الفيلم، "السيدة الحديدية"، وهي تنتظر الأوسكار في شهر آذار مارس المقبل كما يتوقع بذلك نقّاد الفن.

ولعل أصابة تاتشر بالخرف (الناتج من جلطات دماغية متتالية غير خطيرة) قد أدى بالفيلم لأن يعبّر عن ذلك من خلال عرض لحوادث تاريخ مرّت بحياتها، وبشكل غير مترابط، دون تحليل أو أثبات موقف معين تجاه هذه القضايا المهمة في التاريخ السياسي البريطاني بل العالمي.

وهكذا كانت اللقطة الأولى في الفيلم هي للسيدة الحديديّة في أيامها الحالية وهي تمشي الهوينا لتشتري من صاحب محل صغير في لندن (دلالة لا تخفى على المشاهد) الحليب الذي وجدته غاليا. ولا ننسى العلاقة بين تاتشر وزيرة التربية في وزارة أدورد هيث وقرارها بمنع الحليب في المدارس البريطانية في أوائل السبعينات. ثم أن الفيلم يعرض في أول مشهد أسترجاع للذاكرة المشّوشة، الصبية مارغريت في حضرة الأب روبرتس الذي كانت مولعة بأحاديثه وخطاباته بين أصدقائه في مدينة كرانثام الأنكليزية. وتتذكّر مجلسها مع رجال حزب المحافظين الأغنياء في دعوة عشاء في مدينة دارتفورد وهي صبية متحدثّة بلباقة في شؤون السياسة، حيث تلتقي حينها مع من سيكون زوجها دينيس تاتشر صاحب المشاريع الناجح.

ويظّل الفيلم يذكّر مشاهديه بأن مارغريت تاتشر كانت تحّب مصاحبة الرجال وليس لها في طفولتها أو صباها، صديقات بنات..وتعلو الجديّة الفيلم عندما يتم أستذكار تاتشر لما مرّت به كرئيسة للوزراء من أضراب لعمال مناجم الفحم وعمال الخدمات العامة، ومحاولة أغتيالها من قبل الجيش الجمهوري الأيرلندي السري في تفجير فندق في برايتون حيث المؤتمر الحزبي للمحافظين ثم تذكّر حرب جزر الفوكلاند ورجال العسكرية البريطانية وصوت المدافع وسقوط الضحايا.

ولا غرابة أن ترى الفيلم "السيدة الحديديّة" يقوم بدور الكاشف لما وراء كواليس صنع الساسة في الغرب. فتاتشر كسيدة كان لابد من أن تخضع لمكياج خاص لشعرها، فتنزع القبعة غير الملائمة، وتمرّن صوتها، وتهتم بالمظهر والزينة المعقولة والمكياج، قوة تزيد في تأثير شخصيتها بين أعضاء مجلس عموم وصفه الفيلم على لسان أحد أعضائه بأنه بيت للمجانين..وتظل تاتشر عبر حالة الخرف تتكّلم مع ما يشبّه لها أنه زوجها دينس، الذي توفي قبل ما يزيد على 8 سنوات، فتقول له أن الحياة أكبر من أن أظل أغسل الصحون في المطبخ..ومما كشفه الفيلم بجرأة هو حالة أعجاب مارغريت تاتشر بنفسها حد عدم السماع لنصيحة ناصح من وزرائها في الحكومة  أو زملائها في الحزب اللذي رأست لمدة تزيد عن 10 سنوات.

وهم هؤلاء الساسة الذين بلغ عندهم السيل الزبى فأتحدّوا على أسقاطها وتحدّيها في عقر دارها.

لقد أعطت لقطات الكاميرا القريبة  للوجوه وأنفعالاتها ممزوجة بالموسيقى التصويرية الأنكليزية النكهة والمذاق، مناخا محببا وذكيا في الفيلم. كما أن أبداع الممثلة الأولى ميريل ستريب في تمثيل مارغريت تاتشر، وهي العجوز المتعبة والشابة القائدة في نفس الوقت، ضمن للفيلم نجاحا تجاريا يحلم به المنتج. ولم يكن أداء الممثلة الفطنة الكسندرا روش قاصرا وهي تمثّل دور مارغريت تاتشر صبية يافعة.

ويظل في المقطع الأخير في الفيلم المعنى المهم حيث تدور السيدة الحديديّة حول غرفتها مخاطبة شبح زوجها بأن: لا تذهب وتتركني وحيدة..فأنا لن أترك هذا المكان..الى أي مكان آخر..

 

 I am not going anywhere!

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2004 الثلاثاء 17 / 01 / 2012)

 

 

   

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم