صحيفة المثقف

(بسمارك*) المالكي ومسمار الهاشمي وخشب العراق / علي السعدي

وكانت المنظومة العربية  متفرغة بكامل عدتها لإسقاط التجربة العراقية .

مشعان الجبوري الذي كان قد حصل على مقعد نيابي وكلفّ بتجنيد أعداد من حرّاس المنشآت النفطية على مايفترض، تبين لاحقاً ان قدمّ اسماءاً معظمها وهمية واستولى على أموال طائلة افتتح بها فضائية كانت تعلّم الإرهابيين دروساً في صنع العبوات الناسفة.

لكن ورغم زخم الإرهاب آنذاك ومقدار الدعم الكبير الذي كان يتلقاه، يبدو ان مشعان أدرك صعوبة إسقاط الديمقراطية التي بدأت ترسخ أقدامها،فكان تصريحه أعلاه، يؤكد بما لا يقبل الشكّ، ان المسألة تكمن في ( لن نتركهم يهنأوا) لكن ما لم يقله مشعان ان المقصود بذلك كان العراقيون جميعاً وليس المالكي وجماعته وحسب، بدلالة ما حصل ويحصل، بعد ان تحول القول المذكور، إلى نهج مازال يسيطر على بعض السياسيين رغم مانالوه من مناصب عالية في الدولة الجديدة .

(العراقية ) تلك القائمة التي حشد لها (أرمادا) هائلة  من الدعم عربياً وإقليمياً ودولياً، ومع ذلك لم تحصل سوى على فارق ضئيل من المقاعد عن أقرب منافسيها، أريد لها ان تكون حلاّ لمشكلات العراق على مايراه الداعمون، ومساهمة في حلّ ماسوف يأتي من أحداث متوقعة في بلدان مجاورة – خاصة سوريا – لكن بعد مناورات وعضّ أصابع تخللها دماء كثيرة وعمليات عنف بقيت بمعظمها مجهولة الفاعلين، اكتفت ( العراقية ) بما أخذته، او هكذا ماظهرت عليه الأمور، لكن أقطاب القائمة الخمسة ( علاوي – النجيفي – العيساوي – الهاشمي - المطلك) نالوا حصصاً غير متساوية، فقد حصل اثنان منهم على ما ظهر انه يرضيه ( النجيفي والعيساوي ) فيما أعطى المطلك منصب نائب رئيس الوزراء لشؤون الخدمات، بعد إزالة قرار استبعاده السياسي نتجة لماقدمه من تعهد خطي بعدم الترويج لحزب البعث .

أما الهاشمي فقد حصل على جائزة ترضية ليس الا، علاوي وحده بقي خارج دائرة القرار بعد انتكاسة مشروع مجلس السياسات الإستراتيجية الذي أريد له ان يكون معادلاً لرئاسة الوزراء .

من بين أولئك الخمسة,كان طارق الهاشمي الأكثر صخباً وإشكالية – وطموحاً كذلك –

 ففي أواخر عام 2008 وبداية عام 2009، تسربت مؤشرات على ان حسابات نائب الرئيس آنذاك طارق الهاشمي، تذهب الى ان الحزب الإسلامي سوف يضيق بطموحات الرجل، كما ان الأنظمة العربية المجاورة ـ سوريا، السعودية، الأردن، الكويت، الإمارت، إضافة إلى تركيا ـ  تبحث عن الهاشمي في مجال آخر يدخل من خلاله بقوّة الى البرلمان القادم مسلّحاً بكتلة كبيرة تستطيع القول بأنها تمثّل الجزء الأكبر من السّنة العرب ـ بل وبعض الشيعة كذلك ـ.

كان الهاشمي عضواً في رئاسة ثلاثية يتمتع فيها بالصلاحيات ذاتها للرئيس، وقد استثمر ذلك في العديد من المهام منها تعطيله موعد الانتخابات لمدة شهرين كاملين (من  7كانون الثاني،الى 7 آذار) كي يتسنى للقوى الداعمة استكمال حشدها خلف قائمته، أما الأكثر إثارة للانتباه في سلوكيات الرجل، فهي نشاطاته المتزايدة في إطلاق سراح العشرات من المتهمين بالإرهاب،حيث عاد معظمهم إلى ممارسات الإرهاب بشكل اعنف من سابقه .

الحسابات لديه كانت مذهلة في تبسيطها : إن نجح علاوي في تسلم رئاسة الوزراء، يسيطر الهاشمي على جزء معتبر من قرار الدولة بصيغة أو بأخرى، وإن عُرقلت الأمور أمام علاوي، فالهاشمي هو الأوفر حظاً في رئاسة الجمهورية، عندها سيكون ندّاً قوياً للمالكي وسيجتذب صلاحيات للرئاسة يفرضها عرفاً ان لم تتوفر في الدستور، استناداً الى مايمثله من قوى داخلية ومايلقاه من دعم خارجي مؤثر،لكن التطورات اللاحقة، أظهرت انه بالغ في تقدير حجم موقعه، كما انه لم يدرك حقيقة موازين القوى الداخلية وطبيعة تفاعلاتها .

 العملية الديمقراطية في العراق، كانت قد تجاوزت مرحلة الخطر فعلياً، منذ النصف الثاني من العام 2007، ولم تعد هناك من قوى قادرة على تغيير مسارها العام، لقد شهد العامان 2005 / 2006 ذروة العنف بكامل زخمه العملياتي واللوجستي مع احتفاظه بمساحات واسعة من الأرض وحاضنة اجتماعية كبيرة مسنودة بسلسلة من الأنظمة وضعت ثقلها كله في خدمة هدفين متداخلين:إسقاط الديمقراطية أو محاصرتها لمنعها من الإمتداد من جهة،ومنع الخصم الطائفي من الإستيلاء على بلد بحجم العراق من جهة أخرى، لكن ذلك لم يجد نفعاً، فأجريت في المقابل عمليتا انتخاب وعملية تصويت على إقرار الدستور الدائم انبثقت منها حكومة المالكي الأولى، ثم تبين لاحقاً ان الرجل – المالكي - يحكم بأكثر مما يمكن تحمّله .

ميكافيللي يعود حيّاً والغاية تبرر الوسيلة، هكذا تبنى الدول،لذا لابد من عمل يضع الأمور في نصابها،وهناك في أعرق الديمقراطيات واكثرها رسوخاً،وقعت أحداث بقيت طي الكتمان، فقد اغتيل واحد من أعظم رؤساء أمريكا في العصر الحديث (جون كندي) وعلى رغم استقلالية القضاء الأمريكي ونزاهته وقوته، الا ان المحرّض على الجريمة والمخطط لها، بقي مجهولاً .

وفي إيطاليا، خطف رئيس وزرائها (ألدمورو) وقتل من قبل مجموعة مسلحة سميت بالألوية الحمراء،فأكتفى القضاء الايطالي يومها بإدانة الفاعلين من دون ان يكشف احد الجهات التي تقف وراءهم،وكان أولئك أشبه بالقاعدة اليوم، يكفي ان تلصق أية جريمة بالقاعدة،وان كان مرتكبوها من داخل الدولة وباستخدام أجهزتها وتسهيلاتها .

لم يدرك المراهنون على العنف جملة من المتغيرات كانت ظاهرة للعيان، أولها ان الدعم الإقليمي فقد الكثير من زخمه،خاصة بعد الربيع العربي الذي جعل الاهتمام يتوزع في أمكنة أخرى،وبالتالي فلا مجال لانتظار النصرة، اما داخلياً، فالشعب العراقي لم يعد في مزاج يسمح للخطاب التعبوي أو التحريضي أن يجد صدى كما كان عليه في سنوات مضت، ولو كان احد مكان الهاشمي، لاستغل موقعه كنائب للرئيس، وكثفّ من حركته داخلياً وخارجياً مما يخدم العراق، ومن شأن ذلك ان يجعله رئيساً فعلياً بدلاً للطالباني بحركته الثقيلة ومحدودية دوره،خاصة إذا استثمر الهاشمي علاقاته العربية والإقليمية بشكل جيد، عندها بإمكانه ان يكون رجل العراق في السعودية ودول الخليج وتركيا وغيرها، بدل ان يكون (رجل) تلك الدول في العراق كما يؤخذ عليه .

الأمر الأهم من ذلك كلّه، ان تلك اللحظة الذهبية أعادت للمالكي مواقع مما فقده من شعبيته – وإن مؤقتاً -  وصرفت الانظار عن فشل حكومته في تقديم ما وعد به من خدمات والقضاء على الفساد ومحاسبة المقصرين، لذا كان ينبغي ان يسلك طرقاً أخرى يحافظ فيها على مركزه الأول في العراق،فكان الإصرار على الانسحاب الأمريكي وتحقيق السيادة، أمر في غاية الأهمية، فقد أبطل فيه مزايدات حلفائه السياسيين وحجج الفصائل المسلحة بإدعائها المقاومة، كما اسكت الدول الإقليمية بعد إغلاق هذه الثغرة مما يؤخذ عليه ( الاحتلال ). 

كانت الانعطافة المهمة في حياة المالكي،هي في التجديد للطالباني كرئيس للبلاد، فالأخير لكبر سنه وانشغاله بترتيب أمور حزبه واهتمامه بالإقليم وما يجري فيه من صراعات ومحدودية علاقاته الخارجية وبالتالي خروجه من موقع المراهنات الإقليمية والدولية، سيخفف بنسبة كبيرة من إمكانية تدخله الفاعل في إدارة الحكم،أو وضع نفسه في مقابل للمالكي، قياساً بما كان سيفعله الهاشمي لو كان رئيساً . 

وهكذا تراكمت المعطيات التي أوصلت الى لحظة مكثفة لن تمرّ بالمالكي مثلها   وقد لا تمرّ مستقبلاً، لذا ينبغي شحنها بأقصى مايمكن من الإستثمار السياسي، واهمها التخلص من الخصوم الذين طالما اقلقوا مضجعه وحاولوا قلب الأوضاع عليه، لذا حاول التخلّص من الهاشمي بضربة قوية، فيما يتخلّص من المطلك بضربة جانبية، وأنذر الآخرين بمصير مشابه .

من حسن حظّ المالكي، ان خصومه ليسوا على قدر من البراعة السياسية، لذا يقعون في وهم الحسابات الخاطئة، مايسهل عليه النيل منهم،فقد حيدّ أولاً الخصم الأقوى ( أياد علاوي ) بسلسلة من المناورات السياسية التي تتابعت نتائجها في إفلاس الأخير سياسياً وانفضاض حلفائه واحداً تلو الآخر بما فيهم أفراد من كتلته، وقد ذهب ماخطط له علاوي وماحصل عليه من دعم أسطوري، أدراج الرياح .

اما النجيفي، فقد تم إرضاءه بمنصب معتبر، وبالتالي تحييده وإن شاكس أحياناً، فيما انهمك العيساوي بوزارة المالية مبعداً نفسه عن حلبه الصراع المباشر،أما المطلك، فقد بدا راضياً – وان على مضض – بما حصل عليه - قبل أن يعلن مواقفه الأخيرة-    .

الهاشمي وحده، بقي يلوب بعد ان رأى نفسه يحشر في منصب لايليق به كما يتصور، وبدل إلى يسلك طرقاً أخرى كانت متوفرة أمامه – كما أسلفنا – لجأ إلى الخيار الأكثر مغامرة وخطورة مراهناً على بقاء تلك الأفعال على سرّيتها، فإذا انكشفت، تدخل في مجال الضغوط والمساومات السياسية، أما إذا بقيت هكذا، فستجعل الخصوم (لن يهنأوا بالسلطة ) . 

لكن ذلك يمثل جانباً من الصورة ليس الا، إذ قد يكون الهاشمي بريئاً مما نسب إليه، وبالتالي فاعترافات أفراد حمايته، قد تكون هدفت الى تخليص أنفسهم  بتوسيع دائرة الإهتمام كي تدخل في مجال المساومة كذلك، ما قد يجنبهم العقوبات القصوى، أسوة بآخرين ممن ألقي القبض عليهم في قضايا مشابهة.

أيّ تكن المحتملات،وسواء كانت قضية الهاشمي بمحض المصادفة، أم خطط لها مسبقاً، أو توريطاً من المتهمين ذاتهم، فقد جاءت بمثابة ضربة متقنة للتخلص من خصم مزعج وإشكالي بذاته،فالتهمة من النوع الذي لايترك الكثير من مجالات الردّ،وقد كانت لحظة ملائمة تماماً، رافقت ذروة المباهاة في تحقيق السيادة، فلو تقدمت قضية الهاشمي أو تأخرت، لما حققت النتائج المرّجوة، كما أنها وجّهت مجموعة من الضربات، أهمها الى السعودية ودول الخليج، التي وقفت الى جانب الكويت في قضية خانقة ومصيرية للعراق ( ميناء مبارك)، فكيف يعقل ان يبقى في مركز القرار العراقي من يتبنى مواقف المحور المناهض ويدافع عنه بما فيه العمل على تقويض وإضعاف مسيرة العراق بكل الوسائل ؟

ذلك منعطف في الزمن كما في الأدوات، وأيّا تكن أمتداداته الداخلية والإقليمية، فلن تبلغ أكثر مما بلغته في مراحل سابقة،لذا فالقطاف مضمون تقريباً،وكيفما آلت إليه قضية الهاشمي، التي مازلت قيد احتمال ان يحدث فيها كما فعل القيصر مع دستويفسكي، حينما أوصله القضاء الى لحظة تنفيذ حكم الإعدام،ولكنه لم يعدم لأن القيصر أراد تلقينه ومن معه درسا بليغاً، اما الهاشمي , فقد يكون درساً بليغاً بدوره، ذلك ما أكدّه الإنذار الذي وجهه المالكي في مؤتمره الصحفي، بإشارته انه يملك ملفات لاتقلّ خطراً عن قضية الهاشمي، وبالتالي أبقى المبادرة في يده وبات يمسك بأوراق اللعبة – أقلّه في المرحلة الراهنة – لكن الاندفاع في نشوة النصر، قد يكون سلاحاً يجرح في الاتجاهين، وهو ماينبغي تجنبه بالمزيد من الحذر (2) كي لايبقى العراق خشباً يدقّ البعض مساميره فيه،فيما يحاول البعض ان يكون ( بسمارك) حديدي، يطوق حريته . 

*: المستشار الألماني للرايخ الثاني الذي لقب بالرجل الحديدي .

(1) للمزيد: راجع كتاب ( صراع الأمة والدولة في العراق الجديد – استراتيجية المطرقة والجدار - علاوي (تشالنجر ) الانتخابات النيابية ) ص.146

(2) في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد صدور مذكرة القبض على الهاشمي، ارتكب المالكي خطئين واضحين :الإشارة الى امتلاكه ملفات قديمة ضد الهاشمي، ماقد يعطي للقضية بعداً آخر في انها قد تكون مبيتة، ثم إعلانه بأن لديه ملفات أمنية ضد آخرين، ماقد يهزّ صدقيته بالقول انه يحافظ على دماء العراقيين ويحترم استقلالية القضاء، حيث ظهرت المسألة بمثابة ابتزاز سياسي يعلنه عند الضرورة وحسب .

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2015الاحد 29 / 01 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم