صحيفة المثقف

المرحلة الثالثة من أفكار الموسوعيين :حصيلة التقدم ومداه / عبد الجبار العبيدي

ولم يكن هذا تباهيا منها،  بل حقيقة ظهرت على الارض،  حين أصبح العلم والفن والتكنولوجيا لها. وها هي البحار لها،  والصناعة المتفوقة لها،  والزراعة لها،  والسيادة على العالم لها. فبالعلم استطاعوا ان يخضعوا الرقاب، وبالقوة ان يسيطروا على البلدان،  وبالسياسة ملكوا العالم. لكن هذا التقدم كان  تقدما ماديا بحتاً،  حين رأوا ان الدنيا كلها اصبحت تحت أقدامهم ,،  ولم يحققوا فيه المساواة بين  البشر.لكن السؤال المهم هو:كيف تحقق التقدم وأتسع مداه؟

 

بدأ هذا التقدم حين بدأ العلماء والاكاديميون يفكرون بشئون الكون على اساس من الفكر غير المقيد،  والعقل المتعطش الى المعرفة والبحث العلمي القائم على التجربة التي هي اصل كل كشف جديد. فكان النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في المقدمة. ففي النظام الاجتماعي كتب العالم جان بودان 1530-1596  في اصلاح النظام الاجتماعي والعناية بالاسرة ووضعها تحت رقابة الدولة.وتلاه (وليم جبورن) في فكرة التغير الاجتماعي الكلي الذي شمل العناية بالمجتمع دون تفريق. وكتب فرانسيس بيكون 1561-1626 في الكشف العلمي  بعيدا عن علوم اليونان والرومان في كتابه  المسمى (مخطط موجزلمطالب العلم الطبيعي الاساسي) حتى جعل الناس يعرضون عن الماضي فأتجهت عيونهم وافكارهم نحو الامام حين طالب بتغيير المناهج الدراسية نحو البحث والتعمق في العلوم بعيدا عن افكار الكنيسة ورجال الدين،  مستخدما التجربة الفعلية في كل كشف علمي جديد . ثم أردفه بكتابه المسمى (تقدم التعليم) الذي عارض به منطق ارسطو في استقلالية  المنطق في معرفة حقائق الاشياء، فقال :ان البحث العلمي والتجربة الحقيقية هما اصل العلم الصحيح، وليس منطق ارسطو الوحيد. فكانت مرحلة النقلة الاولى نحو التقدم .

 

وحين جاء من بعده العالم الرياضي (ديكارت) الذي أقام فكره الفلسفي على الرياضيات ففتح للعلم الانساني افاقا واسعة في كل جديد حين جعلوا الصناعة ومفرداتها علوما بحتة لها قدرها واهميتها عند الناس وحولوها  الى منهج دراسي واضح وعميق، بعد ان هاجم الفكر القديم مطالبا الجامعات بضرورةالبحث والدرس والنقد تحت تجربة العلم الجديد علم الرياضيات المهم. ثم تبعه (نيوتن 1642-1727) الذي نادى بضرورة اتحاد الرياضيات والطبيعيات معاً  لأنهما يعززبعضها بعضاً، ومن افكاره ظهر علم الفيزياء الذي طوره العالم (جون لوك) الذي اصبح فيما بعدالاساس الذي قامت عليه نظريات التقدم.وهكذا تجمع الجزء على الكل والكل على الجزء فأحدثا نقلة العلميين، فكانت المرحلة الثانية للتقدم .

 

وقد تلاهم (روبرت هوك) في علم الجيولوجيا واكتشاف الفلزات  الذي قلب الصناعة راسا على عقب بعد معرفة الحجر والرخام والنحاس والبرنز والفضة والذهب حتى انصقلت عقول الناس وأشرأبت نحو كل علم جديد. هنا بدأ الفكر الرأسمالي يتحرك بعد ان كتب (آدم سمث)  (كتابه ثروة الامم). وهكذا انتقل مركز الثقل في العلم من الخيال الى الواقع ومن النظري الى العملي.ولعبت الجامعات الاوربية الدور الفعال في كل كشف جديد، فكانت المرحلة الثالثة للتقدم.

 

ان الاهم من هذا كله هو ان الفكر الانساني اصبح قوة للمجتمع ككل بحيث يستطييع ان يوقف الظلم ويرد السلطة اذا هي ارادته بالقانون، فسادت حرية الفكر والتصرف في ظل أمن مستقر وكفاية مجتمعية واضحة في مصادر العيش تحت حماية القانون. فأصبح المواطن والمسئول مترفعا عن تجاوز القانون فتعالى عن الدنية فنشأ عنده وعي خلقي وانساني قائم على العمل والتجويد ونشاط الحركة فتآخت السلطة الحكومية مع المجتمع والعكس صحيح،  حتى اصبح الطالب يدخل قاعة الامتحان بلا رقيب،  وقائد السيارة يقود سيارته بلا ترخيص يحمله سوى قيد له في دوائر المرور، حينما اصبح القانون مطاع طواعية عندالمواطن بلا حسيب.

 

 

وبظهور الحركة العلمية واخلاقية القانون وزيادة  الموارد المالية الهائلة،  بنت  نفسها اوربا، فظهرت لندن وباريس وبروكسل متألقة برواء يدعو للعجب فبدأوا يضعون قوانين الهجرة للكفاءات الخارجية ليملئوا كل نقص محتاجين اليه، وهنا بدأ التطلع نحو العالم الجديد الذي استقبلهم املا منهم بكل جديد. ومن يقول ان اوربا كانت موحدة بشعوبها فهو يجانب الحقيقة فأوربا فيها الف قومية وجنس، لكن تطبيق القانون دون تفضيل هو الذي خلق منها الصحيح.

 

واليوم نحن في العراق نتحرر من دكتاتورية العناد والصلف،  كان المفروض ان نبني المدن ونرفه  الشعب ونحترم الوطن،  ونرعى الجامعات ونغير المناهج ونبني كل جديد.لكن هذا لم يحصل حين اصبح الاتجاه نحو الطائفية والعنصرية والمصلحة الذاتية ناهيك عن تدخلات دول الجوار الخائفة من استقرار العراق، فبدئنا نتجه نحو انفسنا دون الشعب والمصلحةالعليا حتى  أدخلنا معترك الصراعات المحلية والخارجية في النفق المظلم الذي لا بصيص امل في الخروج منه الا اذا وعينا الضميروراجعنا حسابات الخطأ.  التقدم لا يتم الا عن طريق التعليم  والاهتمام بالجامعات ومناهجها العلمية والقانون وتحويل الانظار من الخرافة الى التجربة العلمية التي هي اساس كل كشف اوتقدم جديد، وتحصين الوطن من كل أعتداء أثيم، فالعلم يتقدم اسرع من الطائرة وكل يوم نقرأ ألف كشف حديث. لقد قدمنا لهم فكرا موسوعيا لمشروع علمي للجامعات العراقية مستوحى من طرق التعليم الجامعي الأمريكي لكننا مع الاسف لم نسمع منهم اي جديد.

 

نعم،  سجل الاوربيون سبقا حضاريا وتاريخيا لم يعرفوه من قبل حتى ان مؤرخيهم لم يعودوا يؤمنون بحركة التاريخ السلفية ولا الدائرية، وانما بالخط المستقيم الصاعد،  الا النزر القليل منهم من امثال شبنكلر الذي كتب كتابه عن حضارة الغرب (الصعود والتدهور والشيخوخة والموت). وقال ان الحضارة الغربية مثلما صعدت ستهبط وتنهار لان مبادئها لم تكن مستقيمة وهي مع حقوق الشعوب وعدالة الانسانية في نقيض.

 

ورغم ان اكثرهم آمنوا بنظرية الصعود لكنهم  اعتقدوا ان حياة الامم يجب ان تكون تكاملية في سياستها واقتصادها واخلاقها ومجتمعاتها، في حين شككوا بالتوازن بين الاشكاليات الاربعة. لكنهم ولاشك ايقنوا ان شعوبهم تعلمت من دروس الماضي وويلات الحروب الكثير، وان العداوات بين الشعوب وداخل الشعب الواحدعبث مدمر وسخف خطر، ونحن لم نعِ هذا بعد، حين قالوا ان التقدم العلمي سيحل كل مشاكل الانسانية وخاصة اذا كنا نستطيع ان نبعد الكنيسة ورجال الدين عن سيطرة الدولة والانسان فيها، وقد فعلوا ونفذوا وبالقانون أصبحوا اقوياء لاهم لهم الا الوحدة الوطنية ورفاهية المواطن بالقانون، حين حققت العدالة القانون، ولمصلحة شعوبهم يعملون، فالوطن لا يحمل حمله الا أهله.  ومع هذا لن يتوقفوا بل بدأوا يعدون خطوات المستقبل ويرسمون الخطوط لدولهم الصاعدة، تساعدهم حكومات وطنية منتخبة بصحيح،  ونواب يحضرون المجلس ويناقشون كل صغيرة وكبيرة ولجان انتخابية تعمل كل جديد،  وضعت نصب عينها الوطن والانسان فحققت لهم عدالة القانون، وغالبة نوابنا اليوم عن الوطن غائبين .

 

ان عيبونا اليوم  هو اننا قسمنا السلطة الى مكونات سياسية والبلاد الى اقاليم، حتى اصبحت خريطة الوطن قطعة ارض  وكأنها رقعة مزينة بقطع الفسيفساء الصغيرة، وفي غياب سلطان مركزي قوي قويت الأقاليم وضعف المركز وكأن سياسة المتوكل العباسي عادت الينا من جديد. فانعدام  الامان قلل من حركة الناس  فترهلت اجسادهم وعلاها المرض والخوف من مستقبل مظلم، حتى اصبح معدل عمر الانسان العراقي لا يتجاوز الستين، بعد ان ساد ت المليشيات والصعاليك الذي يستندون على الوحي الخارجي من بعض الحكام فخربت المدن والقرى وساد القتل والجوع والتهجيربين الحاكمين المتناحرين وابعدت الكفاءات عن كل عمل رصين.وهكذا كل يوم نشاهد أنظمام جماعات من التافهين لمقاومة المجددين حتى بعضهم اصبح يخشى الحقيقة في العاصمة ففر الى الأقاليم. والا هل سمعت يوما عبر التاريخ ان عراقيا هجر اخاه ليحتل داره، والدار ملك صرف منذ زمن البابليين ولا قانون يحمي المواطنين.ان التوجه نحو تقوية المركز لهو عين الصحيح في التوجه والتطبيق، فاذا قويت العاصمة اصبح للدولة المكانةالمعنوية العالية في نظر الدول والمواطنين. فالرئاسة فيها، والوزارة فيها، والقضاء فيها،  والثقافة فيها،  ولا يحق لاحد نقلها لمكان اخر في كل الظروف والاحوال.

 

ولا اغالي اذا قلت ان العرب في بدايات الصعود حققوا من النظريات العلمية الكثير لكن ساستهم واطماعهم هي التي اماتت ذلك التطلع الكبير.ومن يقرأ كتاب ابن ماسوية في تجارب الامم والمسعودي في الزمان ومن ابادهم الحدثان يلمس توجها من هذا القبيل .لكن ليس المهم الماضي، بل الحاضر الذي مد جناحية على وطننا العراق، فأنبت الاقلام تكتب والعلماء يشحذون الهمم،  لكن لا احد من السياسيين  يسمع  ويعاضد وينتصرللمنادين، لا بل السيف على رقاب الكفوئين،  فاذا ظهر واحد فينا مخلصا رميناه بألف حجر. لقد كتبنا حتى تيبست أصابعنا على القلم  ولا من مجيب، في الدول المتقدمة يقرأون كل جديد ليستفادوا منه  في الاصلاح والتنظيم، ويستشيرون الناس حتى في تبليط الشوارع، ونحن مع الاسف بعيدين عن مثل هذه التوجهات في النظرية والتطبيق.

 

ان اسوأ ما يحدثنا به التاريخ،  هي عداوة الشعب من داخلة لطائفية او عنصرية او معتقد ديني معين او ترجيح أقليم على أقليم، كما يحصل مع أقليم الشمال اليوم،  وكأن أربيل هي العاصمة لا بغداد، والكل يهرول خلفها كالطفل يجري وراء امه طالبا الحليب، لذا فأن المستعمرين والدخلاء هنا هم على الوتر الحساس كانوا ولا زالوا يضربون، لقد قاوم العراقيون نظرية (فرق تسد) منذ بداية الأستقلال لكننا اليوم لها من المؤيدين المدفوعين بتأييد المجاورين. اننا لم نسمع ان اسودا في غابة هاجمت اسودا اخرى بنفس الغابة،  ونمورا هاجمت نمورا،  وذئابا هاجمت ذئابا من الأخرين، هنا بالمقياس الحضاري ان الحيوان اصبح متفوقاً على الانسان عبر الزمن، ولقد اخبرنا التاريخ ان الانسان هاجم اخيه الانسان منذ الخليقة ولم نعرف لها سبباً، وقصة هابيل وقابيل  وداحس والغبراء مثالا. ولنتسائل مالذي دفع الرومان بحروب الغزو والتدمير،  والعرب بالفتوحات والاغتصاب ونشر الدين بالقوة ودينهم يرفض الجبر والاجبار ان يُفرض على الاخرين (لكم دينكم ولي دين).،  والمغول بالتدمير والقتل والتحقير،  وها ترى جيران الوطن العراقي ساهموا بحرق الكتاب والقلم والمكتبة وهدموا المتحف بالمعاويل . ان الذي دفعهم هو الجهل بحقوق الله والأدميين ونظرية الثأر القديم .

 

من منا لم يقرأ معاهدات الاستسلام في الحروب بين الحلفاء ودول المحور،  ومعاهدات سيفر بين المنتصرين والخاسرين، وسايكس بيكو وسان ريمو(1914-1916) وما فرضته على العرب في التدويل والتقسيم حين أقتطعوا فلسطين، ولا زالوا يطاردوننا في التقسيم،  وكأن الوطن العراقي ما خلق موحدا منذ القدم، كل يريد أقليمه لكنه مادرى انه يعمل على أضعاف نفسه والوطن والدين،  فحتى بعض مثقفينا اصبحوا جبناء وعملاء يلهثون وراء الجاه والمال متناسين رب العالمين وأخلاقية الآدميين، وصدق رسول الله (ص) حين قال: (ان أشر أمتي العلماء أذا فسدوا) .ونسوا ان العراق الموحد سيبقى موحدا الى أبد الآبدين رغم انوف الطامعين.

 

فأذا كان هذا كله يقع بين ايدينا، فأين التقدم ؟  نرجو ان نصحى على زماننا ايها العراقيون فالفيضان قادم وسيغرق كل الزروع،  فالعودة الى الوراء مستحيلة.

 

وفي القرآن الكريم وفي آيات الصور وصفا دقيقا لهذا الموقف الانساني الشائك الذي ينذر بنهاية الجميع في عالم العراقيين والعرب اللاهين بالمال الحرام وهم لا يشعرون،  وان شعروا فهم يستهزؤون،  لكن القرآن الكريم يستهزء بهم غدا ويمدهم في طغيانهم يعمهون،  وهم ينظرون حين يقول: (فأذا نُفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتسائلون، المؤمنون 101)  صدق الله العظيم.

 

في المرحلة الرابعة سنلقي نظرة فاحصة على مسيرة الحضارة الانسانية وخاصة في أوربا لنعرف كيف أثمرالتقدم وكيف سارت الشعوب في معارج المتقدمين .

 

د.عبد الجبار العبيدي

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :200 الخميس 19 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم