صحيفة المثقف

المسؤول والمذنب في دولة السؤال .. العراق من جملة جغرافية الى رطانة سياسية / علي السعدي

ليس هناك من فارق جوهري بين المفهومين، حيث رأس الدولة هو المسؤول والمذنب على حدّ سواء في كلّ مايقع من أحداث وسلوكيات، فتراتبية القرار ومركزيته الصارمة، تمنع تنفيذ أية أعمال من غير علم الحاكم وأمره أو موافقته المسبقة .

اما في الأنظمة الديمقراطية، فالوضع يختلف بشكل جوهري، إذ ان اللامركزية وتوزيع الصلاحيات، هي السمة الغالبة في تراتبية القرار، لكن ذلك لا يعني انفراطاً في عقد الدولة وبعثرة مواد الدستور حسب الأهواء والإجتهادات الخاصة، لذا فما يحدث من اخطأ، تقع مسؤوليته على عاتق المعني في المهمة التي شهدت الخطأ، سواء كان وزيراً أو رئيسا أو ماشابه، من دون ان يكون مشاركاً في الجرم بالضرورة أو تم بأمر منه أو بعلمه وموافقته المسبقة .

في العراق الجديد، ملأت الأخطاء مساحات واسعة من عمل المسؤولين على مختلف مراتبهم، وصل بعضها الى حدود الجريمة، ومع ذلك قلمّا قيل عن احد انه مسؤول عمّا حصل وحوسب طبقاً لذلك، ناهيك بأن يكون مذنباً .

ربما يمكن إيراد الكثير من الامثلة بادلتها وشواهدها عن الأخطاء ونوعيتها وحجمها التي ارتكبت في العراق، لكن قد يكون أهمها هو ذلك (الخطأ) الذي جعل من (العراق) مفردة بلامعنى، إذ لم يعد للعراق مدلول يعبّر عن حقيقته، بعد ان عبر في تداعيات وإرهاصات اقتسمته واقعاً ومصطلحاً ومعنى وسياسة وجغرافية .

الى عام 1991، كان مصطلح " العراق " هو المعتمد في الخطابين الرسمي والإعلامي كتسمية كلّية لذلك البلد، وبعيداً عن الكيفية التي كان يقدم بها، ومقدار تعبيره عن المحتوى الحقيقي للتشكّل السكاني فيه، فقد كان التعامل يتم مع العراق، باعتباره جملة سياسية وجغرافية واحدة .

انقلبت الصورة بعد حرب الخليج الثانية، وما شرعنته القرارات المتلاحقة لمجلس الأمن الدولي، التي أدخلت مصطلحات من نوع " الحماية الدولية للإقليم الكردي " أو" حماية الأكراد "، بعدها وضع تعبير" الحدود العراقية الكردية " قيد التداول، وفي الجهة الأخرى ظهرت صياغات مشابهة مثل "منع الطيران العراقي من التحليق فوق الجنوب لحماية السكان الشيعة" و "انتفاضة الشيعة في الجنوب" وسواها.

وطوال سنوات الحصار، تم عملياً فصل إقليم كردستان، وعومل كدولة طور الإستقلال، مع تكريس مفردات باتت تتعمق بإستمرار كإشارات على أن العراق لم يعد دولة يقاس التعامل معها بمفردة واحدة، عندها ظهر العراقيون كمن تقبّل الأمر، بعضهم عجزاً أو إقراراً بالواقع، وبعضهم ارتياحاً ودفعاً نحو بلورة ذلك الواقع.

ولم يكن ما حصل مستغرباً، فقد ساد الخلل منذ البناء الأول للدولة العراقية، التي تشكلت من تحالف ثلاثي "للمراكز القديمة" شيوخ القبائل وبقايا موظفي وضباط الدولة العثمانية، على لمسة " حداثية " بقيت تدور في فلك الإحتلال البريطاني .

وماكادت الإرهاصات العراقية تفرز اصطفافات جديدة من عمال المدن والمثقفين وشرائح الضباط الوطنيين والقوميين وأحزابهم، حتى دخلت التجربة طورا ًآخر زادها إنحرافاً، فإنحدرت المعادلة الوطنية من " عراق الملك "، الى عراق الزعيم، ثم عراق البعث لينتهي اخيراً ب "عراق صدام" .

وطوال تلك العهود، لم يذكر العراق باسمه المجرد، وبالتالي لم تجد الهوية الوطنية ما تتكىء عليه، سوى مقولات فضفاضة عن "مجد التاريخ العراقي" و"العراق العظيم" وما شابه، التي جرى استخدامها كأدوات مرافقة للحاكم وتعبيراً عن صفاته بشخصه، في وقت كان الإنفصال يتراكم فعلياً، و تتوسع الهوة بين "العراق" الذي أصبح، مجرد إسم حركي للقتل والإستبداد، وبين مكونات ما يفترض انهم (الشعب العراقي).

وعلى هذه الخلفية، جرى توزيع "القماش" العراقي ليصنع كلّ ثوبه الخاص، ومن ثم يبرزالثوب الكردي باعتباره الأكثر جهوزية وملاءمة، ولأنه حصل، ليس على مادته الأولية وحسب، بل وجميع لوازم صنعه، من المخازن العراقية وحدها، لذا يبدو الكرد اليوم في علاقتهم بالحكومة، كمن أضاع ثور حماته، فهو يغّني في الحالتين سواء وجده أو لم يجده، انهم مستقلون في" دولتهم" الخاصة التي تمتلك جيشها وبرلمانها وحكومتها ومواردها المالية، ولم يبق سوى تطويبها رسمياً بكونفدرالية – وليس فيدرالية وإن اتخذت شكلها - مع العراق يسهل الإنفكاك عنها لاحقاً بعد ان تنجزمايراد منها .

من هنا، يتمترس الكرد خلف شروطهم وكأنها تنتزع ولا تطلب، وبالتالي يرفضون ان يدخل في قاموسهم معنى "الطلب"، كي يكون قرارالإنفصال يتعلق بتقديرهم وإرادتهم لاغير .

وبحصولهم على موقعي رئيس الجمهورية ووزارة الخارجية منذ دورتين متتاليتين، تكرس في البداية مصطلح "العراق / كردستان" وقد تعود العالم على مشاهدة جلال الطالباني وهو يجوب البلدان باعتباره ممثلاً للسيادة العراقية من أن دون ينسى التحدث عن "شعبنا الكردي" و "الإدارة الكردية" و "البرلمان الكردي" الذي اتخذ هذا وفعل ذاك – الخ – فيما يردد وزير خارجيته المصطلحات ذاتها حسبما تقتضيه طبيعة الحال – وإن بشكل أقل علنية - .

 المحصّلة المتوقعة، أن هذه الثنائية لن تصاب بخلل كبير إذا تفككت الى طرفيها - العراق – كردستان، كلّ على حدة - مادام العالم قد ألف تقبل الأمر بسياسة القفزات المتتالية – كتطوير لنظرية كيسنجر - والوقائع تشير الى أن الوصول الى تلك المرحلة، سيجنب الكرد، ردات الفعل الإقليمية وتعقيداتها، فيما لوحدث الإنفصال بواقع الصدمة .

في الوقت عينه، يجري شلّ الحكومة العراقية، ببنود ملزمة تمنعها من إتخاذ اي قرارقد يعيق التحرك الكردي – المقونن رسمياً – لذا سعى الكرد في البداية أن تتخذ القرارات بإجماع في مجلس الوزراء، وهو ما يعني عملية إلغاء منصب رئيس الوزراء، وضبط إيقاع عمل الحكومة، لتلائم اتجاهات الحركة الكردية .

 وإبّان ذلك و ما قبله، اعتمدت مصطلحات تخدم بدورها التوجه إياه : الكرد– تسمية قومية (1) - والشيعة والسنة – تسمية طائفية – ليغيب من خلالها مصطلح "العرب" ولا يعود الى الظهور الإ في فقرة تم إدخالها قصداً في قانون إدارة الدولة المؤقت ( ان الشعب العربي في العراق، جزء من الأمة العربية ) وهو ما سيضمن للأكراد حقاً دستوريا، مشّرع ضمناً ومؤجل مرحلياُ، ينص على ( أن الشعب الكردي في العراق جزء من الأمة الكردية ) .

مقابل ذلك، وجد التحالف الوطني بمحموله "الشيعي" نفسه منفرداً، مع جملة من مستحقات عليها دفعها، فما دامت هي اللائحة"الكبرى" في عدد المقاعد، وممثلة للطائفة "الأكبر" حسبما هو متداول، فان نتائج الفشل ستتحملها وحدها، لذا لم تفرح " الحزينة " بنجاحها تماماً، فتوأمها العربي "السنّي" غيب نفسه أو غيبته مجموعة من العوامل المتداخلة بين الإرهاب والضغط الإقليمي والحسابات الفئوية، وشريكه "الليبرالي" اما معتكف عن المشاركة او ابتلعته بحار الطائفية بدوره، وهكذا تصطدم سفينة الحكومة، بمجموعة من العوائق ينبغي تجاوزها بجهد مضاعف .

على هذه الصورة بدت الساحة العراقية وكأن الحصان الوحيد الذي يرمح فيها بحرية نحو هدفه، هو الحصان الكردي، فيما يبدو "الحصان" الشيعي مكبلاً بمختلف الضغوط التي تحد من حركته بالرغم من قوته الإنتخابية، و"الحصان" السنّي مرهقاً بحساباته ومطالبه الملتبسة – شكلاً وأهدافا ونهاية مطاف – .

انه وضع مثالي للمشروع الكردي، ولحظة زمنية قد لا تتكرر لاحقاً بالزخم ذاته، لذا يجري العمل على "افتراس" العراق بطريقة فاقت حدود المعقول، إذ تبدو مفردات الخطاب الكردي، اقرب الى الإملاء منه الى متطلبات الديمقراطية أو مقومات الفيدرالية التي طالما كانت مجرد حلم صعب التحقيق، فمن قرار ابتلاع كركوك بطوفان من القادمين الكرد، الى منع الجيش العراقي من الدخول الى كردستان الإ بطلب من البرلمان الكردي، الى اخذ موافقتهم المسبقة في كل شأن، سلسلة من الإشتراطات التي يعني القبول بأي منها، بمثابة انتحار سياسي وتفريطاً بالثوابت الوطنية.

لكن الذي يحير المراقبين، هل ان الخطاب الكردي، خرج من السياسة ليدخل الأيديولوجيا ؟ تماماً كما فعل "صدام" من قبل، وبالتالي هل يمكن اعتباره تجسيداً لمقولة : تقليد الضحية لسلوكية الجلاد ؟ أم أن له من مقومات القوة الذاتية ما يمكنه من فرض ما يريده على الأطراف الأخرى كونه منتصراً وهم المنهزمون تبعاً لهزيمة "البعث العربي" ؟

قراءة موضوعية في عناصر القوة الذاتية للمشروع الكردي، لا تشير الى حيثيات فوق العادة، بل تؤكد الدلائل، أن معظم عناصر القوة تلك، مستمدة من ضعف مفتعل للطرف المقابل، تكشفت أولاًُ في انقسامه الطائفي – شيعة / سنة، ثم الإنقسام السياسي - إسلامي / ليبرالي، لذا تبعثرت في اتجاهات مختلفة، قوة "العرب" متعددة المصادر،، فيما تجمعت قوة الكرد محدودة المصادر، في نقطة واحدة، حققت من خلالها جملة من الإختراقات وما زالت تطمح إلى المزيد .

لكن "الصلابة" قد تؤدي الى كسر مضاعف، خاصة مع هشاشة المنطق السياسي الذي إن إعتمد تعميم الأكثرية والأقلية بمفهومها العرقي الشامل، فسيخسر الكرد، أما الفيدرالية بمعاييرها الدولية، فلم تعد تستوعب طموحاتهم، و الديمقراطية لا تضع نفسها بخدمتهم حصراً، وعليه، فلو اتفقت قائمة التحالف الوطني مع القائمة (العراقية) لخرج الكرد من المولد بلا حمص، وعندها كان من المتوقع ان يواجهوا خيارات صعبة، اما القبول بما يعرض عليهم من مشاركة، او البقاء خارج مؤسسات الدولة مما يعني عرقلة حقيقية لمشروعهم الإنفصالي، أو إعلان الإنفصال منذ الآن، وهي مغامرة غير مأمونة العواقب .

الخلاصة، ان الخطاب السياسي لأكراد العراق قد تجاوزحدود اللعبة السياسية ليدخل في متاهة المفردات والمصطلحات المتناقضة، متوهماً أن ذلك قد يمهد لتحقيق الحلم المنتظر : كردستان الكبرى، لكن ألم يراود " أوجلان " الحلم ذاته؟ الخلاصة أن "غودو" الكرد قد يأتي مثقلاً بأحماله، لكنه قد لا يأتي أبداً، وعندها سيكون العراق أمام السؤال : من هو المسؤول ؟ ومن هو المذنب؟ في تبعثر ( العراق ) من جملة مفيدة واضحة المعنى، الى رطانة سياسية وقواميس بشرية وبقاع جغرافية لايجمعها أصل في الجوهر وإن استمرت شكلاً، انتظاراً لاستكمال العدّة .

 

....................

(1) تتعدد التعريفات والاشتراطات الخاصة بالقومية كحركة سياسية آيديلوجية من أهم مقوماتها وحدة اللغة والأرض والتاريخ والطموحات المشتركة وإرادة العيش المشترك – الخ، أما في العربية فهي مشتقة من (قوم) أي من قاموا الى الحرب معاً، وهم في الغالب يتحدرون من جدّ أكبر، وذلك عكس الأمة التي يمكنها ان تتشكل من قوميات متعددة إذا توفرت لها شروط مناسبة، اما في حالة الكرد أو الكورد، فهم وكما جاء في معظم التسميات التي يفضلونها، نسبة الى كلمة (كور) السومرية وتعني (الجبل) وبالتالي فكوردي (جبلي) هي صفة لساكني الجبال كما في كلمة بدوي لساكني البادية، وعليه فإطلاق القومية هنا قد تأتي مجازاً .

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2027 السبت 11 / 02 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم