صحيفة المثقف

الجوهرة الفريده .. طليطلة / كاظم شمهود

فمنهم من يقول ان طليطلة تعني – فرح ساكنيها – وذلك لعظمتها من ناحية كونها تقع في موقع حصين ومنيع فهي تقع على قمة جبل ويدور حولها نهر التاجة العميق من جميع الجهات ما عدا الجهة الشمالية ،  ومنهم من يقول ان اسمها يعني (أم الشعوب) ومنهم من يقول انها تعني (الجوهرة الفريدة) .

ولكن بعض المصادر الاسبانية تؤكد بأن المدينة كانت –Cartigenesa – بمعنى ان اول من سكنها وأنشأها هم الفينيقيون . اما المصادر العربية فتذكر  بأن الفينيقيين قد استقروا في السواحل الجنوبية والشرقية من شبه الجزيرة في حوال القرن الخامس عشر قبل الميلاد (و يعنى ذلك  قبل الاغريق والرومان)  وانشأوا فيها مدنا كثيرة مثل ملقا وقاديش وقرطبة واشبيلية وغيرها . وانهم هم الذين اطلقوا كلمة الاندلس على شبه الجزيرة . كما ان فينيقي تونس استوطنوا السواحل الشرقية لشبه الجزيرة وأسسوا مدناً ومرافئ للسفن التجارية ومنها مدينة قرطاجة – Cartagena- ويوجد اليوم اثار لطريق يدعى طريق هانيبال (هاني بعل) يبدأ من الجنوب و يخترق مدينة البسيط متجهاً نحو الشمال . .

وفي هذا الصدد نذكر حادثة طريفة ملخصها هي ان احد العوائل العراقية المسيحية  ايام الحصار الظالم على العراق  طلبت اللجوء من السلطات الاسبانية فرفضوا ذلك ... فذهبنا لمساعدتها و قمنا بالواجب غير متفضلين، و عندما تحدثنا مع  العائلة صرخت ربة العائلة  قائلة (كيف لا يمنحوننا اللجوء  وان اسبانيا ايام زمان كانت تابعة للعراق ....) . في اول الامر استغربنا وابتسمنا لهذا القول ولكن  بقت تلك الجملة محفورة في ذاكرتي عدة  سنوات و لم اجد لها جوابا .  و في يوم من الايام كنت اطالع احد الكتب التاريخية الاسبانية، فوجدت ان هناك احد المؤرخين يذكر ان فرقة عسكرية قادمة من الشرق في زمن الملك البابلي نبوخذ نصر فخيمت و عسكرت قرب نهرالتاجة و يعتقد انها هي التي كانت السبب في انشاء مدينة طليطلة،  وبالتالي فقد كانت تابعة للنفوذ البابلي  في ذلك الوقت. ...

وفي زمن العرب كان امير طليطلة المأمون بن ذي النون (467هـ - 1057م) يعتبر من اعظم ملوك الطوائف واطولهم عهداً حيث حكم 33 سنة وامتدت رقعة مملكته في طليطلة  الى حدود بلنسية (Valencia) وازدهرت طليطلة في زمنه وعمها الرخاء وبنى لعاصمته قصوراً اشتهرت في ذلك العصر بروعتها وفخامتها ..  وقد ذكر المؤرخون  عن حفلات المأمون الباذخة ما يثير الاعجاب والتسائل وكان من قصوره الشهيرة (المكرم) كان آية من الروعة والبهاء وقد صرف عليه اموالاً طائلة . وقد صنع بحيرتين وصفها المؤرخون بأنها لا مثيل لها وعليها صور الاسود والحيوانات المختلفة والتي ينساب من افواهها الماء .

كما بنى المأمون (المنية) الشهيرة وهي مجموعة من القصور الضخمة والبساتين الغناءة وسورها وحصنها وجعلها قريبة من منحنى نهر التاجة وجعل منها جنة يخلد اليها ايام أنسه ولهوه وهي التي تعرفها الرواية القشتالية اليوم  ببستان الملك (Huerta del Rey) .

ويذكر بأن طليطلة كانت محاطة بالبساتين والانهار والينابيع وقنطرتها من عجائب الدنيا وهي قائمة على قوس واحد والماء يمر من تحتها بعنف وشدة . وقد اشتهرت طليطلة  بالزعفران وكان من اجود الانواع ويصدر الى جميع الاقطار كما اشتهرت بزراعة الحنطة وجودتها وانها لا تسوس على مر السنين . كما اشتهرت بالنحاس والحديد .

ويذكر بانه كان على مقربة من طليطلة قرية جبلها وترابها يعمل منها الطين المأكول وانه ليس له مثيل وان اكله طيب واحياناً يستخدم لغسل الشعر . وتصدر هذه الانواع من الحجر والطين الى بلاد المشرق يومذاك .

وحافضت طليطلة بسمعتها في صناعة الاسلحة والالات القاطعة كما عرفت بصناعة الاقمشة الحريرية وكذلك اشتهرت بصناعة الحلوة الاندلسية المعروفة- الماثابان (Mazapan) ومعروف ان العرب ادخلوا معهم الى اسبانيا صناعة انواع كثيرة من الحلويات لازالت تقاليدها مستمرة مع بعض الاضافات الجديدة واللمسات الفنية التي تزيدها لذة وطعماً غنياً . وتكثر عادة صناعة – الماثابان – في الاعياد والحفلات الدينية .

والزائر الى طليطلة اليوم يجد آثار التقاليد الصناعية تباع في اسواقها منها التحف الفنية العجيبة والمصنوعة صناعة دقيقة خاصة مقابض السيوف التي نشاهدها مزينة بالعاج والاحجار الكريمة . . واشتهرت طليطلة في الصناعات الحرفية منها حرفة التطعيم سواء كان بالذهب او الفضة او الرصاص او غيرها ويسمى- الدمشقي- damasquinado - وقد جلبها العرب  الى اسبانيا واصبحت تزين بها السيوف والخناجر والدروع واشكال التحفيات والمواد التزينية .

كما اشتهرت بصناعة احواض الحمامات ذات الالوان الخضراء والزرقاء الفريدة في نوعيتها وايضاً اشتهرت بصناعة الخزف .

وفي كتاب (رحلة الوزير في افتكاك الاسير) وهو الكتاب الذي ألف بعد رحلة الوزير امين عبد الوهاب سفير ملك المغرب الى طليطلة سنة 1691 أي بعد حوالي ثمانين سنة من طرد المسلمين من اسبانيا . وفي هذا الكتاب يقدم لنا وصفاً دقيقاً لطليطلة وكنيستها الكبيرة .

فيذكر بأن المدينة لا زالت على عمارتها الاسلامية حيث الازقة الضيقة جداً والكتابات العربية والنقوش تشاهد على الجدران . والبنايات المتقاربة والشوارع المنحدرة وتلك الشرفات الشرقية الجميلة التي يطل بعضها على بعض .

كما يصف المسجد الذي حول الى كنيسة ويعني بذلك الكاتدرائية الكبيرة التي لازالت قائمة فيذكر بان النصارى احدثوا فيه توسع ووضعوا فيه الصلبان والصور وآلة موسيقية للانشاد والتراتيل الدينية كما احدثوا فيه عدة بيوت او مصلات مليئة بانواع التحف الفنية من الذهب والاحجار الكريمة التي لا توصف بروعتها .

كما زار طليطلة الرحالة الغزال الفاسي سنة 1765 وافاض في وصفها فذكر الكنيسة الكبيرة وما تحويه من الذخائر الجليلة ويصفها بانها (الجامع) ويقول بانه من اعظم المساجد وله طراز خاص وبناءه من الرخام وفي وسطه قبة عظيمة ونصبت تحته كنيسة زينت جدرانها بانواع الصور والرسوم وعلقت عليها الصلبان . وفيها ذخائر ثمينة وعجيبة .

والملاحظ ان الوزير امين عبد الوهاب والعالم الغزال الفاسي عندما يتحدثان عن الكاتدرائية فأنهما يصفانها بالمسجد او الجامع الكبير فيزيلان الكنيسة ذهنياً ويستحضران المسجد الذي هدم وبنيت عليه بعد ذلك الكنيسة وهو من اغرب الخيال والوصف وكأنهما لا يصدقان بما حدث من الصدمة ويكذبان ما تراه العين مما يدل على قوة البصيرة وعمق الايمان .

وعندما يذكران المسجد او الجامع وكأنه عبارة عن محاولة منهما لتهدئة الاعصاب نتيجة للشعور بثقل المأساة والفاجعة التي حصلت بالمسلمين وتراثهم في هذه المدينة . و عندما سقطت طليطلة سنة 1085 على يد الفونسو السادس كان المسيحيون قلة والمسلمون يشكلون الغالبية العظمى في المدينة واول عمل قام به هو تحويل المسجد الكبير الى كنيسة وقد اشرف على ذلك القس الفرنسي برناردو – Bernardo- .

وعندما دخل الموحدون اسبانيا كانوا قد حاولوا استرجاع طليطلة فلم يستطيعوا ولكن كان لهم اثر كبير في فنون العمارة خاصة على طليطلة وذلك عن طريق المسلمين الذين بقوا في هذه المدينة ثم انتشر اسلوبهم في كل مكان.

وكان العرب يستعملون الطابوق (الآجر) في البناء وبعض الاحيان يضعون في الاساس الحجر واحياناً يكون هناك تناوب في الصفوف بمعنى مرة صف طابوق واخر صف من الحجر . و معروف ان صناعة الطابوق ظهرت في بلاد الرافدين و انتقلت من المشرق الى اوربا عن طريق عرب الاندلس . وان الاوربيين لم يعرفوا صناعته قبل هذا التاريخ .

واستخدم هذا الاسلوب في مسجد (باب المردوم) في طليطلة ثم انتشر في قشتالة و اقبل  المعماريون على استعماله وذلك لكونه اقتصادياً وانه يجعل الجدران متحدة ومتينة يصعب تخلخلها . وهكذا استخدم الطابوق والحجر في جميع عناصر البناء . فكانت هذه الاعمدة المربعة المبنية من الحجر تحمل عليها اقواس من الطابوق وكذلك الافاريز التي تعلو الاقواس والقبوات واحياناً توضع في الجزء الاعلى من البناء واحياناً نراها موضوعة على شكل افريز يأخذ شكل منشار  بدرجة (45)  بارزعلى الجدار.  واليوم يطلق عليه في اسبانيا اسم - الطابوق العربي -

 

وطليطلة اليوم مدينة  جميلة لازالت تحتفظ بدروبها الضيقة والمنحدرة ومنازلها الصخرية العتيقة ولا زالت تحتفظ بأجزاء من اسوارها وابراجها وابوابها القديمة وقناطرها وما زالت طليطلة يشم من خلالها رائحة العصور الوسطى، رائحة الغوط والاندلسيين العرب  الذين تركوا بصماتهم على كل زقاق ومنزل ومعبد وميدان وسور وغير ذلك .

وفي الجز الآخر من هذه المقالة سندخل الى داخل المدينة لنرى  عرين الثقافة و العمارة العربية والاسلامية والتي لازالت تبتسم آثارها  شامخة بكل اناقتها و جمالها والذي يعبر عن  عصارة الفكر و الابداع الحضاري الانساني .

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2024 الاربعاء 08 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم