صحيفة المثقف

النقد الادبي: آخر المستحمات وابتكار القصة التاريخية القصيرة.. / سلام كاظم فرج

اللافت في نص الأستاذ حامد فاضل إنه لايتناص مع حادثة تاريخية كما يفعل كل كتاب النصوص المستمدة من التأريخ.. ولا يعيد سردها بنص أدبي كما فعل جورجي زيدان مثلا.. ولا يغنيها بفنية عالية كما فعل تولستوي في الحرب والسلام أو نجيب محفوظ في رادوبيس أو عبث الأقدار. رغم اننا نتحدث هنا عن نص ينتمي لفن القصة القصيرة لا للرواية التأريخية. الاستاذ حامد هنا يبتكر نمطا قصصيا يقتنص حادثة تأريخية عابرة معروفة فيمنحها روح النص المعاصر.. ويعيد الحياة  إليها حارة دافقة بالحيوية. معاصرة بكل معنى الكلمة..ليوصل رسالته في السرد وفي المعنى. ويسبر اغوار الامجاد المبنية بعرق ودماء المهمشين. لتسجل براءة خلقها لأناس هم ابعد ما يكونون عن شرف التأسيس او شرف التشييد.أو الإشادة... وهو هنا لا يهجو الشخصية التأريخية ولا يمدحها (السيدة زبيدة زوج هارون الرشيد) كما يتبادر الى الذهن.. بل يغور عميقا في قطب الظاهرة العابرة للزمان والمكان... وليستكشف كنه التشييدات التاريخية المسجلة باسم الملوك والقياصرة والأكاسرة والخلفاء..

حين كتب جورج لوكاتش دراسته الفخمة عن الرواية التاريخية أكد على إن ما يبتغيه (تقديم دراسة نظرية للتفاعل بين روح التأريخ والأنواع الأدبية التي تصور كلية التأريخ)..

في نص آخر المستحمات لم يتعقب الأستاذ فاضل تطورا تأريخيا لحدث تأريخي معين (حفر بئر زبيدة الواقع في طريق الحجيج السائرين صوب الحجاز حيث كعبة المسلمين في مكة المكرمة)..بل تناوله كحدث غير تأريخي. أو عابر للتأريخ.(رغم كل الاستشهادت المقصودة بكتب التأريخ  والجغرافية والتي أخذت مساحة من النص ليست هينة.حين أتى على ذكر ابن بطوطة والحموي. وربما استعان بالطبري وغيره من المؤرخين) .لم يستغرقه الفعل الماضي (كان )ولم يلتفت إليه.. القاص هنا لا يؤرخ او يؤرشف..بل يفكر كعالم اجتماع أو كسيكولوجي أو سياسي. وكقاص معاصر أيضا من الطراز الاول..

تبدأ القصة بسرد شعري شاعري عن لحظات العناق الجنسي بين الرجال والنساء وما يكتنف هذا العناق من انماط سلوكية معروفة في كل الازمان والاماكن بلغة تتوخى الدقة والايجاز وتستبطن موسيقى داخلية في السرد.. من خلال جرس المفردات والالفاظ. وجمل هي الأقرب للشعر رغم انتماءها.. للسرد القصصي البحت.. في نقلة رشيقة نكتشف ان القاص يمهد لدخول مخدع زبيدة والرشيد..ليصف ليلة تاريخية ما تناقلها الرواة ولا حدثتنا عنها كتب التأريخ.. هي ليلة مألوفة.. شأنها شأن اية ليلة غرام بين زوجين متحابين..من هنا كانت ملاحظتي صائبة كما اعتقد حين ذكرت ان الاستاذ حامد لم يتناص مع نص من التراث او من غيره.. بل هو يبتكر نصا مستمدا من الخيال. لحادثة مصنوعة بمهارة فائقة.

الحادثة (ليلة غرام بين الخليفة وزوجه) نطلع عليها من داخل المخدع الذي صوره القاص تصويرا دقيقا وجسده لنستمع الى ذات الهمس واللمس والرغبات المحمومة المشبوبة وما يصاحبها من (مطالب) أنثوية. وأوامر مجابة تحت إلحاح ألتوق والرغبة العارمة لدى الخليفة.. من هنا انبثقت فكرة تشييد بئر(حمام زبيدة.). التي كانت فكرة منزاحة من الحاجة الى ماء الغسل من الجنابة..بعد الارتواء..وسيكون الامر مفهوما إذا عرفنا ما تعنيه ندرة المياه النظيفة في ذلك الزمن السعيد (العصيب).. !

الانتقالة الهائلة في النص توصلنا الى ثيمته الحقيقية حين نعرف آخر المستحمات الغزالة القتيلة ودمها المراق الملون لماء البئر.. هذه الغزالة..هي المموه العبقري لكل انزياحات النص وهي القضية المستديمة والتي تكاد ان تكون ضربا من الخلود. خلود المكر والخديعة والقتل والاستغلال. ضربا من الديمومة في مسيرة الحياة البشرية.. لكنها بالتأكيد ضروبا مدانة. وهذا هو جوهر ما أراد القاص أن يوصله.

 

للاطلاع

آخر المستحمات /  في حمام زبيدة .. مرأى من كتاب: مرائي / حامد فاضل

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2028 الاحد 12 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم