صحيفة المثقف

ذكريات من بيت الصحافة (3) العراق وعقدة التاريخ

المعروف ان طوق النجاة يرمى لركاب السفينة الغارقة، أو الموشكين على الغرق، أما الحبل فللغاطسين في الرمال أو الأوحال المتحركة، فأي خيار سيكون الأنسب لنا؟ الجواب عند موروثنا القائل (سم لو خنكَ تردين – روحي استشيرك) ديمقراطية مضبوطة على مقاس أرواحنا ..

لكن، ولما كان العراقيون أصحاب رمال بعد جفاف أنهارهم تلبية للإستراتيجية التركية التي رسمها طيب الذكر توركوت أوزال " برميل نفط مقابل برميل ماء " ولما كان البحر حلمهم الأزلي الذي قاد خطى أجدادهم نحو "نداء البحر" منذ ايام اكد وآشور وبابل، ومنذ أن وطأت أقدام قائد طلاع الجيش الآشوري شواطىء المتوسط، فأرسل الى ملكه المرعب

 (اسرحدون)، أخبار نصره المؤزر على الجيوش الاسرائيلية والمصرية التي اندحرت امامه طالبة النجاة "نحن على شواطىء بليستا".

وأسرحدون هو ذاته الذي ملأ قلوب المصريين بالحقد وملوكهم بالعار بعد ان سحق ممفيس عاصمتهم (الجبارة)، مكتسحاً في طريقه كل ملوك التمرد في سوريا وكنعان ولبنان، بعد أن أخضع ملوك الشرق والشمال – وهم اليوم جيراننا قاطعي ماءنا واللاعبين بخلقتنا - .

 كان ذلك القائد العراقي قد وصل الشريط الساحلي على البحر المتوسط الذي نزلته قبائل (بليستا) وهم جماعات من القراصنة الصيادين القادمين من جزيرة كريت، وفي التسميات اللاحقة عرفت مدنه بعكا ويافا وحيفا و-- غزة، التي تظاهر سكانها دعماً لصدام وأقيمت فيها سرادق العزاء

 لـ(شهيد الأمة) الزرقاوي .

ماهذه الثرثرة عن التاريخ ؟ وماذا ينفع ذلك في قضيتنا الراهنة ؟

في العادة لاينفعنا بشيء لو لا أن عقدة التاريخ مازالت تلقي بأحمالها على كواهلنا، وقد تفسر بعض مواقف العرب تجاهنا .

فقبل أشهر، وكما صرخ "أرخميدس" - وجدتها وجدتها - وهو يكتشف قانون الثقل النوعي، صرخ زاهي حواس مدير عام الآثار المصرية، بعد ان قرأ خبراً عن اكتشاف تمثال للفرعون الشاب توت عنخ آمون .

التمثال من الحجم الصغير الذي لايزيد طوله عن عشرين سنتيمتراً - من النوع الذي يجلبه الزائرون كتذكار عن زيارتهم الى بلد ما، كما هو شائع عبر العصور - حصل ذلك في موقع أثري شمال العراق، وقد أثارت تصريحات حواس موجة من السخرية لدى المؤرخين والمتخصصين باعتبإرها تعبيراً عن ضيق أفق وعقدة نفسية لاعلاقة لها بعلم التاريخ وأحداثه .

مصدر الفرحة "الحواسية " العارمة، اعتقاده بأن وجود ذلك التمثال، يشير الى حصول غزو مصري للعراق، بل وسيطرة كاملة أستمرت زمناُ طويلاً- كما ركبّها خياله- وهو ما لم يطرح يوماً من قبل أي مؤرخ حتى في باب الأحتمال البعيد.

 لقد أثبتت وقائع التاريخ بمئات الأدلة والشواهد، ان الجيوش الفرعونية هزمت بشكل ساحق أمام سنحاريب ومن ثم ولده أسرحدون، ودمرت عاصمتهم ممفيس، و كما جاء في وثيقة قديمة (عندما حشد الآشوريون جنودهم عند أبواب مدينة اورشليم, كان قائد المدينة المحاصر يأمل في أن يهرع حلفاؤه المصريون لنجدته. فكتب له الآشوريون رداً بليغاً تم تخليده في كتاب العهد القديم المسمى كتاب الملكين بالقول "لقد وضعتم ثقتكم في رجال قصبة مصر المرضوضة التي ما إتكأ عليها رجل إلا وذابت بين يديه وكسرها ".

العزاء الوحيد للمصريين، تمثل في هروب أحد ابناء الفرعون ونجاته من يد الجيوش الآشورية المنتصرة،أما المحاولات الفرعونية الأخيرة لمواجهة الجيوش العراقية، فقد كان آخرها تلك التي قام بها الفرعون (خفرا) في تحريضه ملك اليهو د "ايهودا قين" لإعلان التمرد على نبوخذ نصر، فكانت المعركة الفاصلة قرب ربلة من قرى حمص السورية، حيث تمزقت جيوش (خفرا) وسبي اليهود الى بابل كما في الموروث الشهير، وقد جسد نبوخذ نصر تلك المعركة بتمثال أسد بابل الذي يمثل الجيوش الفرعونية على شكل أنثى تضطجع تحت الأسد البابلي .

لم ينقطع الحديث عن (عقدة التاريخ ) عند المصريين الى عهد قريب، فطالما حدثت مصادمات يفتعلها بعض مثقفي مصر حينما يزورهم عراقيون، فقد خاطب طه حسين الصافي النجفي في جلسة ضمتهما في القاهرة : مالكم ايها العراقيين ؟ لقد قرأت تاريخكم كله، فوجدته زاخراً بالتمرد والفتن، فرد الصافي : ومالكم ايها المصريين ؟ فقد قرأت تاريخ مصر كله، فوجدته ممتلئاً بالذل والخنوع، أما الجواهري، فلم يتوان عن اطلاق قصيدته الشهيرة : (ما انفك يا مصر والإذلال تعويد --- يسوقك الخسف كافور واخشيد) بعدما نفث بعض المصريين عقدهم في وجهه

وعلى كل تلك المتراكمات عبر تاريخ طويل .

 لا يلام "زاهي حواس" حينما يحاول اختلاق متنفس ينفخ من خلاله بعض انفاس تلك العقدة، ثم يكملها غيره بأنفاس الإرهابيين وصراخ الإعلاميين لتضاف الى فتاوى التكفير.

ثم ألم ينصحنا أحد (المفكرين) جداً، بالاكفتاء بقراءة التاريخ اذا كان لابد من القراءة، وان كان يرى أن الأفضل لنا لو تركنا القراءة جانباً واكتفينا بالامساك بالعقيدة حسبما يقول (لافض فوه)، ففيها كل العلوم الممكنة خاصة ما يكتبه لنا ذلك (المتفكر- من تفكر) الذي صدف ان لقبه مشتق من التاريخ "الشابندر" أي كبير التجار أو ملكهم .

انتهى المشهد عند هذه اللقطة، فعادت كاميرا الذاكرة من رحلة ( الفلاش باك ) لتدخل الى زمن لايتجاوز الأشهر الثلاثة قبل سقوط النظام (الطرزاني) أي في الأطلالة الأولى للعام 2003.

رن الرنان فرفعته، واذا المتحدث في الطرف الآخر من (الشقيقة ) سوريا – والشقيقة هي ايضا الصداع النصفي الأكثر ازعاجاً حتى من الصداع الكامل - .

 كان الصديق المتصل – وهو أحد الإدباء العراقيين جميلي الإبداع - يطلب أن أعدّ له عملاً إذاعياَ لايتجاوز 150 دقيقة شهرياً لصالح اذاعة صوت المستقبل التي تبثّ يومها من الأردن، وهي كما فهمت، تابعة لجماعة اياد علاوي بشحمه ولحمه (حركة الوفاق -– - الخ)، وكان المطلوب اذاعيا لايتعدى التبشير بقرب سقوط نظام الدكتاتورية، وذلك بإجراء بعض المقابلات واستمزاج آراء بعض العراقيين واللبنانيين، وهكذا كان .

 لكني لم اقبض الأجور التي اتفقنا عليها سوى في شهرين فقط، أما الثالث فقد تم ابتلاعه، وراح مع الريح بين ستار الباير ونوري البدران وزير الداخلية بعد السقوط – على ذمة الباير نفسه - فإستعضت الله في ضياع المبلغ الذي من شأنه أن يسند جداري شهراً كاملاً – كان المبلغ ثمانية أوراق مزينة بصلعة فرانكلين وتسريحته الخنافس - .

بعد سنتين تقريبا- – قبيل الانتخابات النيابية العراقية - رن الرنان مرة أخرى، وكان المتحدث الدكتور صباح علاوي الأخ الأكبر للدكتور أياد علاوي، وبعد السلام وما يتبعه، دعاني ( لتشريفه ) في مكتبه، وبعد دقائق كانت سيارة فخمة تقف امام بيتي في الضاحية الجنوبية لبيروت، لتأخذني الى منطقة الجناح الراقية ومكتب الدكتور الصباح .

كان السائق سورياً، لفت ذلك انتباهي وان سريعا، ثم تحول الإنتباه الى تعجب حينما رأيت ان جميع موظفي المكتب – وهم كثر – كانوا من بلاد

(الاشقاء) و لاوجود لعراقي واحد بينهم، رغم ان لبنان يعجّ بالعراقيين الباحثين عن فرصة عمل .

كان الطلب بسيطا، المساهمة في وضع خطة إعلامية انتخابية للحركة العلاوية، فذكرت المبلغ المأكول من باب الطرفة والتعليق، لكني فوجئت بأن ذلك مبلغ التائه وجد طريقه الى يدي وجيبي في لمح البصر بعد ان أمر الدكتور صباح سكرتيرته اللبنانية التي (تهيل وتميل -- أن اقبلت قتلت وإن ادبرت فتنت) على حد قول الشاعر- لا اعرف من – بجلب المطلوب فجلب فوراً.

أسابيع عديدة وانا الضيف الذي يصعب فراقه – صديق الروح والوجدان - ، إتصلات رنانة، وسيارة تحضر لتوصيلي وإعادتي، نشرات يومية ترسل الى بيتي ووو، الى ان انتهت الانتخابات وصاح الديك على شهرزاد , فأنقطع كل شيء فجأة كما بدأ فجأة .

كان هذا الخيبة الأولى والمسؤول الأول الذي غسلت يدي منه، لم أكن أنتظر شيئاً شخصياً – لا يومها ولا اليوم - انما ظننت أننا دخلنا زمناً آخر، القادة فيه صادقون وكلامهم دستورهم، لكني رددت قول الحجية المأثور

 (أخوي الجبير أيست منه – وبعدلي بابو شّلال ظّنه – أي أمل) وكتبت قصيدة جاء فيها :

ثم ماذا ؟

ما الذي تبحث عنه، بين أكوام الفصول المستعاره ؟

جلّ ما تبصق أفواه المساء

بعض صبح شاحب

مثقل بالصمت يجترّ انكساره

دعك منه – دعك مني

هكذا قد كنت دوماً

طائراً يغسل في النار احتضاره

أي ضير

أن نرى في كل صيفاً – ساحراً

يخرج الأزهار من جيب الحجاره

ذلك الصيف المرائي

كم يمنيّ

راهناً يرخي على الآتي ستاره

دعك منه – دعك مني

وتجول كنجيم في اقاصي الحلم

لايخفي مداره .

 

ولكي لا افقد مدار الحلم، قلت لنفسي: لابد ان هناك أبا شّلال، ربما يكون أفضل، لكن مفاجأة أخرى من العيار الثقيل كانت بإنتظاري وكانت هذه المرة من داخل العراق ---- يتبع

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1186 الجمعة 02/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم