صحيفة المثقف

الثورات الجديدة وفلول الأنظمة المتهاوية .. البُعد الإجتماعي للدكتاتوريات العربية / علي السعدي

يتم اختياره إثناء الأزمات بانتداب من مجلس الشيوخ ولمدة لا تزيد عن سنة يتمتع فيها بصلاحيات واسعة وفق ما عرف لاحقاً بالأحكام العرفية،على ان تنتهي صلاحياته بانتهاء مهمته ويؤدي في ختامها كشف حساب عن إعماله إبّان تلك الفترة (تكوين الدولة – روبرت ماكيفر – ص 280) ويذكر التاريخ ان أول دكتاتور عين بهذه الصفة هو القائد العسكري الروماني (سنستاتس) في 465 قِ/م الذي انجز مهمته في ستة أشهر ثم تنحى عن منصبه،أما أطول فترة حكم لدكتاتور، فقد نالها يوليوس قيصر الذي حصل على صلاحيات مطلقة لمدة عشر سنوات بداية ومن ثم تحولت إلى مدى الحياة، وبالتالي يكون القيصر هو أول من حصل على تكليف بهذا الشكل ستعرفه الشعوب العربية لاحقاً تحت شعار (قائدنا إلى الأبد) مع اختلاف سبل الوصول إلى السلطة وان تشابهت نهايات البعض في الموت قتلاً  .

وهكذا يظهر التاريخ ان الدكتاتوريات نشأت بالأصل من الديمقراطية ذاتها، ذلك لأن الديمقراطية في أهم وجوهها تعني حرية الفرد في المجتمع وحرية المجتمع في الاختيار، ولأن الحرية بصفتها هذه قد تؤدي الى نوع من الفوضى حيث سعي الفرد لتحقيق الذات قد يصطدم من ثم بالذوات الأخرى الساعية بدورها لممارسة حريتها،لذا ينشأ اللانظام في المجتمع، خاصة في بداية تجربته الديمقراطية، وكلما تعثرت مسارات الديمقراطية، تزداد تبعاً لذلك مظاهر الفوضى، ما يستدعي من المجتمع أو من انتخبهم كممثلين عنه، ان يلجأوا إلى تكليف شخصية يرونه مناسباً لضبط الأمور والحدّ من الفوضى مزّوداً بصلاحيات استثنائية، ما يتطلب بدوره خفض مناسيب الحرية وإن لفترة محددة كما سبق ذكره  .

قد تكون الدكتاتورية في المجتمعات الأخرى، مجرد حكم فردي تزول كظاهرة بانتهاء عهد صاحبها ولاتترك بالتالي انعكاساً عميقاً يمتدّ الى مابعده، انها بمثابة مرحلة يمرّ بها شعب أو تذهب إليها امة في ظروف محددة،الدكتاتور على هذه الشاكلة،هو قائد يمتلك من الميزات مايجعله بطلاً منقذاً بنظر شعبه، ويستمر بهذه الصفة، طالما كان قادراً على أداء  المهمات التي اختاره الشعب من اجلها لفترة معلومة، لذا  فحكمه يستند الى مرتكزين أساسيين : ثقة شعبية،ومواصفات فردية، وهما يعملان معاً فلا تكتمل أحداهما دون الأخرى  وبالتالي ففقد ايّاً منهما يحوله من قائد منقذ، إلى طاغية مستبد .

تلك هي الظروف التي شهدت ظهور الدكتاتور في بعض الأمم والشعوب الأخرى كما أوردها التاريخ، أما عند العرب (1)  – خاصة في عصورهم الحديثة -  فإن الدكتاتورية ليست حكماً فردياً وحسب، انها منتوج اجتماعي بامتياز، تستمر مفاعيله حتى بعد زوال الدكتاتور ذاته بقتله أو سجنه لذا  يرتبط  مصطلح الدكتاتورية بمعنى للحكم لا يحدّه عرف ولا يضبطه قانون،إنه الكلمة القدر التي من شأنها تحديد منسوب الحياة بشكلها ومضمونها وأيقاعاتها، للشعب كما للإفراد .

ان تحليل ظاهرة الدكتاتوريات العربية عبر تاريخها منذ نشوء الدولة العربية الأولى بثوبها الديني،تظهر ان المجتمعات العربية ذات التراكيب البسيطة،لم تكن تألف الحكّام المستبدين في حياتها القبلية، ربما لأنها عاشت بمعزل نسبي عن تأثير الدول الكبرى التي قامت في كلّ من وادي الرافدين ومصر،حيث يمجّد الحاكم باعتباره إلهاً او إبن إله،وبالتالي سيادة الفكرة القائلة بان الحاكم مختار من الآلهة وهو مقدس لاتجوز مخالفته أو التمرّد عليه، وإن كانت خصوصية الجغرافيا العراقية وانعكاساتها على المجتمع، جعلت فكرة الحاكم المقدّس،تعيش وضعاً دائم الاضطراب  بين محاولات فرضها بالقوة،أو رفضها بالتمرد .

كانت البيئة المناسبة للطاعة عند العرب، هي ما لمسه واستخلصه الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان عندما كان والياً على الشام، ويعتبر معاوية هو المجسدّ الأول  لأسس الإستبداد في التاريخ العربي،  لقد أدرك  ان بلاد الشام ذات المدنية القديمة، هي الأكثر ملائمة لفرض فكرة الطاعة الموصى بها إلهياً (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) المألوفة بدورها عند الحضارات القديمة في وجوب الطاعة للملوك وولاتهم المنتدبين.

المدينة بما توفره من تهيئة اجتماعية صالحة لتطبيق القانون بما فيه من ضبط وسيطرة،بحكم تجمّعاتها السكّانية في بقعة جغرافية محددة من جهة، وميل أهلها إلى الاستقرار بأنماط  عيش تتطلب التعاون وتبادل الخدمات من جهة أخرى،لذا كان طبيعياً أن تنتقل عاصمة الخلافة الى دمشق قلب بلاد الشام التي عرُف أهلها بممارسة التجارة والصناعات بمختلف أنواعها إضافة الى خصوبة أرضها الصالحة لأنواع من المزروعات مع اعتدال مناخها ووفرة أمطارها،وعلى ذلك لم تكن بلاد الشام تعيش تلك الصر اعات الحادّة بين المدنية والبداوة كما هو حال العراق على مايذهب علي الوردي .

لقد بقي التناقض في العراق متواصلاً منذ فجر التاريخ، بين الطغيان والفوضى سياسياً، وبين مدنية مزدهرة عمرانياً وحضارياً،وبداوة منفرة سلوكياً، لذا ففيما استقرت الأمور للأمويين في بلاد الشام مع إرساء نظام إمبراطوري يجسّده خليفة مطلق اليد، جاءت الثورات ضدهم من الأماكن التي لم يألف أهلها السكون المطيع كالجزيرة والعراق بشكل رئيس .

لم تكن البيئة القبلية ونمط العيش عند العرب، تمكّن من ظهور الحاكميات المطلقة، لذا لم تشهد الحياة العربية قبل ظهور الإسلام سوى مملكتين صغيرتين (المناذرة في العراق، والغساسنة في بلاد الشام) كانتا بدورهما خاضعتين للإمبراطوريتين السائدتين آنذاك (الفارسية والرومانية)،

أما الممالك التي شهدتها بلاد اليمن مثل سبأ وحميْر وما ذُكر عن الملك الأسطوري سيف بن ذي يزن، فهي كذلك لم تتمكن من فرض سيطرتها سوى على مناطق محدودة، فيما عاشت بقية القبائل العربية، على أعراف أفرزتها طبيعة الحياة نفسها،وأوكلت من ثم أمر الالتزام بها إلى القبيلة بكلّ أفرداها،وان انتدبت من بينها (ملك) كان بمثابة قائد يستمر حكمه طالما تمتّع برضى أفراد القبيلة ويمتلك من المواصفات الشخصية ما يؤهله لذلك كالحكمة والشجاعة والكرم وماشابه .

الدكتاتورية إذاً،هي ظاهرة مدينية تنشأ وتنمو حيث القدرة على الامتلاك والفرض، فيما تشهد الأرياف ظاهرة ملاكي الأرض (الإقطاع) الذين يشكلون بدورهم سلطة مطلقة على العاملين لديهم وكانوا في العادة يشترون أو يرثون إقطاعيات الأراضي الزراعية وفلاحيها الذين يصبحون بمثابة مُلكاً بدورهم طالما استمروا بالعمل لديهم، لكن الفلاح يبقى حرّاّ بنسبة ما،إذ بإمكانه الحصول على قسم من المنتوج المتحصل من زراعة الأرض قد يعادل الثلث أو الربع كبديل عن جهده .

لقد عرف العرب معنى الدكتاتوريات بمفهومها الحديث، ابتداء من خمسينات القرن العشرين، حيث جاءت طريقة الاستيلاء على السلطة بما يشابه مثيلها في الموروث العربي في الإستبداد، بدءاً من الحكم الأموي الذي استند في إدامة حكمة ومن ثم توريثه إلى قوة القمع من جانب والفتاوى الفقهية من جانب آخر، انطلاقاً لمقولات من نوع :

"كما تولوّن يولى عليكم " – و" من قويت شوكته وجبت طاعته " لذا فحين تمنح المقولة الأولى بُعداً اجتماعياً للطغيان، تعزز الثانية استخدام القوة وتلبسها ثوباً دينياً ملزماً .

لقد صنّف أفلاطون في جمهوريته، خمسة أنواع من البشر طبقاً لأنواع الحكومات الخمس بدورها،ففئة الساعين الى المجد والتفوق الفردي يقابله الحكم التيموقراطي، وأصحاب الفضيلة والقيم السامية يقابله في الحكومات (الإرستقراطية)، أما الساعين الى جمع الثروات باعتبارها القيمة الأكبر للإنسان، فيقابلهم الحكم الأوليجاري، فيما الشخص المؤمن بالحوار وتعدد الأراء، كما في النظام الديمقراطي، في حين يكون المستبدّ برأيه،مقابلاً للنظام الشمولي أو الطاغية، ويذكر المؤرخون أن أول من استخدم كلمة طاغية هو ارخيليوس الشاعر اليوناني وقد وصف بها ملك ليديا اليونانية (جيجز) الذي استولى على الحكم بانقلاب أطاح فيه بملكها السابق - كما يورد إمام عبد الفتاح إمام  في كتابه ( الطاغية ) ص25 -  أما وول ديورانت في قصة الحضارة المجلد 6 ص225، فيوعز مصطلح (طاغية) الى اشتقاق من كلمة ليدّية قد تعني (القلعة) .

وهكذا اشتق العرب  من تلك المفاهيم، مقولات تبرر الطغيان بإعطائه بُعداً اجتماعياً ودينياً كما أسلفنا، فأفتوا مسبقاً ان ولاة العرب وحكّامهم، هم من صنفهم بالضرورة، ذلك لأن العنصر العربي لاينتظم الا بالقهر والإكراه، وإلا فالفوضى والتمرّد .

ذلك ماورثته الدكتاتوريات العربية التي استولت على السلطة بانقلابات عسكرية بدءاً من مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، ليشهد العرب في حياتهم المعاصرة بعد تشكل كياناتهم الحديثة، نمطين متشابهين من الحكّام : الملوك والأمراء الطغاة، أو الدكتاتوريين العتاة، وفيما حصل الصنف الأول على السلطة بمساعدة قوى خارجية، وصل النوع الثانية بالقوة المحلية، ليطاح بهم من ثم، بعضهم بتدخل عسكري خارجي، وبعضهم بثورات شعبية،لينتج عن ذلك ديمقراطية ماتزال تترنح تحت مفاعيل الفوضى من جهة، وضربات فلول الأنظمة المتهاوية من جهة أخرى .

وكما تفرز الدكتاتوريات أجيالاً معادية لها، فأنها تربيّ بالمقابل أجيالاً مرتبطة بها، لتشكّل بالنسبة لها مصدري القوة والشرعية على حدّ سواء، لذا عندما يسقط الدكتاتور بشخصه، فأنه يستمر بمفاعيله كبنية إجتماعية تبحث عن إثبات حضورها مستغلة أجوا ء الحرّية، وأحوال الفوضى التي تشهدها بدايات نشوء الديمقراطية، بل وتساهم في نشرالفوضى كجزء من العمل لتصوير الفارق بين النظام والضبط السابقين، وبين مايحدث في ظلّ الديمقراطية غير الصالحة في مجتمع لا يولّى عليه الا من  شاكلته  .

على ذلك تستمر فلول صدام ومبارك والقذافي وغيرهم، بإثارة العنف والدفع نحو الفوضى، أملاً بظهور دكتاتور بديل يضع حدّ للانفلات الناتج عن الديمقراطية .

لكن الخطر على الديمقراطية لا يأتي من بقايا الدكتاتوريات المتهاوية وحسب،بل قد تخلق الديمقراطية دكتاتورها الخاص كما سبق ذكره، وهو ماتظهر مؤشراته في أكثر من موقع،خاصة في العراق حيث أول سقوط للدكتاتوريات، وأول ديمقراطية ترافقها الفوضى،لكن موضع الشكوى في التعدد المجتمعي والسياسي للعراق الذي أنتج ماسمي ب(المحاصصة) وما تسببه من أزمات متكررة، قد تكون من العوامل التي تحصّن العراق من ظهور دكتاتور جديد،ذلك لأن الديمقراطية هنا، بدأت تكيّف نفسها على واقعها ومن ثم التعايش مع الأزمات، خالقة في الوقت عينه مجالات لتحديد نقاط الفوضى وآليات تجاوزها، رغم تجاور بداوة السلوك ومقومات التحضّر في المجتمع العراقي، التي مازالت تلقي بمفاعيلها على السياسة وأساليب ممارستها  .

اما في بقية البلدان العربية المنتصرة ثوراتها، كمصر وتونس – وليبيا لاحقاً - فقد أفرزت انتخاباتها قوى جاءت بتغطية اجتماعية إضافة إلى دعاواها الدينية وإمكاناتها المالية،مايجعلها خليطاً من اوليغاركية ثيوقراطية على ارستقراطية استبدادية،ما قد يوفر حاضنة مناسبة لإعادة مقولة ( كما تولون يوّلى عليكم ) أنفة الذكر، فيما تبقى قوى التغيير الديمقراطي النشطة، تميل إلى نوع من (الفوضى) هي الأخرى- وإن بأهداف مختلفة عمّا تفعله (الفلول)- وذلك إلى إن تستقيم الديمقراطية لترسي من ثم قواعدها الخاصّة .

 

..................

(1)  لايقتصر ظهور الدكتاتوريات على العرب وحدهم، فهناك الكثير من البلدان في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وأوربا، شهدت كذلك انقلابات عسكرية أدت إلى أنظمة دكتاتورية .

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم