صحيفة المثقف

رسالة إلى نفسي

بلغ عدد الرسائل بحدود (300) رسالة توزع أصحابها على معظم الدول العربية، ومن أقطار أوربية، مثلّت عينة من الجنسين وبأعمار مختلفة، وقد بثت الإذاعة والتلفزيون نتائج هذا الاستطلاع عبر برنامج (نقطة حوار).

وفكرة أن يكتب الإنسان رسالة إلى نفسه تعني – نفسيا – الكشف عن الذات والموقف منها سواء في تقديرها واحترامها وتثمين ما قامت به من أعمال، أو في لومها على تقصير وفرص أضاعتها أو تحقيرها على أفعال رذيلة قامت بها. والرضا أو عدم الرضا عن النفس يكشف عن طبيعة شخصية الفرد وتوجهاته المستقبلية، ونوع علاقته بنفسه ما إذا كان في وئام أو خصام معها، وبالآخرين ما إذا كان قريبا منهم أو بعيدا عنهم، وبالحياة ما إذا كان محبا أو كارها لها .

ومع أن العينة صغيرة وليست ممثلة قطعا لمجتمعها إلا أنني وجدت فيها مؤشرات نفسية عن شخصية الإنسان العربي والحياة التي عاشها ويعيشها الآن، وقواسم مشتركة بين العرب مع أنهم يعيشون في أقطار مختلفة .

 

تحليل النتائج ومناقشتها

توزعت الاتجاهات العامة لشخصيات أصحاب الرسائل على ثلاثة أنواع :

1. الشخصية السليمة

2. الشخصية المعتلّة نفسيا

3. الشخصية الضحية

 

وفيما يأتي تحليل لكل نوع منها .

1. الشخصية السليمة

نقصد بالشخصية السليمة أن صاحبها عقلاني، واقعي، موضوعي، وأنه في حالة انسجام مع نفسه، يتمتع بصحة نفسية وبعدد من الصفات الجميلة كالإبداع والرغبة في التغيير، القدرة على الحب، الانفتاح على الأفكار الجديدة، التطلع إلى عالم أكثر حرية وعدالة، احترام الذات، الاهتمام بالنفس والآخرين، وتقدير الجمال في الإنسان والطبيعة .

ولقد وجدت – للأسف – أن نسبة هؤلاء، أعني الذين يتمتعون بشخصية سليمة نفسيا – لم يتجاوز الربع . مثال ذلك، كتب عمر من الأردن رسالة إلى نفسه قائلا :" أتمنى لك حياة سعيدة ومزيدا من التقدم ..تحياتي " . ودعا عيدروس من جده نفسه إلى أن تكون " أكثر فاعلية في تغيير التقاليد الخاطئة في المجتمع ..ولا تخشى أحدا فأنت سائر في الطرق الصحيح ".

وكان الرضا عن النفس على درجات، فالرشيدي من الطائف راض عن نفسه رغم الإخفاقات " ويشوف نفسه أحسن حالا من آخرين ". والواقع أن كثيرين منّا يحمل مفهوما مثاليا عن السعادة، وهؤلاء لن يصلوا لها ولا يستمتعوا بالحياة . فالسعادة الواقعية لها معياران : أن يكون وضعك الحالي أفضل مما كنت عليه، وأن تكون بمستوى أقرانك في الوظيفة أو المهنة أو المكانتين الاجتماعية والاقتصادية .

ومنهم من يفكر بموضوعية ويجعل من نفسه مستشارا لنفسه مثل صالح من غزة الذي كتب إلى نفسه :" الحياة فيها النجاح والفشل .تعلّم ياصالح كيف تعشق وكيف تحب وكيف تكره وكيف تغضب "، وسامي من القاهرة الذي كان مبتعدا عن نفسه وتركها للجهل والفشل وعاد ليعلمها العلم . وآخر لديه الثقة بنفسه :" عزيزي نور . أعلم أن عزمك قاصر عن إدراك تطلعاتك ولكني ما زلت أثق بعقلك وقدرتك . احلم واعمل لتحيا "، فيما كتبت رحاب لنفسها :" كوني أكثر ثقة بنفسك، لا تتركي خيالك يأخذك بعيدا ولا تحاولي إرضاء الجميع، كوني قوية وابتسمي ولا تنسي رحاب ".

وعلى حافات الشخصية السليمة أو قريبا منها من يدرك سلبياته أو أخطاءه ويعمل على تصحيحها . فمن الأشياء اللطيفة ما قاله نورس من فلسطين الذي " وجد نفسه أنه قضى عمره في الجري وراء إقامة العلاقات مع الطالبات ..وأن هذا السلوك كان تافها بعد أن زار الأقصى المبارك في العشرة الأخيرة من رمضان واكتشف أنه كان مقصرا تجاه ربه ".

وعلى غرار ذلك رسائل تكشف لنا عن أمرين :الأول، أن كثيرين من الشباب العرب مهوسون في إقامة العلاقات بالجنس الآخر، أو " ربما " أن العربي بطبيعته لديه هوس بالجنس . والثاني،إن الشخصية العربية : قدرية"، إذ ورد في كثير من الرسائل أن ما يحصل للإنسان هو " مقدّر ومكتوب ..وليس باستطاعته تغيره ..ولن تحصل إلا ما قدر لك ".

ولأننا نهدف من هذه (الدراسة) ليس فقط تحليل نتائج الاستطلاع الذي أجرته هيأة الإذاعة البريطانية إنما أيضا إشاعة الثقافة النفسية، فإننا نشير إلى أن الناس عموما يصنفون إلى صنفين : ذوو المركز الداخلي في السيطرة، الذين يعزون ما يصيبهم من نجاح أو فشل إلى أنفسهم أولا، وذوو المركز الخارجي في السيطرة الذين يعزون إخفاقاتهم ونجاحاتهم إلى قوى خارجية : الله، الحظ، القدر، والآخرين . ويبدو أن هذا هو النمط الشائع في الشخصية العربية . ونشير إلى أن الذي يعزو الفشل إلى نفسه تكون لديه الدافعية على تجاوزه وبذل جهد أكبر لتحقيق النجاح، فيما الذي يعزو فشله إلى قوى خارجية " الحظ والقدر مثلا " يميل إلى الانكفاء على الذات والاعتقاد بأنه غير محظوظ والتسليم بأن قدره هو هذا، الأمر الذي ينتهي به إلى الشعور بالعجز في عالم ليس شريكا في صنعه ..ومضاد له، فينشغل إما بالتكيف لإحداثه أو بالانكفاء على ذاته .

وثمة ملاحظة هي أن التفكير الخرافي يشيع في حالات من القدرية التي وجدت أنها أكثر ورودا في الرسائل المصرية، مما يذكّرنا بتعليق لطيف للمستشرق البريطاني ادوارد ويليام لين يقول فيه :" إن العرب شعب شديد الاعتقاد في الخرافات، وليس بينهم من هم أكثر اعتقادا بها من شعب مصر".

 

2. الشخصية المعتلّة نفسيا

تراوحت مستويات هذا الاعتلال بين الخفيف إلى المرضي، أو ما نعدّه بمصطلحاتنا، اضطرابات نفسية .

وأخف هذه الحالات هي الحنين إلى الماضي الذي يمثل حالة نكوصية، كترديد أحدهم لأغنية المطرب السوداني محمد وردي :" يانسمة ياجايه من الوطن بتقولي أيام زمان ما يرجعن " . والشعور نفسه ورد في رسائل أخرى مما يشير إلى أن الثقافة العربية بشكل عام تؤكد على الماضي أكثر، ثم الحاضر ..فيما المستقبل يكاد لا يرد فيها، وهذا له تأثير سيكولوجي في الإنسان العربي هو التعلّق بالمعلوم والخوف من المجهول .

وكانت هنالك رسائل تحمل أفكارا غير عقلانية كسعي أحدهم لكسب محبة الناس جميعا . والواقع أن العرب تشيع لديهم الأفكار غير العقلانية، فالسعي لكسب رضا كل الناس ، فكرة غير عقلانية، والشخص الذي يفشل ويحكم على نفسه أنه إنسان فاشل، فكرة غير عقلانية .

وما نود أن ننوه له أن الشخص الذي يؤمن بالأفكار اللاعقلانية لا يكون واقعيا، وتسبب له صعوبات في التوافق مع نفسه ومشكلات اجتماعية في التكيف مع الآخرين، الأمر الذي يتطلب في حالات الحاجة إلى برامج إرشادية تعمل على تصحيح هذه الأفكار ..انطلاقا من مبدأ أن تصّرف الإنسان ناجم عن نوعية أفكاره، وليس عن غرائزه كما يرى فرويد، أو المثيرات التي يتعرض لها الفرد كما يرى السلوكيون . وأوضح مثال على ذلك : هتلر الذي كان يؤمن بفكرة تفوق الشعب الألماني على جميع البشر . وفي الحياة العادية، كثيرون منّا يحمل أفكارا غير عقلانية مثل : إذا كذب عليك الصديق مرّة ..لم يعد صديقا، وما ينسب للناس من صفات مطلقة مثل : كل الناس طيبون، ولن تجد بين الناس في هذا الزمان مخلصا ونزيها .

 

وفيما يخص الاضطرابات النفسية فإنها شملت أربعة أنواع،هي :

- الشعور بالاغتراب

- أعراض اكتئاب

- الشعور بالذنب

- وقلق وجودي

ففيما يخص الاغتراب، كان هنالك نوعان لدى أصحاب الرسائل : اغتراب اجتماعي : أي شعور الفرد بأنه غير منتم للمجتمع الذي يعيش فيه، وهم كثر، واغتراب عن الذات، الذي يصل فيه الفرد إلى شعوره بأنه غريب عن نفسه، إذ كتب أحدهم أنه " يعيش وسط الضباب " وكتب آخر " انه تائه " وأكد ثالث أن عدوته الأولى " هي نفسي " .

والخطورة في ذلك أن الشعور بالاغتراب يحدث لصاحبه تناقصا في قدرته على التأثير بمجريات حياته، يوصله في حالات إلى الشعور باليأس والعجز . فقد وجّه أحده رسالة لنفسه اختصرها بكلمتين :" مافيش فايده" التي تعني بأنه لا يمكن إصلاح الحال.

وعلى هامش "الاغتراب" هنالك حالات حملت تناقضا وجدانيا نحو النفس، أي حبها وكرهها في الوقت نفسه، موصف أحدهم لنفسه :" أنت كالنار ..دافئة لكن تحرق، أنت كالماء ..لا يمكن العيش بدونه ولكن يمكن أن نغرق بسببه . لماذا كلما فكرت فيك أحسستك في قلبي، لماذا لا تكوني في أي مكان آخر، لماذا تحبين المجهول والظلام ؟ سلامي أليك . التوقيع : جسدك التائه". فيما تمنى آخر أن يكون بشخصية قوية ولكن " هيهات "إذ يرى نفسه " لا يعقد ولا يحل "ويناشده " ولكنني أشبه باليائس منك".

وفيما يخص أعراض الاكتئاب، فقد تمثلت في الشعور بالعزلة والإحساس بالتعاسة وتفضيل الجلوس في البيت، والأرق، والشعور بالملل الذي يعني أن اليوم مثل أمس وغدا سيكون مثل اليوم، ويكاد يكون هذا هو نمط الحياة لدى معظم العرب .

وتفيد النتائج أن معظم أعراض الاكتئاب ناجمة عن احباطات وتقاليد اجتماعية قاسية، وكانت أكثر وضوحا في رسائل الإناث .

وكات أكثر أعراض الاكتئاب هي : احتقار الذات، كوصف أحدهم لنفسه :" وجودك صدفة بحته فلماذا تحلمين بأهمية وقيمة "، واتهام آخرين لأنفسهم بالتفاهة والجبن .

واللافت أن الكثير من الرسائل حملت اعتذارات للنفس . كتب أحدهم لنفسه :" اعتذر أليك عما فرطت في حقك وقصرت كثيرا ولا أملك حتى أن أعدك بأن أعوضك ".

ان الاعتذار أمر جميل يريح النفس اذا هدف الى تصحيح الخطأ والمصالحة معها، ولكن معظم هذه الاعتذارات حملت الشعور بالذنب، اما على فرصة أضاعها صاحبها، او على رذيلة ارتكبها . ففي الحالة الأولى يقضي الفرد معظم وقته في عض أصبع الندم على ما فاته، متهما نفسه بالغباء والتقصير بحقه . وفي الحالة الثانية " ارتكاب فعل غير اخلاقي " يتحول الشعور بالذنب الى حالة من جلد الذات، اذ يقوم الضمير الاخلاقي بمحاكمة ومعاقبة النفس كل ليلة يضع فيها الفرد رأسه على الوسادة، ولن يشفع له التكفير عن الفاحشة " وقد لا يكون ذنبا أصلا " اذا كان الضمير من النوع الصارم والمتزمت الذي يضخّم الأخطاء وتصعب عليه المرونة والتسامح .

اما القلق الوجودي، ونعني به أن الشخص لم يعد يجد معنى في الحياة التي يعيشها، فقد ورد في عدد من الرسائل تضمنت شكوى أصحابها من نوعية الحياة التي وصفوها ب " الخاوية " و " التافهة ". والخطر في ذلك أن يتحول شعور الفرد بانعدام المعنى من الحياة الى اقتناعه بعدم وجود مبرر للاستمرار فيها .

 

3. الشخصية الضحية

يعتقد أصحاب هذا النوع أنهم ضحايا مجتمعاتهم وأنظمتهم السياسية . فهم يدينون مجتمعاتهم لصفات سلبية أو رذائل لا يمكن أن يتقبلوها أو يتعايشوا معها، فأحدهم كتب لنفسه قائلا :" بما أنك لست منافقا ولا كذابا ولا غشاشا ..أنصحك بمغادرة الوطن ".وكتب آخر من مصر إلى نفسه :" سافر برّه لأن الدكاتره بيكسبو كويس برّه . وشوف أكل عيشك، وبلاش تعمل زعيم، واشتري لمديرك فطار وشيش معاه على القهوه . بس أنا عارف مش هتسمع كلامي لأنك فقري ابن فقري ..ابقى خل المبادئ تنفعك يافالح ".

وتذكّرنا الرسائل الواردة من مصر وبعض الأقطار العربية بتصوير نجيب محفوظ للانسان العربي في مجموعته القصصية " شهر العسل " كيف يعيش مضطرا للخضوع في محاولة يائسة لتجاوز غربته في عالم شديد القسوة، وتعليقه : " إن مصر تأكل بنيها بلا رحمة، ومع هذا يقال إننا شعب راض.. هذا لعمري منتهى البؤس ..لست حاقدا ولكنني حزين ؟.

وهنالك من يلوم نفسه لأنه كان ملتزما بالمثل والقيم، اذ كتبت إحداهن من بغداد تقول :" أهدرت عمرك يانفسي بالمثل والقيم والاجتهاد والإخلاص ؛ ادعوك إلى النفاق والكذب والتملق عندها ستجدين الكل يحبك ويمدحك ... هذا زمن الكذب والرياء الطيبون في زمننا مغفلون وأغبياء.  ومع أنها حالة في التذمر القاسي المشروع في مجتمع تعرض إلى هذه القيم الا إن فيها تعميما خاطئا.

ومثل هذه الحالات إذا ما اشتدت فإنها قد تؤدي إلى الشيزوفرينيا . فأحد المعالجين النفسيين من برطانيا يطرح تفسيرا لطيفا للفصام مفاده ان في الإنسان (ذاتين) واحده اصيلة تقول الحقيقة مهما كان التذمر والاخرى اجتماعية مزيفة تقول مايقوله الناس. ويرى ان كل إنسان يدخل في صراع بين أن يختار ذاته الحقيقية او الذات المزيفة وان الغالبية المطلقة في المجتمع تحل هذا الصراع باختيار الذات المزيفة باستثناء (الفصامي) فأنه يختار ذاته الحقيقية التي تحتم عليه أن يقطع صلته بواقع الاخرين، ويخلق له عالما خاصا به يتمتع فيه بذاته الحقيقية .... وهذا يعني ان المجانين هم العقلاء والاصلاء، فيما نحن المجانين والمزيفون ... لأننا نقبل العيش في واقع مزيف ... ونمارسه ! فيما المجانين يرفضونه.

واوضح الادانات الموجهة الى الانظمة السياسية جاءت في العراق، اذ كتب أحدهم يقول: (كم كنت اتمنى ان تحصل على الدكتوراه في الادب الانكليزي ولا تكتفي بمجرد البكالوريوس .في الثمانينات قالوا لك إن الحرب مستعره مع إيران ويجب ان تحمل السلاح . وفي التسعينات قالوا لك الحصار يتطلب العمل الحر وليس الدراسة.

وفي الالفية الثالثة قالوا لك المحاصصة تجبرنا ان نستبعدك . والآن قالوا إن عمرك تجاوز السن القانوني).

 

. وهذه الرسالة الموجزه والبليغة تصور لنا ما حصل لأكثر من جيل في العراق حروبا وحصارا، ثم طائفية ومحاصصات سياسية، ولدت لديهم شعور الضحية المسلوبة الارادة، التي اضاع عليها النظام عمرها، وسلب حقها في الاستمتاع بحياة حولّها الى جحيم ... مغلّقة النوافذ، فحرمها ،حتى من التفكير بالخلاص فتحصن العراقي بالصمت ربع قرن ثم فتح فاه ونطق بكل ماهو مكبوت كما البركان الذي انفجر فجأة .

تلك هي مؤشرات تحتاج إلى دراسة أعمق واشمل تكشف لنا عن خصائص شخصية العربي والحالة النفسية التي يعيشها.

ونقترح على ادارة اذاعة وتلفزيون (بي.بي.سي) توجيه نفس الاستطلاع الى الاوربيين بهدف اجراء المقارنة بين الشخصيتين العربية والأوربية.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1186 الجمعة 02/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم