صحيفة المثقف

أَسِــير دَاخِـــلَ حِـذَائــِي / دينا نبيل

كي أرسُمَها آثاراً على الرِّمال، تتلبَّسُ بحِشاي لأقلّكَ أينما تشاء .. أشدُّك لألصِقَكَ بأمكَ الأولى، فتعود جنيناً سائحاً في قرارها .. لا تشعرُ بالأمانِ إلا حينما تخبطُها في بطنها، لا شيء يربطُكَ بها سوى حبلك .. ومن حبلك أسحبُك، لا تلمْني إن فقدَتْ خُطَاكَ الطريقَ ووجدتَ نفسَك بلا مستقرٍ لقدميك ؛ فلستُ أنا دوماً مَنْ يجْترّك، وإنما أنت من تسيرُ بداخلي .. مهما تمدَّدتَ فيّ، تتحيّز في حدودِ قَوْلَبتي ولن تستطيعَ منها الفِكاكَ !..

...

يحِلُّ رباطَهُ ..

" ربما حسبتُكَ واسِعاً كفاية لتحتويني .. لتنقذَني من آلامي !

لكن .. وجدتُني قابعاً خلفَ أسوارِكَ العاليةِ الضاربةِ إلى السَّواد تحجبُ عني البشر، تفوحُ من جوانبكَ رائحةُ جثثٍ نتنةٍ لكل من سبقوني إليك .. أجساد لزجة انتفختْ وتحلَّلتْ .. صرتُ أطارِحُها، أتأملُني فيها حتى اعتادتْ عيناي منظرَها، وأذُني سكونَها المميت .. لا يقلقلُه إلا صوتُكَ المُتقطِّعُ .

إنها دقاتٌ .. دقاتُكَ الَّلاهثةُ على الأرض تنقرُ .. تُدَوْزِنُ طنينَ دبورٍ رتيبٍ في رأسي، تلاشتْ أمامه كلُ الأصواتِ لتعلنَ نفيرَ قبائلَ نملٍ تستعمرُ خلاياي، لا تفترُ عن نخرِ جسدي .. تسرعُ يداي تحُكُّه، عبثاً تحاولُ منعَ التوغّلِ المحتُومِ .

 

لم يكن هذا دربي يوماً ما ! .. وإنما أنت من زَجَجْتَ بي إليه كمصلوبٍ معصُوبِ العينين تمَسْمَرَتْ أوردتُه في جسده المتخشبِ حتى نزفتْ ما بها من دماء .. لترسُمَني خرائطَ زرقاءَ قبيحةً تزوغُ في تقاطعاتها العيون.

 

خدعتَني .. أجل!

 

في كل مرةٍ أراكَ تحملُني إلى النفقِ ذاته، هواؤه الأسودُ الثقيلُ يطبق .. يغزلُ خيوطاً عنكبوتيةً محكمةً، تختنقُ أنفاسي برائحتها الترابية، أُوَاري وجهي عن أضواء كشافاته الاصطناعية .. ينحبسُ النورُ في سردابِ عيني، فأذوبُ كقطعةِ ثلجٍ تناثرتْ مطراً أسود على الجدار ..

كيف الخلاصُ ومن بعيدٍ، تلك اليدُ البيضاءُ تمسكُ بمسبحةٍ تدورُ في دائرةٍ تلاحقُني آشعتُها النورانيةُ، كمصاصِ دماء أخشى لظاها .. أخشى الرمادَ، فألوذُ بالفرار !

أصُمّ آذاني عن صوتِ احتكاكها البلّوريّ .. وصوتِ النحيبِ المصاحبِ لها وهو يقولُ .. " خذ ما تريد مني، لكن .. لا تضربني!! "

ها هي المسبحةُ معلقة على أوّل النفق .. متدلية تترنّحُ في الهواء، كم يُرعبُني صوتُها ! .. يزلزلُني تأرجُحُها كلما مرّتِ السيّاراتُ من فوقي .. وأنا تحتَ الأرض !

 

الآن .. وقد أخذْتَني إلى نهايةِ المطاف

 

الآن وقد علمتَ أنني راحلٌ بتذكرةِ ذهابٍ بلا عودةٍ، تستفزُّني .. تنظرُ إلى الأمام وترفضُ الالتفاتَ إلى الخلف، عندما يكونُ النظرُ إلى الخلف واجباً حتيماً .

 

إليك عنّي ! .. سأنتزعُكَ .. سأقتلعُكَ من قدمي وإن اضطُررْتُ لبترها !

لا ..

مهلاً .. انتظر !

لكأنّك تعلمُ ضعفي عن السيرِ حافياً بدُونك .. خطواتي الواثقةُ من يصنعُها غيرُك !

تعلمُ أنك الوحيدُ الذي يحملُني إلى مُشتهاتي .. وحدُها من ألجأ إليها، تلكَ التي تعيدُ الانتشاءَ لحُطامي، لا يكفيني أحدٌ سواها .. عندما يشتعلُ صدري بالضواري.

في ذلك الزقاق الطويل .. تقطنُ، أتلفَّتُ حولي خشيةَ الأنظار، أتمرّغُ على عتبة دارها .. أتلوّى كأفعى انتُزِعَ منها سُمُّها حديثاً وقُبِضَ على رقبتها لتلفظَ أنفاسَها الأخيرة .. بفتحة بابها تنقذُني، ألفّها والرَّجفاتُ تكتسحُ كياني .. أتهَاوى بين ذراعيها، فتشُدُّني إلى مكاني المعتادِ على الأرض بين الأريكة والطاولة .. ألتصقُ بها، أتكوّرُ كالجنين حتى تُعلَنَ لحظةُ ولادتي ..

 

حين يقتربُ وقتُ خوضِ غمار معركتي ..

حين أرفعُ راياتي البيضاء قبل أن تتجرّدَ من أسلحتها أمامي ..

حين تتساقطُ فتاتاً أبيضَ لامعاً تحت ضوء الشموع المحترقة أمام عيني ..

تمتشقُني لتأتي لحظةُ التهامي إيّاها !.. "

...

ووجهُه المقابلُ للطّاولة .. وأنبوبٌ دقيقٌ بين أنفه وإصبعيه، يدورُ يرسمُ شهيقَه آثاراً على مسحوقٍ أبيضَ يتنشّقُه .. يُعبِّئُ جوفَه منه بقوةٍ .. تعفّرتْ أنفُه وشفتاه، ولسانُه خلفهما يسفّ البقايا.

وبين آهةٍ وتأوُّهٍ .. " زدني .. زدني !! "

تتوهُ عيناه وتُختَم بشمعِ الخيال، وقد وُئِدَ كلُ همسٍ سوى موسيقى تتنامى من بعيدٍ .. يَضِجّ صدرُه من دقّ قلبه بطبلِ الزّنوج، يزفّ نشوةً تتسيّد روحَه الشاردةَ خارج تُخُومِ العالم ..

ليُبصرَ انعكاسَه على مرآةٍ معلقةٍ فوقه وقد قَلبتْه رأساً على عَقِبٍ !

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2030 الثلاثاء 14 / 02 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم