صحيفة المثقف

درس البجع / وديع شامخ

قرابة ساعتين عبرالطريق البري السريع . بعد وصولنا الى هذا الساحل الجميل، حيث يتناغم جمال الطبيعة وتنظيم الإنسان معا ..

تنزّهنا وتمتعنا وأكلنا وشربنا ولهونا .. وأخذ كل منا حصته من النزهة وفقا لمجموعة خيارات متاحة للجميع من الأطفال الى الشيوخ . وبرغم سعادتنا بقضاء وقت رائع لكن الذي ظل عالقا في ذاكرتي، هو الدرس البليغ الذي رأيته في تمام الساعة الثالثة عصرا من ذلك اليوم، حيث لاحظت حركة غير طبيعية من المتنزهين، إذ بدأت جموع الناس تزحف الى منطقة تحاذي النهر وتشكّل نصف دائرة تتخللها مدرجات حتى الوصول الى باحة محصورة لا تتعدى مساحتها الأمتار، تكون بمواجهة الجمهور وخلفها البحر . المساحة هذه كنت أتوقع أن تحتلها فرقة موسيقة أو أيّ نشاط سياحي آخر كالموسيقى والرقص أو الألعاب .. الخ

ولكن الذي رأيته قبل بدأ الحفل فاجأني تماما .. فقلت لصاحبي الخبير ودليلنا السياحي عن أمر الناس، فقال : سأتركها مفاجأة لك لترى طقسا غاية في الإدهاش..

قلت : هل تعني حضور مشاهير هنا او أيّة ألعاب نارية غريبة أم هناك مسابقات وغيرها .

قال : مهلا أيها الصديق سترى، لم أفسد عليك المتعة.

ذهبت الى موقع الحشود البراقة واللماعة والفرحانة والمتألقه والمبتسمة، فوقع نظري على ثلاث نساء بزي موحد يعملن كخلية نحل وكأنهن أمام مهمة مقدسة أو استضافة شخصية مهمة جدا .. رأيتهن يرتدين زيا مميزا مكتوبا عليه " فريق عمل البجع".. وقد توزعن لمهمات مختلفة .. الشقراء الصغيرة كانت تحمل أكياسا بداخلها لعبا تمثل لعبة طائر من فرو يشبه البجع بسعر رمزي، والأخرى تحمل أناءً لجمع التبرعات من الجمهور .. وأما الثالثة فقد أحضرت سمكا وبدأت بتقطيعه الى قطع صغيرة وتضعه في إناء بلاستيكي كبير .

ثالوث جمالي .. إنساني ..

 حتى جاءت سيدة رابعة في خريف العمر .. وهي تحمل مايكرفونا لترحب بالجميع وتقدم معلومات عن طيور البجع، ومن أين أتت الى إستراليا .. وخصائص هذا الطائر وبعض المعلومات المهمة عنه .

 حينها قلت لصاحبي : هل هذه هي المفاجئة التي خبأتها عني ؟؟

رد بصوت حميم : لا تستعجل يا رجل .. وبينما نحن في جدل عن المفاجأة وسواها..

 أمطرت السماء أسرابا من طيور البجع، حطّت على المدى الأقرب لتجمع الجمهور، فأزددت حبورا لإني لم أرَ البجع ومن هذه المسافة القريبة جدا سوى في الأفلام الوثائقية ..

أتت السيدة التي إنتهت من تقطيع السمك لتحتل موقعا وسطا وتعلن إستعدادها للنسوة الأخريات بإشارة جميلة .. وحين إكتمل الترتيب البشري المنظم .. جاء سرب من البجع ليحتل المساحة الصغيرة أمام سيدة السمك، فبدأت برمي قطع السمك ذات اليمن وذات اليسار فتقافزت البجعات لإلتهام القطع بمنافسة شريفة قلّ نظيرها عند بني البشر، وعندما توقفت سيدة السمك عن الإطعام طار السرب بأنتظام وأقعى على الماء، ليأتي سربا آخر ليأخذ حصته من السمك .. وهكذا تبادلت الأسراب حظوظها في إلتهام السمك والعودة الى الماء، والغريب في الأمر، وحين إنتهاء السمك تماما .. ودعتنا البجعات طائرة راضية برزقها اليومي .

وبدأ الانسان المحب لبيئته وطبيعته وطيوره وسمائه وبحاره، بالتبرع بحبور للمحافظة على حياة هذا البجع المؤدب والمتحضر جدا .. وهناك كان الحشد يشتري دمية البجع بحبور .. لقد كان الناس على إختلاف ألوانهم ودياناتهم وقومياتهم وأعراقهم وأنسابهم ينتظمون في لحظة جمعية رائعة لنصرة الطير والطبيعة والإنسان معا .

..........

 

الحشد بين العاطفة والعقل

دُهشت حقا لهذا الإنضباط العجيب لطيور البجع .. إنفعلت وأنا أرى عظمة التنظيم والتناغم الهارموني بين الإنسان والطبيعة والطيور وسواها .. طيور تملك هذا الطقس اليومي الجميل ..

لم أفق من دهشتي إلا حين جفّف الصديق الدموع الحارة التي إنسابت من صنابيرها .. دموع ترسم لي ذاكرة مخيفة عن الإنسان في العراق التي تؤشر بسبابتها الى الوحوش العراقية من ساسة وتجار موت الى رجال دين وهم ينتظمون دوريا لقتل الحياة العراقية، والإبحار بها الى عالم من الفوضى والهستريا الجمعية ..

لقد أصبح الإنسان العراقي وهو داخل الحشد كائنا إنفعاليا كما يقول العالم النفسي الشهير سيغموند فرويد في كتابه المهم " علم نفس الجماهير وتحليل الأنا" تقديم وترجمة جورج طرابيشي،اذ يقول " جعلنا نقطة إنطلاقنا فيما تقدّم الواقعة الأساسيّة المتمثّلة في أنّ الفرد، المنخرط في جمهور، يتعرّض تحت تأثير هذا الجمهور لتغيّرات عميقة تطال نشاطه النّفسيّ. فعاطفيّته تتضخّم تضخّما مسرفا، بينما يتقلّص نشاطه الفكريّ وينكمش. وتضخّم الأولى وتقلّص الثّاني يتمّان باتّجاه تماثل كلّ فرد في الجمهور مع سائر الأفراد. وهذه النّتيجة الأخيرة لا سبيل إلى الوصول إليها إلاّ بإلغاء جميع أشكال الكفّ الخاصّة بكلّ فرد، وبالعزوف عمّا هو فرديّ وخاصّ في نوازع كلّ واحد، ونحن نعلم أنّ هذه المفاعيل غير المرغوب فيها في كثير من الأحيان، قابلة للتّجميد، جزئيّا على الأقلّ عن طريق تنظيم الجماهير. لكنّنا بتوكيد هذا الاحتمال لا نمسّ من قريب أو بعيد الواقعة الأساسيّة المتمثّلة في تضخّم العاطفيّة وانخفاض المستوى الفكريّ لدى الأفراد المنخرطين في الجمهور البدائيّ، المطلوب إذن الوصول إلى التّبدّلات النّفسيّة التي يحدثها الجمهور في الفرد".

كم كان درس البجع بليغا جدا في وجود الإنسان الفاعل في الحشد ؟؟؟

كم كان الحشد الأنساني يراهن على وجود العقل قبل العاطفة ..

كم هو رائع العقد الإجتماعي الإنساني الذي به تذوب الأنا والهستريا الفردية لصالح التناغم الهارموني الجمعي .

إنه درس البجع ودستور الحشد المدني .

فمتى يصحو "السادة" في العراق من النوم و الإنفلات والهستريا الجماعية،وتركهم سفينة العراق تتلاطم في أمواج المجهول .. ؟؟

  

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2038 الاربعاء 22 / 02 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم