صحيفة المثقف

الجوهرة الفريدة .. طليطلة / كاظم شمهود

بل ان طرازها المعماري وصل الى اوربا خاصة ايطاليا والشواهد على ذلك كثيرة . وفيها اختلطت الاديان الثلاثة وتعايشت بسلام . كما انشأت فيها حركة ممتازة للترجمة

لعبت دورا مهما في تنشيط الحركة العلمية والادبية والتبادل الثقافي بين الشعوب . مما اعطى طليطلة مكانة و خصوصية تنفرد بها عن بقية المدن الاسبانية بل في العالم الاسلامي في ذلك الوقت .. وقد استظافة المدينة في الفترة الاخيرة عدة مؤتمرات ثقافية ودينية منها مؤتمر التعايش بين الاديان ومؤتمر للادب والشعر وكذلك للسياحة وغيرها من المهرجانات الثقافية ... واتذكر انني شاهدت واحدا منها وكان الشاعر العراقي المعروف عبد الوهاب البياتي حاضرا ومشاركا هناك في مطلع الثمانينات ...

و كأن هذه المؤتمرات بمثابة احياء للذاكرة التي غمرها تراب العصور الغابرة والكشف عن معادنها النقية ومد جسور المحبة والاخاء بين الامم .. حيث كانت اسبانيا ميدانا للابداع الفكري والادبي والشعري بعدما توفرت لها عوامل الطبيعة الساحرة .

 

جادك الغيث اذ الغيث هما يازمان الوصل في الاندلس

لم يكن وصلك الا حلما في الكرى او خلسة المختلس

 

و الزائر اليوم لهذه المدينة العريقة يجد ويشاهد آثارا باقية صامدة لهذه الاديان والثقافات الآنفة الذكر كالمساجد والكنائس والمعابد بالاضافة الى الاسوار والجسور والابواب الكبيرة والازقة العتيقة والمشربيات (الشناشيل) التي يلامس بعضها البعض وكأنها تعكس توادد وتحابب وتراحم تلك العوائل الكريمة التي انطبعت بطابع تقاليد الشرق ...

والداخل الى المدينة عليه ان يمر من بابها العربي القديم الذي لازال قائما بابراجه والذي يسمى باب السهل – Puerte de Bisagre , وهو الباب الرئيسي الكبير للمدينة وحيث منه يمر المزارعون الذين يخرجون الى السهل الزراعي ذو الارض الحمراء المحيطة بالمدينة لهذا سمي بباب السهل , وكان الاسم يكتب هكذا: Bib Sahla ثم كتب في زمن النصارى Bisagre .

و الباب اليوم يتكون من عدة عمارات شيدت في مراحل تاريخية مختلفة منها عمارة الباب الاسلامي القديم الذي نحن في ذكره , حيث لازال بتصميمه وحجارته القديمة كما شيده العرب .....

وعلى بعد عشرات الامتار ينتصب باب آخر يدعى - باب الشمس –Puerte de Sol ويعتقد ان الاسم اخذ من منحوتة على حجر المرمر تظهر على واجهة الباب تمثل الشمس والقمر , ويذكر ان الباب شيد في القرن العاشر في زمن المأمون حاكم طليطلة . ويظهر الباب ببرجيه المدور والمربع وهما يشكلان مع باب السهل انسجاما غريبا , حيث يكونان بالتالي منظرا رائعا وانطباعا جميلا لزائر المدينة ... والباب جميل جدا في عمارته ولايمكن وصفه بهذه العجالة والسطور القليلة .. كما يعتبر اليوم من اجمل الاعمال العمرانية التي خلفها العرب في طليطلة .

وعلى مساف قليلة من هذا الباب وعلى اليمين نشاهد باب آخر يدعى باب المردوم Valmardon

وعلى مقربة منه يقع المسجد الاسلامي الذي اخذ ذلك الاسم فسمي – مسجد باب المردوم –

ويعتبر هذا المسجد من اقدم المساجد في طليطلة , وانه يخلو تماما من النقوش والزخارف الجميلة التي نشاهدها في مسجد قرطبة وغرناطة ... ويعتبر المسجد صغيرا بالمقارنة مع المساجد الاخرى التي شيدت بعد ذلك . وبعد احتلال المدينة من قبل النصارى حول المسجد الى كنيسة تسمى – نور المسيح – Cristo de la luz – كما يعتبر المسجد الوحيد في المدينة التي لازالت عمارته الاسلامية واضحة جدا للعيان . له واجهه تتكون من ثلاثة اقواس لها اشكال حدوة الحصان ومفصصة ونصف دائرية تعلوها اقواس متقاطعة وبعض الافاريز الناتئة .. وعلى الواجهه نشاهد كتابة عربية لازالت واضح القراءة وهي ( بسم الله الرحمن الرحيم اقام هذا المسجد احمد بن حديدي من ماله ابتغاء ثواب الله فتم بعون الله على يد موسى بن علي البناء وسعادة فتم في المحرم سنة تسعة وثلاثمائة) 309 هج – 999 مي . وقد بقت هذه العبارة ثابتة لحد هذا اليوم وهي محفورة على مادة الآجر ولكن بعض الاحرف متهترة وتحتاج الى ترميم . وفي زيارتي الاخيرة للمدينة والمسجد وجدت هناك حفريات داخل وخارج المسجد من قبل هيئة الآثار بحثا عن المزيد من الآثار .. ولكنني خشيت من انهيار المسجد نتيجة لعمق الحفريات وتعلق الاعمدة في الهواء ..

 786-kadom2

وفي الجهه الشرقية من المدينة يوجد اقدم جسر عمله العرب وهو القنطرة Al Cantara يعود تاريخ انشاءه ا لى عام 866 مي ويطلق عليه الاسبان اسم Puente de Al Cantara

وكلمة- بوينتي - تعني في اللغة الاسبانية الجسر واذا ترجمنا الجملة حرفيا تصبح – جسر الجسر –

او جسر القنطرة , وحسب بعض المؤرخين الاسبان بان كلمة القنطرة لها نغمة سحرية شاعرية فريدة في جمال لفضها اكثر من الكلمة الاسبانية- بوينتي- وبالتالي اصبح لدينا كلمتين مترادفتين في العربي والاسباني تحملان نفس المعنى . وربما ذلك يعود الى الترابط الاسري في اختلاط الدم

بين القشتاليين والعرب وحتى في تبادل الفاظ الكلمات . وبالتالي فقد ظهرت لغة بين الطرفين في ذلك تسمى رومانثي romance .

و هناك جسر آخر عمله النصارى في القرن الثالث عشر يسمى جسر مارتين ويقع في الجهه الغربية من المدينة ولازال كما هو في اقواسه الخمسة التي تجلس على نهر التاجة .

القصر Alcaza: كتب احد المفكرين الاسبان واصفا اهمية القصر والمدينة بالنسبة الى اسبانيا فقال:(اذا كانت طليطلة زهرة اسبانيا فان القصر زهرة طليطلة )

وهو اثر روماني قديم شيد على ما يذكر في نهاية القرن الثالث او الثاني الميلادي . وكان ايام الرومان حصنا منيعا فجدده ملوك الغوط ثم جدده المسلمون وجعله الحكم بن هشام امير الاندلس سنه 797 مقرا للادارة والحكم كما جعله قلعة منيعة لضبط المدينة وقمع ثوراتها التي كثير ما تحدث خاصة ثورات المولدين . القصر يقع في اعلى مكان من المدينة في الطرف الشرقي منها قرب جسر القنطرة الذي يقع على نهر التاجة وقد اتخذ هذا القصر صفة دفاعية وعسكرية ومقرا للحكم .... وقد عثرت على رسوم قديمة للقصر منفذة من قبل احد الرسامين وتظهر فيه العمارة الاسلامية واضحة بابراجها واقوسها وحليتها الشرقية الجميلة , ولكن هذه العمارة قد تغيرت بمرور العصور وتعرض القصر للحرق والتهديم , كان آخرها في عام 1936 اثناء الحرب الاهلية الاسبانية حيث حول الى انقاض ..

 

الكنيسة الكبرى: La Catedral - تعتبر كاتدرائية طليطلة ( الكنيسة الكبرى ) من اهم المعالم الاثرية المسيحية في هذه المدينة وهي تمثل مكان المسجد الجامع الكبير . وعند سقوط طليطلة بيد النصارى حولوا المسجد الى كنيسة ولكن بقي بناء المسجد بطرازه الاسلامي قائماً حوالي قرن ونصف القرن حتى مجئ الملك فرناندو الثالث حيث أمر بهدمه باشراف قس طليطلة – Bernardo- برناردو الفرنسي الاصل سنة 1227م . . ورغم ظهور هذا الطراز المعماري الغريب في ذلك الوقت فان الناس بقت مستمرة على تقاليدها وعاداتها في البناء والتصاميم والتي كانت لها عمق تاريخي وروحي في نفوس سكان طليطلة . واستمر بناء الكنيسة حتى نهاية القرن الثالث عشر ولم تستساغ او تهظم عمارتها وتقدر من قبل الناس رغم ما تحويه من ثروة فنية هائلة من تصاوير ومنحوتات لا تقدر بثمن , وكانت معقدة البناء وبطيئة السير وكثيراً ما كان ينظر اليها بانها جسم غريب في وسط الذوق العربي الواسع ولكن بمرور الزمن اصبحت عمارتها مقبولة . 

 

ورشة المسلم - Taller del Moro:. ومن الاعمال الرائعة في المدينة هي ورشة المسلم وهو يشبة البلاطات الاندلسية وذلك بسقفه الجميل والمقرنصات المتدلية منة وجدرانه المغلفة ببساط من الزخرفة المذهبة وبالونين الاحمر والازرق . وتظهر المقرنصات وكأنها منحوتات بارزة دقيقة التنفيذ وفاتنة المنظر . ويعتقد ان هذا البلاط يعود الى احد امراء طليطلة او احد قصور المأمون .

...

السور: ولما دخل العرب طليطلة وجدوا سورا منيعا يحيط بالمدينة وهو سور روماني الاصل فعملوا على ترميمه وتوسيعه وتقويته , كما اعطوا بعض جهاته طرازا اسلاميا وجعلوه شديد القوة والمتانة , ولازالت بعض اجزائه ظاهرة في يومنا هذا , ولكن تغيرت كثير من معالمه خلال العصور الماضية ..

 

الحمامات العربية: يوجد اليوم في مدينة طليطلة عدد من الحمامات العربية منها حمام تينيرياس ويقع على الحافة اليمنى من نهر التاجة في الجهة الجنوبية من المدينة . واليوم يشاهد آثار الحمام من جدران واقواس وحفر واحجار . وقد تم ترميمها في الفترة الاخيرة ..

و عند التجوال في المدينة من خلال ازقتها العتيقة تطالعنا هنا وهناك ابراج اسلامية الطراز او مدجنية وكانت بعضها منائر اسلامية مثل برج مسجد المنقذ Salvador الذي يقع غرب الكاتدرائية الكبيرة وعلى مقربة من بناية البلدية .. وبرج سانتو تومي وكان منارة لمسجد اسلامي

و فيه اليوم لوحة كبيرة للفنان المعروف- الغريكو - وهي تمثل دفن الكوندة اورغاث . ويقع في الجهة الغربية من المدينة ... وبرج كنيسة سان رومان , وهو مزخرف بحلية معمارية جميلة من الطراز الاسلامي . ويقع المعبد في قلب المدينة وسط حاراتها وازقتها العتيقة .. ثم نلتقي بميدان كبير لازال يحمل اسمه العربي وهو – سوق الدواب – Zocodovar - وكانت مكانا لبيع الدواب او الماشية .و تقع الساحة قرب القصر العربي القديم. ..

 

متحف ومنزل الفنان الغريكو: الغريكو فنان يوناني الاصل , وصل الى طليطلة سنة 1575 واخذ يعمل لحساب الكنيسة في تنفيذ ورسم المواضيع الدينية .. يعتبر واحدا من اشهر الفنانين العالميين في القرن السادس عشر , وقد امتاز اسلوبه بالالوان الحارة والقوية واستطالت شخوصه والوجوه الممشوطة والنحيفة والابداع في بناء اللوحة والدقة والحس المرهف والشاعري في رسم المواضيع الدينية . وقد استفاد من المنظور في الفن الاسلامي حيث مزج او ركب عدة مشاهد في اللوحة بين مشاهد من السماء ومشاهد من الارض وعالج كل مشهد على حدة داخل الاطار العام للموضوع الديني ... ويذكر ان الكنيسة كانت تدفع له مقابل عمله بعض المواد الضرورية التي يحتاجها مثلا مواد اثاث او اطعمة كطاولة او كرسي او دجاجة وما شاكل ذلك ..

واليوم حول منزله الى متحف يضم مجموعة جميلة من اعمالة مع كل محتويات واثاث البيت . وكذلك نشاهد جدران المنزل مغطات بقطع السيراميك التي تحتوي على اشكال زخرفية هندسية كالنجوم المثمنة ذات الطراز الاسلامي ..

 

حمام كابا: وهو برج مشيد على حافة نهر التاجة من الجهة الغربية للمدينة , وله قصة تحكى هي محل جدل بين المؤرخين بين الخيال والواقع . حيث يذكر بان ابنة خوليان حاكم سبتة- فلوريدا دي لا كابا - قد استحمت في هذا المكان , وفي اثناء ذلك مر الملك الغوطي- رودريغو- فرآها واعجب بها وكانت رائعة الجمال .. ثم حدثت مشاكل اخلاقية ادت الى انحياز حاكم سبتة الى العرب ...

 

بلاط غاليانا: ويسمى ايضا بستان الملك , ولازالت آثاره باقية لحد هذا اليوم . وهناك قصة طريفة تنقلها المصادر الاسبانية بان حاكم طليطلة المسمى الامير جعفر كانت له فتاة تسمى غاليانا قد طلبها امير وادي الحجارة من ابيها للزواج فرفضت وكان ابوها يحبها كثيرا فبنى لها قصرا خياليا فريدا في طرازه ونوعه ... ويقع البلاط جنوبا على الضفة الاخرى من نهر التاجة على قمة جبل ومنه يمكن الاطلال على المدينة والتي تشاهد ساحرة بجمالها . واليوم رمم القصر وطور وحول الى مرفق سياحي جميل يأمه السواح من كل صوب ...

كما نلتقي اثناء التجوال بعمارات اخرى مسيحية ويهودية قديمة وهي مبنية على الطراز المدجني الطليطلي المميز مثل كنيسة سانتا مارية البيضاء ومعبد ترانسيتو . ويذكر بعض المؤرخين الاسبان منهم- غوستابو بيكر- بان هذه المعابد جاءت وفق الذوق العام للعمارة الاسلامية في ذلك الوقت ...

 

نقطة مضيئة:

ذكر بعض النقاد (بان العرب والمسلمين كانوا يخترعون ويستكشفون ويعمرون ويشيدون القصور والمدن الخيالية والاسطورية ويبنون الحضارات .... وان الغرب يستثمر ويطور ويستعمر ويستعبد و يثير الحروب و... ) . ,,؟؟ ... وما نراه اليوم في الخليج العربي الا شاهدا جلي حيث تغير المسار . فقد انشغلوا في ثقافة الحجارة وبناء المدن الاصطناعية و الابراج الاسطورية والخيالية وكأنهم يريدون ان يعرجوا الى السماء بحثا عن سر الخلود ...

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2034 السبت 18 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم