صحيفة المثقف

ذات مساء / احمد فاضل

غص مقهى "المُلا" في سبعينيات القرن الماضي وعلى غير عادته بالمئات من ساكني حينا " الطوبجي " حيث توسد المقهى نهاية شارع ذلك الحي فكان الى يمينه مسجدا بناه لأهله أحد الخيرين الموسرين وإلى يساره مقهى آخر منافس له يدعى مقهى "سبع  .

المحلة التي سكناها عام 1957 استطاع والدي الحصول على دار فيها بواسطة مسؤول كبير في الدولة التي كانت توزع فيها الدور الحكومية فقط لأصحاب الواسطة، مما اضطر والدي طرق باب أحد معارفنا من المتنفذين للحصول على سقف يأوي عائلتنا الكبيرة بحسب ما كان يخبرني به قبل قيام الإنقلاب على الملكية عام 1958، بينما سكنها الباقون بفضل عبد الكريم قاسم زعيم ثورة الرابع عشر من تموز الذي شهد عهده توزيع القسم الأكبر من هذا الحي على صغار موظفي الدولة العراقية آنذاك، هذا الحي بنته شركة إنكليزية تدعى " وينبي " كانت قد بنت دوره لعمالها عندما كان لها مشاريع مع حكومة الملك المخلوع، المقهى حينذاك لم يكن باستطاعة أحد الحصول على كرسي فارغ فيه بسبب لعبة رياضية سيعرضها التلفزيون مساء ذلك اليوم الحار مما تطلب أن يسرع الكثير منهم الى مقهى " سبع " المقابل له لسحب كراسي منه تحت نظر صاحبه الذي استهجن هذا الفعل، لكنه رضخ في آخر الأمر بعد أن فاجأهم بتقديمه الشاي لهم مع مطالبته أن يكون الدفع مقدما وإلا سوف يسحب الكراسي التي يجلسون عليها، ومع ضحكات الذين كانوا بالقرب من هذا المشهد الساخر فقد صاح أحدهم بوجه سبع قائلا :

- يعني شلون قابل نشرب مرتين يمك ويم الملا ؟

بينما صاح آخر :

- إي هسة لوبكهوتك تلفزيون جان كعدنا اهنا؟

بينما ردد ثالث بتهكم:

- أويلي إذا جا الملا وكال شتشربون أفندية؟ شيخلصنا منه؟

كان الصخب الآتي يقلق بعض كبار السن الذين أعتادوا أن يهيموا مع تأملاتهم وبدوا أكثر تذمرا وهم ينظرون الى هذه الجموع الغفيرة من البشر الجالسة والواقفة في الساحة الأمامية الواسعة للمقهى التي عانى الملا وأولاده في تهيئتها ورشها بالماء وتسوية أرضيتها لتكون ملائمة لجلوسهم، كانوا ثلاثة اتكأوا بعظامهم على تلك الكراسي المصنوعة من جريد النخل واقترب أحدهم بفمه من أذن صاحبه قائلا :

- يعني هذا المصارع اللي راح يطلع بالتلفزيون قابل اقوى من عباس الديج؟

- يمعود .. ذولة مصارعين ها الوكت واحدهم ميكدر يلعب زورخانة عشر دقايق .

كان ثالثهم يفغر فاه حتى إذا سكت صاحباه عن الكلام قال :

- هسة إحنا شعلينة .. علينة نتفرج ونشوف النتايج، وابو كَروة وين يبين بالعبرة ..

أزف موعد ظهور المتصارعان بينما كنت أنا وشلتي نحتل مكانا أمام التلفزيون حسدنا عليه الكثير ممن بقي خلفنا، كنا مجموعة من الأصدقاء نقضي يومنا ساعات طويلة منه في المقهى بعد ان نعود من أعمالنا ودراسة البعض الآخر منا، حيث كان المحسنان من شلتنا يدرسان في إحدى جامعات بغداد تخرج أحدهما فعمل في أحد معامل النسيج الحكومية الكبيرة، أما الثاني فقد عمل في المصرف المركزي للدولة، بقي من الشلة أنا وصباح وياسين حيث سبقناهم بالتعين في وزارات الدولة المختلفة وكان لنا مردودا ماليا جيدا يجعلنا نعيش في بحبوحة ويسمح لنا أن نبعثره أّنا شئنا،أما صلاح الذي لقبناه بأبي الأنس فقد كان يعمل في كي الملابس واستطاع أن يتقن فن الحلاقة فيما بعد وكان يمتلك حنجرة رائعة في الغناء، إلا أنه أهمل تلك الموهبة واستقر بائع أجبان أخيرا .

انضمت إلينا فيما بعد شخصية طريفة كان أكبر منا سنا وقتها هو سامي الذي لقبناه بأبي الروس نسبة الى رأسه العجيب وكنا نسعد به لأن حكاياته ومغامراته كنا نتلقاها بضحكات لاتنتهي :

- هسة مدكولولي شوكت يطلع " عدنان " ويخلصنا من هاي الهوسة ؟ ها إجه دكتور سهيل يمه الأخبار ..

سهيل في كلية الطب إنظم الى صداقتنا حديثا، لكنه لايشاركنا كل إهتماماتنا وهو يعاني من مرض نفسي لايظهر إلا على حركات يديه ورأسه، ولايتحرج حينما يمسح ماتساقط من أنفه في سرواله أو قميصه بل نتلقى نحن الإحراج بدلا عنه فتأخذنا اللفتات يمنة ويسرة مخافة أن نصطاد بهذا المنظر الشنيع الخالي من الذوق .

في إحدى جلساته معنا اقترب منا شخص اتضح أنه يعرفه فسلم علينا وشكى له ألما في بطنه فتناول سهيل علبة فارغة للسكائر وقص منها جزءا ليكتب عليه وصفة الدواء وذيلها بتوقيعه فاستغرب الرجل قائلا :

- دكتور العفو إنته متأكد الصيدلي راح يصرف الدوة على هاي الراجيتة ؟

فرد عليه سهيل دون أن تنتابه أية حيرة كالتي انتابت الرجل:

- إنطيهياه وبس ..

هز الرجل يده مستغربا وقال :

- راجيتة مكتوبة على كارتونة الجكاير .. يمكن ايكول عليّ مخبل؟!

- شلون .. رد عليه سهيل ..

- لا .. لا .. ماكو شي دكتور ..

بدأ صبر هذا الجمهور الواسع يزول تدريجيا وعلا لغيطهم فقد كنت ألاحظ ذلك مرتسما على وجوههم المقطبة وتأففاتهم المستمرة وهم يترقبون افتتاح أول مصارعة حرة غير مقيدة لبطل عراقي هو عدنان القيسي مع متحديه بطل كندا جورج كريانكو والتي سينقل هذه المباراة تلفزيون بغداد من ملعب الشعب مباشرة الذي ازدحم هو الآخر بأكثر من ثمانين ألف متفرج، هذا الجمهور تسربت المراهنات اليه فقد بدأت مجموعات كبيرة منه المراهنة على الرابح والخاسر يتحمل مبالغ الشاي والحلويات المقدمة إليه من المقهى، وفجأة ظهر على شاشة التلفزيون أحد المذيعين فعم الجمهور سكون عجيب مما جعل من هو في آخر المقهى يسمع ما يقوله :

- نلفت عناية المشاهدين الكرام أننا وبعد قليل سننتقل الى إذاعة خارجية لنقل وقائع مباراة العصر بين بطلي العالم بالمصارعة الحرة عدنان القيسى وجورج كريانكو من ملعب الشعب مباشرة فإلى ذلك نسترعي الإنتباه .

علت الأصوات ثانية حتى ازدحم المكان بعشرات السيارات التي تسلق سطحها من كان بداخلها وسمعنا صيحة سبع يعترض على هذا المنظر الذي عزل مقهاه عن العالم الخارجي :

- يمعودين إنتوا وين وكفتوا ألف لعنة على روح أبوه اللي ميوخر من هنا .. بالله عليكم هي هاي عملة تعملوهه..

ضاعت صيحات سبع وسط هياج الناس الذين بدت وجوههم تتلون بالأحمر والأصفر وهم يتابعون بداية المباراة التي أظهرت كلا من المصارعين وهما يدوران في حلبة المصارعة كأنهما دبان كبيران ولم تمض إلا عشرة دقائق فقط من عمر المباراة حتى أعلن مذيع الحفل انتصار المصارع العراقي على منافسه الكندي بالضربة القاضية الفنية ومعلنا انتهاء المباراة مما صعّد من غضب الناس، فقد تدحرجت الكراسي ونامت المناضد على الأرض وتهشمت كؤوس الشاي وكنت أسمع بعضهم يصرخ :

- هي هاي مصارعة لو كلاوات ؟

بينما تعالى صوت الملا :

- ألعن أبو اللي جابكم !

لم يكن أحد منا يستطيع أن يفسر كلام الملا، لكننا عرفنا في النهاية أنه يقصدنا لأن رواد المقهى جعلوا عاليها سافلها وتفرقوا كأنهم كانوا مشاركين بتظاهرة كبيرة، التفت ناحية مقهى سبع الذي لم ينج هو الآخر من هذه الفوضى وسمعته يقول لأحد الأشخاص :

- كان فكري أجيب تلفزيون للكهوة عمي هذا مستحيل من شفت هاي الهوسة .. مكيف الملا عنده تلفزيون ..

عندما بدأت نجوم الليل تنشر أضوائها على ساكني حي الطوبجي الذين صعدوا الى سطوح منازلهم اتقاء حر صيف بغداد اللافح، ناموا جميعا ولم أنم ليلتها فقد كنت أضحك في سري وأنا أحلق بعيدا مع النجوم علي أشاهد بعضها تتصارع أيضا لكنني وجدتها تقترب من القمر لتقبله .

 

قصة قصيرة .

أحمد فاضل

 

.......................

* القصة واحدة من مجموعة قصص تدور كلها في حي " الطوبجي " الذي شهد مرتع صباي وشبابي رحلت عنه مجبرا بعد ان ضاق بنا المكان ولم أضق فيه فهو قطعة من الروح يتسلل إليّ يوميا ليعيدني الى الحياة .

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2038 الاربعاء 22 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم